سرديات عودة
الفصل الثالث من رواية "سلالم النهار" للكاتبة فوزية شويش السالم (الأربعاء 5 ك1 2012)
التعليق
فهدة
سُميتُ فهدة..
كان توأمي يريد اقتسام المساحة في ذاك الرحم المشترك بيننا..
ذاك البرزخ الضيق الساكن في المياه المترجرجة.. في تلك العتمة الممتدة على طول شهورها التسعة.
الرهينة أيامها ولياليها في حبس ذاك المضيق الذي لم يتسع لكينونة روحين وجسدين يتصارعان على الفوز بماء الحياة وأكسجين الهواء المذاب في المياه الجنينية، ومساحة لا تكفي للتمدد والحركة والراحة.
التمدد والحركة كان لابد منهما فهما من دواعي البقاء وصيرورة النمو في هذا الفراغ المزدحم بجوهر الخلق المتصارع عليه، في خندق حياة لا تحتمل التواضع ولا الإيثار ولا المجاملة.
أن تحيا.. وأن توجد في حياة تنمو وتتكاثر وتقوى، يجب أن تدوس من تحتك ومن يزاحمك في المكان، ومن يقاسمك ويشاطرك ماهية الحياة والوجود.
أن تنمو يجب أن تتغذى على كل تلك الطحالب التي تعوم في مياهك وتزاحمك في اصطياد فرص الاكتمال والحضور..
تلك الطفيليات التي لا لزوم لها، والتي وجودها بحد ذاته ليس إلا تطفلا وعبئاً على الحياة.
لذا كان تطوري هو الأجدر والأنسب لها من توأمي الغرير الغافي في غشاوة غفلته ورقة تكوينه وكينونته الهشة..
الحياة تنحاز للقوي وتفضل المتين..
الرحم الحاوي لنا انحاز إلى ماهيته، للنطفة المنتوفة من جنسه، من العينة ذاتها التي استزرعت فيََ لأكمل دورة حياته المسلسلة في إناثه.
ربما يكون الاختيار والانتخاب هذا مرتباً له بخبث لا تُدرك تفاصيله للوهلة الأولى..
من الصرخة في بدايتها وبدائيتها في فرض حضورها المتجلي عند الولادة.
النتائج بحاجة إلى زمن تُختبر فيه عواملها، حتى تصل إلى خبرتها وحكمتها، التي قادتها إلى تفضيل هذا على ذاك، الحياة وحدها تدرك من هو المستحق أن يحيا فيها.
الفائز فيها بجدارة هو من يأكل الضعيف، من يقصيه من أمامه، من يستفرد بالحصة كلها، من يستولي على الوجود كله، من يكون أهلا له، وجديرا بعنفه وقسوة صلابته.
هكذا خُلقت أنا..
وهكذا فطس الذكر.. توأمي.
لآتي أنا الأنثى إلى عالم عنيف وواقع يميل بطبيعته إلى عنف الذكورة الهش، الذي يخاف من انحياز رحم الحياة إلى نطفتها المزروعة في كل رحم.
لذا تبقى الإناث ويفنى الذكور..
يبقى العمر الأطول لهن، وبيوت الأرحام تفضلهن، والحياة ذاتها تمنحهن الفرصة الكبرى في التواجد والوجود في طبيعة تنحاز لاختيار الأكثر صلابة، وقوة واستمرارية في أصعب الاختبارات وأقسى الظروف التي يتعب فيها الطرف الآخر ويتخلى بسهولة عن موقعه.
لهذا اختارتني الحياة لأتي إلى هذا العالم وأكون آخر من يرحل ويغيب عنه بعد رحيل كافة أخواتي وإخوتي.
– نسميها فهدة.. لأنها قوية وشرسة وافترست تؤمها أخي.
صوت خالي الصغير "صقر" أو من سيكون خالي بعد 28 سنة من ولادة أمي التي يتشاورون الآن في اختيار الاسم الذي سيطلق عليها، والذي سيلتصق بها حتى كفنها.
– لا.. نسميها نسره من بدايتها جارحة، ومن حدة صوتها وصراخها، وأصابعها التي تخربش الهواء، كأنها تتعارك معه، هب ما أقواها باين عليها قوتها من بدايتها.
صوت خالي الكبير بطاح وتعليقه على مولد أمي واقتناصها لفرصة الحياة كلها، وتمكنها من إزاحة عثرة كانت ستضعف من فرصتها في المجيء المكتمل.
فظاظة خالي "بطاح" ستنطوي كلها تحت إمرة أمي بعد 25 سنة من ولادتها في تاريخ 17 مارس 1967 وستتمكن من الاستحواذ على لقب كبيرة العائلة ورأس المشورة عندها بدلا منه.
– نسميها فجعانة من لحظة نزولها وهي تمص أصبعها، من مولدها وهي فجعانة.
صوت خالي الأوسط "مرداس" الوحيد الذي حدس طبيعة الجوع لدى أمي، جوع حكت لي الكثير والكثير عنه، جوع أزلي لم أدرك كنه ولا رأس الفوهة التي يندفع منها، أمي معاناتها الأساسية في وجودها هو جوعها السري الدائم والأبدي.
– لا خلاص نعتمد ونسميها فهدة لأنها سمراء وعيونها صفراء مثل فهد، بس إن شاء الله ما يطلع لها أظافر.
هذا صوت خالتي "صيته" التي يأتي مولدها قبل خالي الصغير في سلسلة عائلة أمي التراتبية.
صيته هي الأقرب والأحب إلى قلب أمي دون كل أخوتها، وهي مفتاح أسرارها التي أعرفها والتي لا علم لي بها، وإن كنت أتمنى طوال عمري أن أكون القفل والمفتاح.
– خليه يولي هذا الولد الغشيم الغارق في مائه، لو كان فيه خير ما خلاها تتغذى عليه، تكبر هي وهو يروح فطيس.
هذي فهدة، أقوى من فهد.. أحببتها يا يمه، هذي فهدتي التي راح أعلمها وأدربها على كل الحيل وأحابيل صيد العصافير وكل ألعاب الصبيان. صقر أو صقوري هو أصغر أخوتي ويكبرني بأربع سنوات، وبرغم هذا الفارق العمري الصغير الذي بيننا إلا أنه كان له الدور الريادي في تدريبي وتعليمي على ألعاب الصبية، وعلى التسكع في السكيك والشوارع من دون وجل أو خوف أو خجل.
حياة الأزقة والشوارع علمتني مواجهة الحياة بصفاقة وفجاجة، ومقابلة الأذى بذاته..
من عينه وعينته وطينه، فالشراسة لا تقابل بالاسترحام وطلب العفو والاسترضاء فهذا ضعف لا يولد إلا مزيدا من الافتراء والاضطهاد والاغترار بقوة كذابة، يقابلها من الطرف الآخر مزيد من الشعور بالجبن والغبن وإعلان راية الاستسلام.
الشارع وعر وتزداد وعورته مع هؤلاء الصبيان المتشردين والمتعلمين والمتدربين على كل أنواع التصعلك الفالت من قواعد وأخلاق التربية المثالية، ولم ينالوا حتى الحد الأدنى منها.
أطفال شوارع بجدارة، تربوا على قوانينه وصقلتهم دروسه وانخرطوا في فرامته التي لا تحن ولا ترأف.
في هذه الشوارع، عشت وتعلمت وتربيت، ومنها اكتسبت تشكل ملامحي الأولى، واستقيت تفاصيل تركيبة شخصيتي.
من شوكها وشراسة قانونها وعنف شِراكها المدسوسة كلغم عند كل ألف وباء من شروط التعلم في مدرستها، تعلمت ونمت أظافري، وشرست طباعي وانكشفت أمامي أضابير وملفات الأكاذيب وصور الاحتيال وطرق النصب وعدتها.
العلم في الصغر كالنقش على الحجر، وكان حجري طيعاً له خاصية المرونة والسهولة، لذا تمكنت من فهم قواعد اللعب كلها، ليس في الشارع وحده، ولكن مع الحياة كلها.
معرفة قوانين حياة الشوارع تمنح القوة والصلادة والقدرة على التكيف مع أقصى الظروف وأتعسها، وهذه نعمة عظيمة في ظل نظام معيشة لا يعرف الثبات..
معرفة ذات حدين أو وجهين المفيد منها هو الصلابة والمقدرة على مواجهة الصعوبات والمحن، وقراءة سلوك وطباع الشخص الآخر، ومواجهته بما يصلح له ويردعه في الوقت المناسب.
أما الوجه الآخر في هذا العنف الدائم والوعي المستيقظ، المنتظر للهجمة القادمة، لمعركة تقف على حافة الانتظار.
وعي الذئب الذي لا يعرف كيف ينام.. كيف يهدأ ويطمئن ويدرك نعيم الراحة.
الشوارع لا يشبه بعضها بعضا، وكنت أظنها في طفولتي متشابهة، وكلها على شاكلة حوارينا وأزقتنا التي نسميها شوارع، وندرك كل تفصيلة صغيرة فيها وكل مستنقع مياه آسن، وكل بلاعة مسروقة فوهتها وطافحة بالروائح مجاريها. وكل رصيف ضاعت وتشوهت معالمه وتحللت أطرافه من هول المواد الكيماوية التي اختلطت فوقه، ومن كل ما تبقى من خلطات الأسمنت العشوائية، والأصباغ المتبقية مع الأخشاب العطنة والمضروبة، وكل تلك الفضلات العطنة المتخلفة من "البسطات" التي تبيع الأسماك واللحوم والخضار المنتهية صلاحيتها والتي يشارك في بيعها أخي بطاح وأصدقاؤه الآسيويون وأقاربنا "البدون" الذين ُتغير عليهم شرطة المدينة بين فترة وأخرى لتدمر وتبعثر كل رزقهم في حال فشل جواسيسها المبثوثين في الأركان والزوايا في إبلاغها عنهم في الوقت المناسب قبل حدوث الغارة.
شوارعنا ليست لنا وحدنا نحن البشر، فهناك من يشاركنا في العيش فيها من الحمير التي تستخدم في نقل مواد عديدة ولها فوائد كثيرة، وهناك الخراف والماعز التي تربي في المنازل حتى ترتفع أثمانها وتباع في مناسبات الانتخابات والزواج والأعياد.
المخلوقات هذه لها الحرية الكاملة في التجول في الشوارع وأكل كل ما تراه صالحا للأكل من مخلفات الطريق، تتفسح بأمان مطلق في شوارعنا التي يخافها أهل المدينة وتبدو لهم مثل مجاهل أفريقيا أو غابة مجهولة، من يدخلها مفقود ومن يخرج منها مولود أو كتبت له حياة جديدة.
الشوارع المخيفة للغير ليست مخيفة لسكانها بل هي لهم في غاية الأمن والأمان، هي غابة للغير فقط.
كل مخلوق فيها معروف أصله وفصله وكل أسراره وحتى ماذا يوجد في قدر عشائه، وماذا تناول في غدائه، لا شيء يضيع أو يُسرق منه، لا عجلات سيارة ولا دراجة ولا بضاعة في أصلها مسروقة، ولا خراف أو دجاجات أو بطات في طريقها متجولة.
كل مخلوق مؤمًن وآمن، وكل منهم يعود في نهاية يومه إلى مقره ومسكنه، بما فيهم القطط السائبة والفئران الفائضة، وأسراب الذباب، والجعران والخنافس وأصناف الحشرات، كل المخلوقات تعود إلى مكامنها..
شوارعنا تمتزج فيها الروائح والنكهات المتصاعدة من أواني القلي المنصوبة في زوايا السكيك والدروب.
كل ما جادت به العادات الآسيوية من نكهات هندية وصينية وبنغالية وكورية وباكستانية وفلبينية وإيرانية، وتايلندية وصومالية وحبشية ومصرية وكردية، تتصاعد تقاليدها وعاداتها مع بصمة الروائح والنكهات التي تحدد لنا هوياتها.
ونحن أيضا لنا روائحنا ونكهاتنا التي نعدها في بيوتنا بعيدا عن تطفل الشوارع، وإن كنا نتقاسم الأطعمة ونتشارك في أذواقنا التي وحًدها المكان، وجمعها وسكبها في بوتقة واحدة ومنحها هوية خاصة بنا بالرغم من كل اختلافاتنا العرقية والدينية والعقائدية بكل ما تحمله تلك الهجنة بكامل أنواعها وأشكالها من مسلمين شيعة وسنة، ومسيحيين وبوذيين، وهندوس، وبهائيين، وسيخ، كلها ذابت وساحت واختلطت في هوية شوارعنا، حتى أنها أنتجت لغة خاصة يفهما الجميع، وتكلم بها الصغار والكبار وتغنوا بها، فمن مزيج أو خليط الأغاني الصادحة من كل الأحواش المدروزة بأطباق البث التلفزيوني بكل لغات العالم تم تهجين ثقافة خاصة بنا أي أنها وليدة شوارعنا المنتجة لكل ما هو غريب وعجيب وفريد.
هذا لا يعني أنها شوارع مثالية، فهي عكس ذلك تماما، كل حرام فيها صالح للحاجة والعيش فيها حلال مهما كان شكله ومصدره، مسروق، منهوب، مهرب، منتهي الصلاحية وتالف، لا يهم طالما كان بالإمكان أن يؤكل ويعاش عليه.
الأعمال كلها مباحة بما فيها توزيع المخدرات والخمور، واختطاف الخادمات وبيعهن لقواد شبكات الدعارة، والقيام بأعمال السرقة كلها، من سرقة الأفراد إلى سرقة المشاريع الحكومية المتمثلة في الأعمدة والبايبات، وأسلاك الكهرباء النحاسية، وأغطية المجاري وكل ما يمكن نقله وحمله، هذا إلى جانب تزوير الأختام، والمعاملات المغشوشة، ومعارك البلطجة والشغب، طالما يأتي الرزق من بابها، حتى إن كان بابها تدخل منه كل الجرائم والمصائب، فهي في النهاية تفتح بيتا وتطعم أسرة، وهو ما أطعمنا منه أخي صقوري حلالا آتيا من حرام توزيعه للمخدرات والخمور التي ستقوده في نهاية المطاف إلى السجن.
كذلك الأمر مع تاكسي أخي بطاح الذي سيطعمنا ويكسينا من مرابحة لحم الدعارة التي يقوم فيها بدور الخطاف أو الوسيط والديلر لقواد الدعارة.
ومع هذا فشوارعنا تنظر باحترام وتقدير لكل من يعيش فيها، فكلهم قبضايات وجدعان، يتآزرون ويقفون بعضهم بجانب بعض عند الشدة، والشدة تعني غالبا مواجهة الحكومة وغاراتها الاستطلاعية.
النساء والبنات محفوظات من كل تحرش ومن كل إساءة أو بذاءة في القول أو الإشارة أو الفعل.
فكل واحدة منهن تابعة لأخ أو صديق أو رفيق، والشرف مصون ومدافع عنه حتى وإن تواجدن خارج المنطقة أو بعيدا عنها، فكلٌ ستر على أخيه.
النساء دائما يعشن في صيغة تعاون، أعمال منزلية وشركات تعاونية أسرية تنتج كل ما تستطيع عقولهن التفكير فيه، وكل ما تقدر عليه جيوبهن وتصنعه أيديهن.
لا توجد مهنة ما تصعب عليهن أو لا يقدرن عليها، فكلمة لا غير موجودة في قاموسهن الذي يشمل إدارة منازلهن ورعاية كل من فيها، وذلك يتطلب توفير المال اللازم لتلك الرعاية.
الـمال يأتين به عن طريـق قيـامهن بكل تلك الأعمال التي يتفتق عنها تفكيرهن مهما كانت نوعيتها وشكلها طالما هي باب يأتيهن بالنفع والفائدة.
تتنوع مصادر المنفعة، هناك التفصيل والخياطة وبيع المنتجات على المشاغل الشعبية الرخيصة، أو خياطة أثواب الصلاة والأحجبة وبيعها عند بسطات الأسواق أو أبواب الجمعيات التعاونية، أو تركيب روائح المشعل وبيعها عند إشارات المرور المزدحمة، والقيام بخبز الرقاق في حفلات الأعراس والمشاركة في تقديم كافة الخدمات المطلوبة.
وهناك أعمال يمارسنها فيها خطورة وتعقبها مشاكل مثل قيامهن بترديد الرحم بعد الولادة وإرجاعه إلى موضعه عن طريق حركة عنيفة تؤدى بالقدم، مما يعقبها في حالات كثيرة سقوط الرحم عن موضعه، أو الإصابة بحالة نزيف للمريضة.
كذلك قيامهن بحفلات الزار وما يتبعها من خطوات لإخراج العفريت أو الجني المتلبس في الحالة المقام لها الحفل والطبل والزمر والرقص.
المهنة السابقة لها ملحق آخر له أهميته ودرجته الكبيرة في زيادة الدخل، ومرغوب من الكثيرات لربحه المضمون ولسهولته، ولزيادة الطلب عليه.
مهنة الشعوذة وقراءة الفنجان وفتح الفال وتركيب السحر باختلاف أنواعه وأشكاله، من ربط الحبيب أو فصله وتخريب حياته أو حياتها أو الكشف عن الغائب والضائع والمسروق، أو إعادة الزوج غصبا عن إرادته لعش هجره بإرادته.
طلبات عديدة لا تٌحصر ولا تنتهي هن قادرات على تحقيقها، إما عن طريق إيمان الطالب بها فتصدق من قوة رغبته بها، أو تنتهي بالفشل وهذا يعود لقوة مفعول السحر الذي شربه المسحور، وفي هذه الحال يكون هناك طلبات جديدة لإبطال قوة السحر الشديدة.
وهكذا يدور العلاج حتى ينتهي بجنون المريض أو إصابته بحالة تسمم أو بشفائه.
في مهنة الطب الشعبي ليس لهن مثيل، فالكحة والتهاب اللوز والسخونة وارتفاع الحرارة ووجع الرأس والبطن والصدر وكسور العظام والتهاب الأذن والعين وكل الأوجاع التي تحل بالبدن لها علاج مضمون بإذن الله وبقدرتهن على التطبيب والشفاء.
حين لا يكون لنا علاج متوفر ولا يحق لنا الدواء مثلهم، وليس لدينا مستوصفات فاخرة مثل التي لديهم، ولا بطاقة مدنية تكفل لنا التطبب المجاني مثل ما يحق لهم، حينها تبرع النساء في اختراع كل السبل لتحييهن وتحفظ حياتهن وحياة أسرهن.
منذ وعيت على الدنيا أدركت أن النسـاء مخلوقات للكدح والتعب ولإراحة كل من حولهن، لا نصيب لهن في الرفاهية والراحة، منذورات لشقاء التعب والقلق والعمل، هذا نصيبهن وهن قنعن به واحتلن للتكيف معه.
خلايا عمل شاطرة، واعية ومدبرة، كل شيء يخلق منه شيء، لا يوجد ما يُرمى في القمامة، فما يُلقى في قمامتهم يجد له مكانا عندنا، ليعاد عزله وفرزه وإعادة تدويره.
زبالتهم تشبههم كما أن زبالتنا تشبهنا.
ما يُلقى في قمامتنا لا يصلح لأي شيء، عُصرت فوائده حتى نشف ضرعها، أما قمامتهم فتجعل من يجلبها يعيش على مردود بيعها لمدة شهر، وأحيانا أكثر من ذلك لو كانت القمامة ثلاجة مثلا أو غسالة أو فاكسا أو طبق إرسال تلفزيوني مع تلفزيون، جهاز كمبيوتر لم يعد يماشي حداثة الجيل اللاحق، هذا غير لوازم وعدة الأكل والمطبخ، أو الموكيت الذي استبدل بالأحدث منه مع الكنبات أو الكراسي أو ممكن طاولة سفرة بكامل طاقمها، والعاب أطفال ملوها بما فيها من دراجات أو سيارة أو حصان تمثل فرح هائل لأطفالنا.
كل ما يخطر وما لا يخطر على البال يُرمى في القمامة.
قمامتهم يجلبها الآسيويون من كنسهم للشوارع، واكتشافهم للقي يعيدون بيعها لنا أو يقومون بتفكيكها وبيعها لدكان ذياب المصلح لكل ما هو خربان أو عاطل عن الحركة والدوران.
في المرحلة الجامعية اكتشفت كم تختلف الشوارع، وأن بعضها لا يشبه بعضها، وأن لها وجوها تشبه قاطنيها، تشبههم ويشبهونها، وأن شوارعنا أو سككنا وحوارينا مفصلة على مقاسنا، تشبهنا ونشبهها، صالحة لنا مثلما شوارعهم صالحة فقط.. لهم.
يومها عرفت أن الشوارع ترسم حيواتها وحيوات كل الذين يمرون بها.
تؤثر فيهم ويؤثرون فيها، تشكلهم ويشكلونها.
شوارعنا الرثة صبغتنا برثاثتها، أو نحن من صبغها برثاثته، من بصمها ببصمته وشكلها بشكله وبقرفه.
تعرفت على هيئات الشوارع التي أصبحت تمثل لي إحدى الملذات الكبرى وواحدة من المباهج السارة..
فحين أسير فيها على غير هدى، ومن دون أي خريطة أو أي مطمح سوى المعرفة والاكتشاف، أراها تمثل حياة جديدة لم آلفها من قبل، ولم تتكشف لي أسرارها المطمورة في عالمها الذي لا ينتمي إلي.
مع نورة تجلت لي كل المعارف الغامضة، كشفت عن مخارجها ومداخلها واغواءاتها وأسرارها وسحر غموضها الباطن.
معرفتي بنورة تعني معرفتي بالشوارع.. فحين تصادقت معها تصادقت مع شوارعها، ومثلما صاحبتها، صاحبت شوارعها.
نورة لم تكن مفتاحي الأول إلى هذه الشوارع، فقد سبقتها إليها تلك القعدات التي يأخذنا إليها الخال عواد للرقص ولإمتاع علية القوم فيها، لكنها كانت شوارع مغرقة ومطموسة في ظلمة ليل الشوارع وتكتمها خلف عباءاتنا والبراقع والخوف من الانكشاف والفضيحة.
مع نورة كنا نجول فيها بكل حرية وأمان تحت ظل الرفاهية والمجاهرة بافتراء القوة والسلطة التي تفتح كل مغاليق الشوارع، وتبيح لنا ما لا يُباح للآخرين.
تقود سيارتها الفخمة، وتقود معها دفة حياتها وحياتي، وهي من يدفع بمؤشر الطريق إلى وجهته الصحيحة التي غالبا ما تكون نورة قد أعدتها وخططت لها مسبقا..
الطاعة والانصياع من جانبي واجب.. والاستجابة تقودنا عادة أولا إلى أحد شوارع الحب التي تنتشر فيها المطاعم بكل تنوعاتها وأشكالها ومختلف أصناف هويات الطعام فيها.
هويات الطعام المختلفة من جميع أنحاء العالم، التي يتراكض ندلها بسرعة البرق لتلبية طلبات الزبائن الجالسين خلف مقود سياراتهم، أغلبهم ملهوف وتواق لسويعات الحب المنتظرة خلف نوافذ شقق الغرام المنتشرة في البنايات والعمارات المكتظة في شوارع الحب المحيطة بها.
العمارات المتميزة بتراصها وبارتفاعاتها المختلفة ومستوياتها المتعددة.
واختلاف جنسيات قاطنيها مابين عرب وأجانب، الذين من السهل الاختلاط بهم والاختفاء بين شققهم.
في هذه المناطق تكاد شوارعها تخلو من المدارس ومن خدمات المجتمع، فما تحتاجه مختلف عن ما تحتاجه المناطق الأخرى.
تقف سيارتنا بجانب سياراتهم، نختار ما نحبه من الأطعمة مثلهم ونغادر بلهفة الملهوف المتعطش إلى النعيم في المبتغى وهي شقة في عمارة فاخرة.
تقودنا خطواتنا التي اعتادت الطريق بمعرفة وألفة قديمة، نسير مثقلين بأكياس وعلب الطعام الحارة المتسرب منها أبخرتها وروائحها اللذيذة الشهية.
نحيي بواب العمارة الذي يفرح برؤيتنا وبالرزمة التي تخصه بها نورة مما حملناه بأيدينا.
اعتدت على انتظار نورة..
وعلى انتهاء وصلة عشقها مع زياد.
اكتفى بالانتظار ومراقبة الطريق وحركات العشاق المفضوحة في تأججها وجيشانها المهرول باتجاه أعشاشها الدافئة.
العشاق هنا يملكون القدرة على فتح بيوت أخرى..
تمنح أوقاتاً من الحب المسروق والمخفي والمطموس في سره البعيد عن الجهر والمجاهرة..
والذي هو عادة مهرَب وصعب المنال في ظل قوانين وأعراف لا تبيح الجهر بالعلاقات المحرمة، ولا تسمح بقيامها خارج منظومة الحلال.
هذه العلاقات هي أصلا هاربة ومهربة من سجن الحلال، ومستمتعة بالإثارة التي يجلبها الحرام في هذه الشقق الضائعة في زحمة شقق الحلال المجاورة لشقق الحرام، الساكنة في هذه العمارات.
الاحتياج هنا يحدده قاطنو هذه الشقق المتعددة فيها الشوارع.
وبما أن أوقات العشق والغرام سويعاتها قصيرة لا تكفي لأداء مهمات أخرى كإعداد الطعام، لذا قامت سلسلة من المطاعم السريعة بتوفير كل احتياجات الطاقة المطلوبة للحرق في اشتباكات وارتجافات الشغف القادم.
فكل ما يحيط بهذه العمارات مهمته تغذية البدن وإسعاد الكيف بالعصائر والمشروبات الباردة والساخنة مثل أنواع القهوة والشاي والدارسين والسحلب.
الغرام محتاج إلى رعاية وعناية، شعللة، دلع، وكيف..
حب مخطط له ومدبر بعناية ومدارى عن العيون، مكلف للجيب حتى وان كان لفترة من زمن عابر، أو لمتعة تنقضي بانقضاء وانتفاء الحاجة إليها.
الحب عندنا "مقرود"، بائس، مرتبط دائما وأبدا بمن هو قادر على أن يدفع له أكثر ..
الصراع الناتج عن احتياجات الحياة الأساسية يغلق الباب بوجه الحب..
وحتى في حالة وجوده، فإن الفقر كاف للقضاء عليه..
العلاقات الغالية والمكلفة المقامة في تلك الشوارع، لا يمكن لها أن توجد أو تعيش في ما بيننا..
وفي حال تواجدها فهي ليست أكثر من بؤس على بؤس، أنتج اتحادهما بؤسا ثالثا أضاف إلى الحياة لقيطاً أو لقيطة رُميا ملفوفين في قمامة، أو عند مدخل مسجد أو في أي زاوية شارع.
الحب المسروق يعني وساخة، شيئاً ما يماثل الرقيق الأبيض أو دعارة الجسد المعروض في السر والخفاء.
في إحدى المرات سمعت أخي بطاح يتحدث مع شخص ما على الهاتف الجوال التابع لشركة التاكسي العامل بها يطلب منه إيجاد فتاة نظيفة لا تشبه تلك الوسخة المفرشخة على بركة من مني الرجال الراكد.
أية امرأة هذه التي لا تجد وقتا لتنظيف سوائل الرجال السائحة من تحتها؟
أي بؤس مقزز هذا ليعتليه بؤس آخر تنهشه فحولة الذكورة، ولا يجد في الجيب ما يمكنه من الزواج أو من الاقتراب من امرأة نظيفة لديها متسع من الوقت لتنظيف بدنها للرجل الأخر؟
وأي رجل هذا الذي يقبل أن يضع مائه فوق ماء من سبقه وسال من تحته؟
حتى الطيور تنظف فتحات إناثها من سوائل من سبقها..
وهذا هو حال أخي بطاح الذي يريد أن يعتلي جسدا لا تسيل بركة سوائل الرجال من تحته..
ومن حقه أن يضع هذا الشرط أو يحلم به أو يتمناه، لكنه وأمثاله هم من يساعدون على تراكم مياه الرجال الآسنة بين فخذي امرأة.
وكلما ارتفع منسوب مياه الرجال من تحتها زادت حصة القواد كومار وازدادت نسبة أخي.
بطاح واحد من الخلية الاستطلاعية للحي وعمله كسائق في شركة لسيارات الأجرة يسهل له مهمات كثيرة، منها المهمة الاستطلاعية التي تتيح له مراقبة الحركة من والى الحي، وأوقات وتوقيتات زمن شن الغارة.
كما تتيح له اصطياد المستخدمات والعاملات اللاتي وضعهن بختهن البائس في طريقه.
قد يؤدي تخفيض ربع دينار من قيمة الأجرة إلى خسارة عمر كامل.
حل هذه الأحجية ببساطه كالآتي:
ربع دينار أقل يدفعها لقبول الركوب مشاركة مع ركاب آخرين.
وبس.. هذه كل الحكاية، لتنتهي في حوش محاط بسور من حديد، وباب خلفه باب، وحديد مقفول بحديد، وعالم ينتهي بالضياع أو برحمة من الله لو اكتشفت الشرطة في يوم ما أو شهر ما أو ساعة ما، بوابة جحيم العالم السفلي.
حين كنت انتظر نورة تنتهي من كورس الحب والغرام..
كان الوقت يمر عليّ طويلا، ممتدا في برودة البلادة والملل..
أحاول تمريره بالدراسة المطلوبة عني وعنها..
أو إعداد البحوث لي ولها.. أو ملء بيانات لي ولها.. أو حل واجبات مطلوبة لي وأيضا لها.
دائما وقتي يتسع لي ولها..
كان الوقت فضفاضاً.. يخب في الوسع، وفي المساحة الهائلة من الفراغ بكل معانيه التي تحيط بيَ.
فراغ هائل يملأني يسد كل ثقوبي، ويحتل كل ذرة بيّ.
لا أدري.. من أين وإلى أين يمتد ويتسع..
أنا كلي لست إلا فراغا أطفو في حالي..
ومهما ملأته بالدراسة التي آكلها عني وعنها لا شبع يأتي منها ولا فائدة تصير.
ومهما ملأت معدتي بأنواع شتى من أطعمة ما لذ وطاب مما تأتي به نورة، لا أصل إلى حالة شبع تُشبع.
فراغ مثل حفرة تغطس بيّ، أو تغور بيٍّ، أو أغور بها..
فراغ يحتلني من رأسي إلى أخمص قدمي.
لا أعرف له تعريفا..
ولا أستطيع تحديده وحصره في مكان..
أكيد أن له منبعا.. لكن أين يكون منبعه هذا؟
من الرأس مثلاً؟
أو من البطن؟
أو من القلب؟
فراغ يأكلني.. يحيطني بجوع دائم لا مثيل له..
جوع.. ناهش، مقلق، متعب، لا يمل النداء والنقيق، يبقى طوال الوقت فاتحاً جوفه..
نهم لا يشبعه شيء..
جوع واقف دائماً على حافة الانتظار..
انتظار لكيف.. أو ماذا.. أو لمن.
تخرج نورة متوهجة من فعل الحب، ويخرج زياد مرتخياً في لذة الكسل.
يمازحاني ويعتذران عن طول الوقت الذي أخذهما في حكايات أعادتهما إلى الماضي من طفولتهما، التي أعلم أن ليس لها علاقة تربط ما بين ماضيهما.
زياد كانت طفولته ويفاعته في مدينة جبيل اللبنانية، فهو لبناني جاء ليعمل مهندساً في شركة والد نورة.
نورة تضحك من تبرير زياد، وتسحبني إلى خارج الشقة حيث سيارتها تنتظر تجولنا في محلات السالمية الفاخرة.. والتي دائما ما تنتهي بشراء حقيبة لي ولها أو حذاء لي ولها أو عطر أو فستان أو ملابس داخلية.. ودائماً لي ولها..
وغالبا ما تقوم أمي ببيعها بنصف الثمن بعد استعمالي الخفيف لها.
نورة لا تبخل علي بشيء، فثمن تغطيتي لها دائماً تدفعه في الحال.
نبقى في تجوالنا حتى تقترب الشمس من مغيبها، عندها تتجه سيارتها إلى شارع منطقتها السكنية والحي الذي تقطنه.
حيث يبدو كل شيء مختلفاً تمام الاختلاف، اختلافا جليا مبهرا وواضحا.
من التقسيم المنظم للمكان، بمداخله ومخارجه وشوارعه المضبوطة هندستها بالمسطرة..
أكبرها بعرض 25 متراً، وأصغرها بعرض 18 متراً مقسمة ومرقمة إلى قطع وجادات بأسماء وأرقام مختلفة تحدد أمكنتها بالسنتيمتر والمليمتر، محاطة بالأرصفة المرصعة بالبلاط المشكل على طريقة الموزاييك العربي، بألوان الصحراء الترابية المتدرج من الأحمر الطوبي إلى الأخضر البترولي، فالأصفر الكبريتي.
وأحياناً يختلط بها اللون الرمادي المدخن بالفحمي المسود.
أرصفة جميلة وممرات مشاة مخصصة لعبور البشر، والدراجات، وممارسة المشي والرياضة.
تحف بها الأشجار المقلمة والمشكلة على هيئة أهرامات أو مستطيلات أو مربعات، تعترشها الأعشاب، وتفترش أرضها الزهور والورود المنسقة.
تنتشر الفلل والقصور السكنية المبنية ربما على كل أنواع الطرز المعمارية، وبكل مواد البناء الموجودة في الكون، وهي طبعاً المواد الغالية الثمن والعالية الجودة.
فلل مضاءة بأضواء خافتة أحياناً وأخرى تغتسل في الضوء الساطع، وبعضها تتسلل الأنوار السحرية من جنائنها المعتنى فيها على أكمل وجه في بلد صحراوي قاتل للنبات ومدمر للزراعة.
لكن الحدائق هنا، تتحدى منطق الصحراء العقيم..
تنثر عبق أريجها واكتمال حسنها ونظامها المهندس على أيدي مزارعين مهرة، وعلى قوة مال باستطاعتها فعل المستحيل.
يغمر الأحياء وشوارعها سكون وهدوء ناعم، والخدم يطوون النهار، ويلملمون الأطفال من السوق المركزي والحدائق ليعدن بهم إلى المنازل.
كل شيء عندهم ليس له مثيل عندنا..
كل جمال وفخامة وأبهة لهم ليست معروفة لنا، كل المراكز للخدمات اجتماعية وصحية وتعليمية وثقافية وترفيهية، ليس لنا نصيب فيها.
كل حجر رصيف في مكانه، وكل زهرة لم تُقطف، وكل غطاء مجاري لم يُصهر، وكل لمبة شارع لم تُكسر، وكل يمامة أو بلبل أو عصفور لم يُصوب، وكل سيارة تمر من دون صراخ بوقها.
شوارعهم تعكس سلوكهم مثلما شوارعنا تعري سلوكنا وتكشف عن ثقافة قاطنيها.
الأشياء التي تفرق بيننا وبينهم كثيرة..
لعل أوقعها وأصعبها على الروح، هو أنهم فيها مواطنون ومنتمون إليها.
ونحن ليس لنا حق في مواطنتها، ولا الانتماء إليها ولا التمتع فيها..
نحن لسنا بوافدين..
ولسنا بمقيمين..
ولا جئنا باتفاقات وعقود..
نحن "بدون".
بدون أي شيء يحمينا أو يغطينا أو يؤمننا.. . نحن عراء منبوذ في بدون
-------------------------------------------------------------
الفصل الثالث من رواية "سلالم النهار" للكاتبة الكويتية فوزية شويش السالم، الرواية صدرت عن دار العين للنشر 2012
التعليق