ماذا فعل بي جورج قرداحي؟            من هي سيمون دي بوفوار؟؟؟؟            إمتنان قصيدة للشاعرة العراقية فيء ناصر             حياة محمد أركون بقلم إبنته سيلفي             مقولة اليوم لسيمون دي بوفوار : المرأة لا تولد إمرأة و إنّما تصبح كذلك       يمكننا شحن اللوحات أيضا إليكم : آخر لوحة وضعت على الموقع لوحة الرسامة اللبنانية سليمى زود             يقدم الموقع خدمات إعلامية منوعة : 0096171594738            نعتذر لبعض مراسلينا عن عدم نشر موادهم سريعا لكثرة المواد التي تصلنا، قريبا ستجد كل النصوص مكانا لها ..دمتم       نبحث عن مخرج و كاميرامان و مختص في المونتاج لإنجاز تحقيق تلفزيوني             فرجينيا وولف ترحب بكم...تغطية فيء ناصر من لندن             boutique famoh : أجمل اللوحات لرسامين من الجزائر و كل العالم             لوحات لتشكيليين جزائريين             المثقف العربي يعتبر الكاتبة الأنثى مادة دسمة للتحرش...موضوع يجب أن نتحدث فيه            famoh : men and women without Borders       famoh : femmes et hommes, sans frontieres       ***أطفئ سيجارتك و أنت تتجول في هذا الموقع            دليل فامو دليل المثقف للأماكن التي تناسب ميوله...مكتبات، ، قهاوي، مطاعم، مسارح...إلخ...إلخ           
سرديات عودة
* سفر الخروج، فصل من رواية إبتسام تريسي  (الجمعة 21 أيلول 2012)

--------------------

(أنا وعبد الفتّاح كنّا صديقين، منذ نشأتنا في بيتين متجاورين، وحتّى اللحظة الّتي سطا فيها على عمري ومستقبلي.
في المدرسة لم يكن بيننا أيّ تنافس، دأب هو على الهرب وملاحقة الحيوانات البريّة، ثمّ تطورت هوايته في القنص والصّيد إلى ملاحقة الجميلات، والتّفاخر بعلاقاته الّتي لا تحصى بأجمل فتيات الضيعة. وحرصت أنا على دراستي والالتزام بالحصول على علامات جيدة. وقد ظهرت موهبتي في كتابة الشّعر في وقت مبكر، فالتفّ حولي رفاقي في الإعدادية، لأكتب لهم قصائد لحبيباتهم مقابل رغيف خبز، أو فاكهة طازجة من بساتينهم، أو حتّى بعض الخضار من حاكورة البيت. في المرحلة الثّانوية، كنت ألتهم الكتب التهاماً، واكتفى هو بفتوحاته النّسائية. وفجأة جاء يخبرني أنّه قرر الالتحاق بالجيش، "مالي وللدّراسة يا رجل، كلّها حكي فاضي". اعتقدت دوماً أنّه مخطئ، وأنّ العلم هو النّافذة الوحيدة للعقل البشري على التّقدّم والتّطوّر. حاولت إقناعه أنّ الجيش سيحدد آلية تفكيره، ويحجّم عقله. سخر مني ومن دراستي، وقال: "الأيام بيننا، وستعرف من منا المخطئ". ثقته بنفسه في ذلك الوقت أثارت ريبتي، وفكّرت ملياً "هل يعقل أن يكون عقلي قاصراً إلى درجة لا أفهم معها التّطورات الحاصلة في الحياة من حولي؟". اكتشفت فيما بعد، أنّ فهمي لم يكن قاصراً فقط، بل أثبت عبد الفتاح بما لا يقبل نقاشاً، أنّ الزمن زمنه هو، وأنّي كنت أصارع طواحين الهواء طيلة حياتي، من دون أن أدرك أن لا جدوى من الوقوف في وجه العاصفة، وانحنيت للريح كي تمرّ.
لا أنكر أنّ سفر عبد الفتّاح أثّر على نفسيتي، وأشعرني بغربة عن المكان. حين جاء أوّل إجازة، كان يوم عيد لنا، احتفلنا بمجيئه، عصبة من الشّباب، كنّا يوماً أطفالاً، نلهو في البراري، والغابات. سهرنا حتّى الصّباح، وكان نجم السّهرة بلا منازع، أَدهشتنا حكاياته عن أجواء المدينة، أزقتها، حاراتها، نسائها المميزات، وحين دخل في المناطق الحميمة في حديثه، فتحنا أفواهنا وآذاننا، واستمعنا بجوارحنا. وكأنّنا في أجواء ألف ليلة وليلة.
بعد تلك الليلة غاب سنة كاملة، وعاد في أوائل الصّيف، وقتها كنت أقترب من تحقيق حلمي في الحصول على الشّهادة الجامعية، والارتباط بزميلتي هدى، الّتي عشت معها قصّة حبّ هادئة طيلة سنوات الدّراسة. ما لم يخطر لي على بال أن ألقاه في حديقة السّبيل في ذلك اليوم الصّيفي القائظ، كنت وإياها نحتفل بتخرّجنا، ونتفق على الخطوة القادمة. شعرت بضربة على كتفي، سبقها صوته الجهوري: "أين أنت يا رجل؟ منذ متى لم نركَ" وتطلّع إليها قائلاً: "معكَ حق، من يكون بصحبة هذا الجمال، كيف يتذكّر أمثالنا؟". وقتها غصصت باللقمة، وأنا أرى نظراته الفاضحة إلى هدى، اعتذرتُ منه، ونهضنا. لكنّ الغصّة لم تفارقني، حتّى أنّي لم أعد أعرف ماذا أقول لهدى، الّتي استأذنتني، ومضت إلى منزلها. بضعة أيام مرّت لم تأتِ هدى إلى الكلية، ولا ردت على رسائلي! وحين واجهت الأمر بزيارة بيتها، وطلب يدها، أصبت بمقتل.
بقيت معتزلاً أكثر من شهرين، وعلى الرغم من إحساسي بقسوة الغدر، ومضاء الطّعنة الّتي وجهها عبد الفتّاح إلى صدري، إلاّ أنّي قررت أن أتفوّق عليه، أن أثبت له، أنّ الدّراسة ليست حكياً فارغاً. لا أجد مبرراً لذكر تلك الأيام الّتي اعتكفت فيها على كتبي حتّى نلت درجة الدّكتوراه، فقد صار ذلك يسبب لي المزيد من الألم بعد أن فشلت في المحافظة على المكتسبات الّتي حققتها بإرادتي.
الحدّ الفاصل بين ماضيّ وحاضري، هو اليوم الذي التقيت فيه هدى ـ بعد أن أضعتها عدّة مرّات في الزحام ـ  وهي تغادر أحد المحلات التّجارية في المدينة، لم يحرّك صراخها فيّ ساكناً، ولم أنتبه إلى حماقتي، إلاّ عندما سحبتْ ذراعها بقوة من قبضتي، وهي تخفض صوتها: "مجنون". قبل أن يقترب رجلان، عرفت أنّهما يحرسانها من بعيد، ناولتهما الأغراض الّتي تحملها، وأشارت إليهما ليبتعدا صوب السّيارة. لا أدري إن كانت ساعتها قد تصرّفت بحكمة، لكنّني قلت لها: "يجب أن أراكِ، عليك أن توضحي لي، سأعمل لك فضيحة إن لم تأتي، سأنتظرك غداً في مثل هذا الوقت في حديقة السّبيل".
انتظرتها طويلاً، ولم تأتِ، وخطر لي أن أقوم بحماقة أكبر، وأذهب إليها في منزلها، إذ لم يفتني أن ألحقها، ولم أغادر حتّى أوصلها الحارسان مع الأغراض حتّى الباب الدّاخلي. المنزل قريب من الحديقة، لا يبعد عنها سوى بضع مئات من الأمتار، حيٌ هادئ يناسب المكانة الّتي وصل إليها عبد الفتّاح في سلك المخابرات. ردَّدت بيني وبين نفسي عبارة شمشون "عليّ وعلى أعدائي". ونهضت من مكاني قاصداً باب المقصف. حين رأيتها قادمة، وهي تتلفت حولها. كدت أسمع نبضات قلبها وهي تسلّم عليّ، بل أنا على يقين، أنّ النبض بقي بين أصابعي مرتعشاً وممزوجاً ببقايا بنفسج، تلك الرّائحة الّتي كانت تفضّلها دائماً!. قلت "الحمد لله أنّك جئتِ، كدت أرتكب حماقة أخرى، وأذهب إلى منزلك". ارتجف صوتها وهي تقول: "أعرف أنّك مجنون، وتفعلها، لذا جئت، أرجوك، لا أستطيع أن أتأخر، قل لي، ماذا تريد؟.
قلت: "يحق لي أن أجد تفسيراً لما حدث، لماذا غدرت بي، وتزوجت صاحبي؟" قالت بحذر: "أنا لم أعدك بشيء". قلت: "لكنّكِ كنتِ تحبينني، اتفقنا أن نكون لبعضنا إلى الأبد". قالت، وقد بدأت تطمئن لخلو المكان من الجواسيس: "لا أنكر، لكنّك لم تطلبني للزواج، هو سبقك، وأبي وافق". لم أنتبه إلى ارتفاع نبرة صوتي، وإلى وقوف النّادل قرب الطّاولة، وأنا أكيل لها الاتّهامات، حتّى رأيتها تشير إليه بالانصراف، وهي تقول لي: "اخفض صوتك، نحن في مكان عام، أنت لا تدرك مدى الأذى الذي سيلحق بك إذا رآنا أحد رجاله". تلاشى غضبي، وكأنّه لم يكن، أمسكتُ أطراف أصابعها، وأنا أهمس: "تخافين عليّ؟". قالت: "لست نذلة إلى درجة تركك لقمة سائغة لهم".
جلب النّادل الغداء، اقترحت عليها قدحاً من العرق، رفضت، وطلبت كأس بيرة، لم أشأ أن أكرر طلبي، أكلت لقيمات، واعتذرت بأنّها تعمل ريجيم لتحافظ على رشاقتها، شربتْ كأس البيرة على مهل، وأنا أراقبها، وأتناول طعامي. أنهت كأسها، وهي صامتة، ثمّ طلبت آخر، لم تمض دقائق، حتّى رأيتها تتنهد، وهي تمسح دمعة غلبتها، وكادت تفرّ من عينها، قالت كأنّما لتنفي أيّ تفسير عندي "طُرفت عيني على ما يبدو". ثمّ سكتت. سألتها، وكأنّي أتابع حديثاً ودّياً بيننا "هل أنت سعيدة في حياتك معه؟". انقلبت ملامحها فجأة، واحتلّها اشمئزاز، حاولت أن تخفيه بابتسامة عابرة، قالت "ما معنى هذه المفردة؟ أنا أعيش معه، فقط". قلت: "ألا تحبينه؟". لم تجب، لكنّ عينيها قالتا الكثير، واكتفيت بتلك الاعترافات الصّامتة. احتضنتُ يدها بين كفيّ، وضغطتُ عليها، سَحَبَتْها بهدوء، وقالت: "أخشى عليك". تكرارها للعبارة استفزني، قلت ساخراً: "منذ متى؟". قالت، وصوتها يتلوّن بالحسرة: "منذ قبلت الزواج به، لقد همس بأذني عدّة كلمات حين رفضته، جعلتني أحدّق بوجه أبي، أتأمل وجوده بيننا، وأتخيّل فراغ البيت منه، إلى أين تمضي بنا الحياة؟ الصّمت هو كلُّ ما استطعت، وقفت الكلمات في حلقي، حينها قال منتصراً: "الصّمت علامة الرضا" وهكذا تزوجته. أكثر ما يؤلمني أنّي لم أشعر يوماً أنّه يعاملني كزوجة، ربّما جارية، عشيقة، عاهرة، لا أعرف بالضبط، أحسُّ حين يضاجعني أنّه في معركة يريد أن يخرج منها منتصراً، أفتقد لمسة حانية، كلمة جميلة، مع هذا هناك أمرٌ غريب يحدث دائماً، أنّه سخيٌ، كفه مثقوب كما يقولون، يعطيني ما أشاء، وبعد كلّ انتصار يعاملني كملكة!
لكنّ نقمته زادت في الفترة الأخيرة، لم يعد وجودي يعني له شيئاً، يبدو أنّه عشق من جديد". قلت: "هذا طبعه، منذ متى يستطيع أن يخلص لامرأة يحبها؟ كان دوماً يتباهى بعدد اللواتي استطاع اصطيادهن، والأمر الآن بات مختلفاً، إنّه يشعر بتفوقه، ويمتلك المدينة بأسرها، من خلال امتلاك نسائها". قالت بغيظ: "نسيت أنّك كنت تساعده؟ ألم تكن تكتب له القصائد الغزلية الّتي يستميل بها قلوب الفتيات؟". تمكّن الضحك مني أخيراً، وانقلب مزاجي، قلت بلطف: "كنت أفعل هذا مع جميع أصدقائي، بصراحة، كانت القصائد تحقق لي مكسباً مادياً كبيراً، ومعنوياً بالتصاق رفاقي بي، أجد مكاناً للنّوم في بيوتهم، والسّهر، والموائد عامرة دائماً...كانت أيام!". قالت: "نعم، كانت أيام، لكنّها ساهمت بشكل أو بآخر، في فراقنا. لست آسفة على شيء الآن، لا أحد يأخذ من الدّنيا أكثر من نصيبه، ما آسَفُ عليه حقّاً هو حاضري، اضطراري للعيش معه تحت سقف واحد، وأنا أعرف أنّه يعشق غيري، لو أنّ الأمر مقتصرٌ على نزواته العابرة لهان، لو أنّ الأمر متعلق بإحدى العاهرات اللواتي يتردد عليهن، لهان الأمر". قلت بفضول: "من تلك الّتي جعلته يعشقها بعدك؟". قالت: "ابنة صديقه ماهر الصيّاد، لا بدّ أنّك تعرفها، هي طالبة عندك في الكلية، كانت باطلة تلك الصّحبة بينهما، اللعنة على الاثنين". قلت مصدوماً: "لا أظنّك تعنين نسمة؟". قالت: "بل هي بعينها". قلت باستغراب: "كيف ذلك؟ نسمة! أعرف أنّها على علاقة بزميل لها، أراهما متلاصقين دائماً داخل قاعة المحاضرات وخارجها، لا أعرف طبيعة العلاقة بينهما، لكن كنت ألمحهما معاً منذ زمن بعيد". قالت: "أتعني المثنى بن أحمد علوان؟". وقع الاسم على رأسي وقوع صاعقة، قلت: "المثنى؟ طبعاً هذا من سابع المستحيلات، فما أعرفه عن والده أنّه كان سائس خيل عند ماهر الصّيّاد، وأنّه سجين هارب، ليس من المعقول أن تتورط نسمة بمثل هذه العلاقة؟ لا، لا أعتقد". ردّت بثقة: "عبد الفتّاح أخبرني بذلك، قال إنّها على علاقة بالمثنى، وأنّه أخبر والدها بالأمر، وأنّه سيشدُّ أذنها بطريقته، كي تتربّى، ولا تتورّط بعلاقات خائبة مرّة ثانية، على حدِّ تعبيره". سألتها باهتمام: "يشدُّ أذنها؟ ماذا تعنين؟". قالت: "لا أعرف بالضبط ماذا يقصد، لكنّه يدبّر أمراً ما، ومن يستطيع التّكهن بماذا يفكّر، وماذا يخطط؟ الشّيطان وحده بإمكانه معرفة نواياه، لكنّي أعتقد أنه سيلفّق لها تهمة، ثم ينقذها منها، لتعرف أنّه الشّخص الوحيد الذي يستطيع حمايتها". قلت بأسى: "كان الله في عونها وعونك". قالت بسخرية: "بل في عون المثنى، أرجو حقّاً ألا يلقى مصير أبيه". قلت: "أبوه مجرم، ويستحق العقاب الذي ناله، كم أشتهي لو يقبضون عليه، ويحكّمونني به، ولو ساعة واحدة". ضحكتْ مستهزئة، وقالتْ: "مَنْ؟ أحمد علوان! يا لك من ساذج، ومن أين يأتون به؟ هل يعود الأموات إلى الحياة؟ لقد مات، وأصبحت عظامه مكاحل، لكنّهم على أيّة حال يتمنّون عودته، لذا تركوه حيّاً في أذهان النّاس، ولو استطاعوا إعادته إلى الحياة، لينتقموا منه ثانية، لفعلوا". فتحت فمي بذهول، وسألتها وقلبي يكاد يتوقف: "مات؟ متى؟ كيف؟ أين". قرّبت رأسها مني، وهمست: "الأمر بيننا، وهو سر خطير للغاية، أرجو ألا تنسى ذلك، وتورّطني في أمر لا أحتمل نتائجه. ما حدث في تلك السّنة عام 63 ، أنّهم قتلوه في السّجن، وأشاعوا أنّه هرب، ثمّ لاحقوه لأنّه يرتكب أعمالاً تخريبية، وبدأت سلسلة من الاغتيالات تُسجّل باسمه، كانوا بحاجة لشخص يحمل مسؤولية بعض الجرائم الغامضة، والتّصفيات الضرورية ذات الطابع الثأري الشّخصي بين أفراد الجماعة، والسّلطة، وقد أراح أحمد علوان الطّرفين، الأخوان والسّلطة، كلاهما حمّله وزر العديد من الجرائم، وخرج الشّيخ ماهر، ليخطب في المساجد مندداً بالمجرم الخطير الذي يعتدي على أمن البلد! ووصفه بالخائن والعميل. على من اعتدى المسكين؟ اعتدى على مصلحة مشتركة بين ماهر الصّياد وعبد الفتّاح، تخص فريدة خانم على ما أعتقد".
قلت بذهول: "لكنّي رأيت صورة عن جواز سفره، وتاريخ مغادرته البلاد في إحدى الصّحف". قالت بسخرية: "وكأنّك لا تعرفهم! أمن الصّعب عمل جواز سفر، وكتابة سيرة ذاتية، وتلفيق تهم؟ كأنّك تعيش خارج العالم!".
حقّاً كنت أعيش خارج العالم، أدركت ذلك فور دخولي السّجن، بعد أن استدعاني أبو فراس، وحقق معي بتهم عديدة، من دون أن يقترب من التّهمة الحقيقية الوحيدة، لقائي بزوجته هدى! صحيح أنّ إدراكي جاء متأخراً، لكنّه كان صاعقاً وصادماً إلى حدٍّ غير مقبول. خاصة حينما ضمّتني والمثنى زنزانة واحدة في سجن تدمر! تعمّق حينها إحساسي بانتمائي إلى "العالم التحتي"، وهي تسمية أطلقها "الخبير" ـ وهو أحد المساجين ـ على شبكة السّجون السّورية، حدّثنا مرّة أنّه خبير سجون، أكثر من السّجّانين، زارها جميعاً، وحلّ في أرجائها العامرة معزّزاً مكرّماً، وقد نال أحكاماً تراوحت بين أشهر وسنوات ومؤبد! وبتهم لا تحصى، شجار، سرقة، وتهريب، وقمار، وآخرها تجارة سلاح. كان يضحك، وهو يخبرنا بأنّها التّهمة الشّريفة الوحيدة الّتي نال عليها أقصى عقوبة، مع أنّ اسمها نظيف جداً "تجارة"!. وقد استفدنا جميعاً من "الخبير" وعلاقته الطيبة مع السّجّانين في تهريب أشياء كثيرة من وإلى السّجن، خاصّة الجرائد، الّتي يلف بها الطّعام خصيصاً لنعرف ماذا يجري في العالم الآخر الذي نبذنا، وقتل رغبتنا في الحياة.
أعترف أنّي لم أحبّ المثنى، ولم أستطع الاقتراب منه في الأسابيع الأولى لسجني. شعرت بنفور من هيئته، من كلامه، من صمته، بالإضافة إلى اختلافنا الفكري، فأنا لا أستطيع أن أتقبّل شخصاً من الإخوان المسلمين، مهما كانت مصيبته كبيرة، لكنّي مع الأيام، وجدت نفسي أتحدّث معه، ونشأت بيننا صداقة قوية، كان مختلفاً تماماً عن الصّورة الّتي تشكّلت في ذهني عنه. هو من تشجّع وبدأ الحديث، فوجدت بيننا أشياء مشتركة، ربّما حديثه عن خربة الورد، وطفولته البائسة، ويتمه، وكفاحه الطّويل ضدّ الفقر في سبيل دراسته، وفشل قصّة الحبّ الوحيدة في حياته، أشياءٌ قرّبت بين قلبينا، لدرجة أنّي أسررت له بهمومي ومشاكلي وسبب سجني، متجاوزاً كلّ الفوارق الّتي صنعها العالم الآخر بيننا، أيقنت أنّ تلك الفوارق المصنوعة بأيدي الآخرين لا وجود لها في عالمنا التّحتي هذا. عالمٌ من الألفة والتّلاحم، عالمٌ حميم، لا يمكن للسجّانين الواقفين "فوق" أن يفهموا شيئاً من تفاصيله المربكة، يستفزهم ضحكنا، يستفزهم صبرنا، تستفزهم لا مبالاتنا، كم هم حمقى!. قال لي المثنى: "أتعلم أنّي لا أهتم كثيراً لمصيري، فأنا لا أرجو من عالمهم شيئاً، من أحببتها، طعنتني في ظهري، وذهبت بعيداً، مَنْ خرجتُ مِن صلبهِ أورثني تاريخاً أسود، ولولا أمٌ عجوز تنتظر عودتي بماء عينيها، لما حفلت بالموت، ولو جاء هذه اللحظة، لكنّي أصبّر القلب بقول ناظم حكمت " أن تكون سجيناً، ليست هنا المسألة... فالقضية هي ألاّ تستسلم!". لكنّهم لم يتركوا له الفرصة ليصمد، فقد أعدموه تلك الليلة فجراً، وكنت أسمع صوت ابتهالاته طيلة الليل، وأتصوّر أنّه كان يعرف أنّها ليلته الأخيرة، لكنّ أحد المساجين قال لي يومها: "لا أحد يعرف مصيره، لكنّنا مؤهلون لزيارة الموت في كلِّ لحظة، لهذا لا ننام الليل بانتظاره، ننتظره بإيمان أنّنا سنجد حياة أفضل عند ربٍ كريم، سبحانه وتعالى، الأجر والثّواب عنده.
تلك الكلمات أقلقتني زمناً طويلاً، وتمنّيت خروجي من ذلك المكان الكريه، وتقت لرؤية "عالمهم". بعد موت المثنى صرت أكره بقائي بين هؤلاء الّذين يرجون الأجر والثّواب في عالم ثالث، لا يمتُّ للحياة بصلة! يا لهم من حمقى!.
يبدو أنّ باباً للفرج فُتح من حيث لا أدري، فقد استدعوني في صباح يوم قائظ، وأركبوني سيارة، ونقلوني إلى منطقة أخرى، لم أعرف أين أنا، ثمّ حشروني في سيارة جيب، وفي طريق خالٍ بين مدينتين خمّنت أنّه قريب من الحدود الأردنية، رموني من السّيارة، وعادوا أدراجهم!
إلى الآن لا أعرف من الّذي أنقذني؟ ولا أعرف كيف وصلت عمّان، ما أنا على يقين منه أنّهم يعرفون! ).
--------------------------------------------------------------
الفصل الرابع من رواية "عين الشمس" للكاتبة السورية إبتسام تريسي،
صدرت عن الدار العربية للعلوم ـ بيروت/ 2009 وهي الرواية التي كانت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية لعام 2010.







التعليق بقلم نوارة الأحرش