ماذا فعل بي جورج قرداحي؟            من هي سيمون دي بوفوار؟؟؟؟            إمتنان قصيدة للشاعرة العراقية فيء ناصر             حياة محمد أركون بقلم إبنته سيلفي             مقولة اليوم لسيمون دي بوفوار : المرأة لا تولد إمرأة و إنّما تصبح كذلك       يمكننا شحن اللوحات أيضا إليكم : آخر لوحة وضعت على الموقع لوحة الرسامة اللبنانية سليمى زود             يقدم الموقع خدمات إعلامية منوعة : 0096171594738            نعتذر لبعض مراسلينا عن عدم نشر موادهم سريعا لكثرة المواد التي تصلنا، قريبا ستجد كل النصوص مكانا لها ..دمتم       نبحث عن مخرج و كاميرامان و مختص في المونتاج لإنجاز تحقيق تلفزيوني             فرجينيا وولف ترحب بكم...تغطية فيء ناصر من لندن             boutique famoh : أجمل اللوحات لرسامين من الجزائر و كل العالم             لوحات لتشكيليين جزائريين             المثقف العربي يعتبر الكاتبة الأنثى مادة دسمة للتحرش...موضوع يجب أن نتحدث فيه            famoh : men and women without Borders       famoh : femmes et hommes, sans frontieres       ***أطفئ سيجارتك و أنت تتجول في هذا الموقع            دليل فامو دليل المثقف للأماكن التي تناسب ميوله...مكتبات، ، قهاوي، مطاعم، مسارح...إلخ...إلخ           
سرديات عودة
السكر الأمريكي للكاتب العراقي عبد الهادي سعدون (السبت 7 تموز 2012)


لتعلمي أنني لم أسافر لأميركا (يدعونها تطويلاً الولايات المتحدة الأمريكية، أو يقولون أميركا الشمالية تفريقاً عن الجنوبية، أختها غير الشقيقة) ولا لمرة واحدة بحياتي المديدة هذه، ولا أعتقد أنني سأكون محظوظاً برؤيتها. مع ذلك فأنا أعرفها عن ظهر قلب، من الكتب، روايات فولكنر و فيتزجيرالد و سلنجر و أشعار بوكوفسكي و باوند وآخرين غيرهم، و من عشقي للسينما كذلك ومعرفتي بأفلامها. يمكنني أن أضيف لذلك، أنني عرفتها أكثر من الرسائل العديدة التي تصلني من صاحبي سائق التاكسي في لوس أنجلس، جلال، الذي يوقع نصوصه النثرية بها، مضيفاً لها ما يحلو لي تسميته بالانتحال الأكثر جدارة بالتصديق:" لاجئ إلى أجل مسمى!". عدا ذلك، فلم تطأها قدمي ولا في الحلم.
  من الممكن التفكير هنا بحل سحري عن كيفية وصول كيس السكر الأمريكي ليدي، ولكن حينئذ لن يكون له من معنى، ولا فائدة ترجى من إدراجه في مجموعة الأكياس المختارة.
  الحقيقة أنني لم أدرك وجوده إلا بعد أشهر، إذ كان مخبئاً في جارور دولاب غرفتي، متربصاً كلص ذكي بين ملابسي و أغراضي الشخصية المبعثرة بلا تنظيم ومختلطة بالجوارب والملابس الداخلية وأكياس أخرى لا أدرك معنى لتواجدها. شيء آخر هو أنني لو بقيت لسنين أخرى لن أعثر عليه ولن يقع بيدي نتيجة إهمالي وتأجيلي لترتيب الدولاب. الكيس بمصادفة خبيثة عثرت عليه شابة بولندية ـ ليس مجال الحديث عنها لأنني لا أحتفظ بذكرى كيس سكر خاص بها ـ كنت تعرفت عليها لفترة قصيرة في احتفالات نهاية السنة، جاءت مع أصدقاء أسبان، فتلازمنا ليلتها و أمضيناها برفقة لم تنفصم حتى ليلة العثور على كيس السكر.
   كنت وسط الصالة ملتحفاً بطانيتي اتقاء برد شتاء لم آلفه منذ وقت طويل، مغمضاً عيني بعد لهاث ساعتين أمضيتها وصاحبتي في تجريب لعبة الأسد واللبوة، بمشقة بذلت فيها جهداً لموافقة حركاتي مع نشيجها المدوخ وهي تمد عجيزتها بهيئة مثلث ناقص الضلع فاتحة ساقيها كمقص على وشك القطع. كنا في أرجحة أوازن فيها ثقلي مع اهتزاز نوابض السرير الذي شككت بأنه على وشك الانفلات وتحطمه بنا.
دخلت بخطواتها الصارمة وثقل نهدين يهتزان بانفعال حقيقي، ولم تكن قد لبست عليها بعد شيئاً، بارزة مشداً نسائياً من الدانتيلا السوداء المخرمة، بإصبع واحدة لتمده عند مستوى نظري وهي تصرخ بي:
ـ هل يمكنني أن أعرف ماذا يفعل هذا بين أغراضك؟
  حاولت فتح عيني وتبين مغزى سؤالها. لم ألمح ـ وكنت ما أزال متهيجاً ـ سوى كمثرى عانتها الملتحفة بشعر يصل حتى الصرة.
خطر على بالي الإجابة بأي كلمة، ولكنني حينها ابتسمت ولففت رأسي بالبطانية مرة أخرى.
عندما رأتني برد فعلي البارد كحال غرفتي، رمت السوتيان على وجهي كأنها تريد تصويبي بإطلاقة مسدس، وسمعتها تلعن الساعة التي عرفتني بها، مرددة بهياج لا أول ولا آخر له بلغة بلدها التي لم أفقه منها شيئاً، قبل أن تعلن بأسبانية صاخبة بأننا متشابهون كلنا " جنس رجال خونة " ما أن تلتفت الواحدة منهن لجهة حتى يقع أحدنا صريعاً أمام أول امرأة تقبل به ( قالت تحديداً: أمام أول مهبل يمد لنا بلسانه!). ذكرتني تهديداتها بجمل الأفلام الهزلية، وكأنها تدربت على يد أحد كتبة الأفلام تلك. سمعت لعناتها وتهديدها وأنا محتمي بالبطانية استجداء الدفء. عادت بعد حين تحمل أغراضها ورمتها على أرضية الصالة والتقطت ملابسها من الأرض وارتدتها بسرعة بينما كنت أراقبها من الثقب الذي عملته في البطانية، أتأمل الحدث كجندي في مرصده البعيد، وكأن الأمر لا يعنيه.
عندما أرادت مغادرة الصالة، ندت عني ما يشبه تكملة لجملة تركتها جامدة على لساني وليست سؤالاً بالمرة:
ـ ولكن هل يمكنني أن أعرف ما يجري..
  أصابتني بكيس ثقيل، لا أعرف من أين جاءت به، لا بد أنه ضم كتباً أو أوراقاً، وخرجت تزيد من لعناتها وتنهي علاقتنا بجملة واحدة:
ـ لا أريد أن أراك مرة أخرى.. أحذر أن تقترب مني وإلا فستكون الواقعة أكبر!
ضربت باب المنزل بكل قوتها وتركتني بحيرتي ممدداً في السرير.

   في أحيان كثيرة أمر بأوقات لا أجسر فيها على شيء سوى التمدد في الفراش والتمعن بالسقف أو بخطوط لوحة معينة تواجهني أو حتى حرف في عنوان كتاب ملقى في زاوية ما. كل ذلك أحيله لغياب الهمة بعمل شيء، التحرك لإنجاز غرض أو مقارعة ساعات اليوم بنشاط يحد من ركضها المتواصل استعدادا لاستقبال الليل، وانتظاراً ليوم جديد آخر.. ولكنني الآن بحال أخرى لا مجال فيها لترفي المعتاد.
   بعد أن سمعت صوت إنغلاق باب الشقة بعنف وغياب صاحبتي المهدد بقطيعة نهائية، لم أحزر جواباً شافياً، فأمضيت الساعة بين المتناوم والمفكر بحيلة تخرجني من غفلتي. كنت سأجد حلاً آخر أنسب هو النوم، لطالما كنت بحاجة له لاسترجاع قوتي بعد تأديتي دور الأسد بنجاح (ربما حتى لحظة خروج اللبوة مكشرة تعلن خيانتي عبر إصبع ممدود بسوتيان نسائي أسود)، لكن ذهني المتحفز غلب حاجتي للنوم، فنهضت تاركاً غطائي الثقيل يسقط كشرشف حرير على الأرض.
قررت لحظتها أعادة صياغة ما جرى لي مع صاحبتي، ففكرت: ضحك وصياح على سلم البناية/ قبلات وشد للجسد وفتح القميص عند باب الشقة/ رفع القدمين(قدميها) ما أن دخلنا ومحاولتها بفتح سحابة بنطلوني ومسك جزرتي التي انتصبت وشدها ناحية تنورها الملتهب/ مواء طويل وسقوط على الأرض/ لهاث/النهوض حتى السرير/ لهاث لا غالب له/ سقوط أخير على الأرض.
   في كل مرة وقبل دخولنا الشقة ينتابنا الهلع نفسه من لحظة بدء التعري، فنعلن محاولتنا بالشد والتقطيع كمدخل أولي لتدليك طويل بعد ذلك، ولكن بخفة ومطاوعة تجيء بالتدريج كمحاولة لزجر بلاهتنا الأولى. وكان ذلك أن وجدنا أنفسنا من جديد في سرير القنفة وسط الصالة ووقوفي منتصباً فوقها، ممتطياً عجيزتها التي تتراءى لي في كل دخول جديد وكأنني أعتلي قلعة شاهقة شقراء تلتمع بقوة سقوط أشعة الشمس.
  أعدت ترتيب الأحداث مرة أخرى ولم أجد فجوة ممكنة لغضبها وهياجها وبعد ذلك تركها لي بقطيعة مؤكدة.
عند ذلك عدت للسرير وبحثت عما رمتني به. فضلاً عن الكيس الثقيل الذي أتضح بأنه يضم حذاء عسكري، اشتريته من سوق الراسترو، لبسته طوال السنتين الماضيتين و فكرت برميه قبل أسبوع ولا بد أنني نسيته كعادتي. الشيء الآخر، كانت حمالة صدر سوداء تلك التي لمحتها ترفرف على إصبعها قبل دقائق.
تمعنت بحمالة الصدر ولم أعرف لمن تعود ولا كيف جاءت ليد صاحبتي، إذ لم أستدرج أية امرأة لشقتي منذ أن تعرفت بالبولندية.
مضيت متتبعاً آثار صاحبتي وفكرت أنها لا بد قد مرت بالحمام، لا بد أنها قد اغتسلت، لا بد أنها قد جففت جسدها بمنشفة، لا بد أنها رشت عطراً ولا بد أنها احتاجت لشيء ما فدخلت غرفتي، ولا بد أنها قد بحثت في دولابي عن ذلك الشيء لأنها عندما تساءلت عن وجوده ذكرت كلمة الدولاب.
  عندما فتحت دولابي، بدا لي قبل أي شيء آخر، بأنه لا يعود لي، أو أنني لم أفتحه منذ فترة بعيدة، ذلك أنني بدأت للتو بالتعرف على ما يضم. هناك ملابس لم أتذكر متى ارتديتها لآخر مرة، بعضها ما تزال بأكياسها وأخرى أحال الزمن ألوانها لصبغة بلا تعريف. مضيت مباشرة حتى الجوارير لأبحث عما يمكن أن تضم من مفاجئات. لكن بلا جدوى، فلا شيء آخر غريب يحل لي لغز حمالة الصدر السوداء. كنت قد عجزت عن إيجاد شيء والعودة للنوم باطمئنان، عندها وحسب لمحت علبة من الكارتون متوسطة الحجم نصف مفتوحة الغطاء ومرمية على الأرض قرب منضدة الضوء. لا بد أن صاحبتي قد رأتها في الدولاب وفتحتها مكتشفة السوتيان المخرم فرمتها بسرعة لتعود وتقتحم علي الصالة.
   كانت علبة الكارتون نصف المفتوحة تعلن عن نفسها بشريط أزرق يطل برأسه كلسان طويل ممدود بلا نهاية، يستريح الآن برقة على حافة السرير.مددت يدي لأرى أن كانت تضم أشياء أخرى، عادت يدي بورقة وكيس سكر وردي اللون. فتحت الورقة المطوية، وما أن قرأت كلماتها حتى عدت لذكراها.. لم تكن سوى أشياء تركتها راشيل.. آه يا إلهي يا راشيل، كيف أكون قد نسيتك، ونسيت سوتيانك المميز، والذي ألهبني  ليلتين طويلتين، ولم أمل من احتضانه وتقبيله و عضعضته ما أن تقتربين مني وانت تهزين جذعك.
تقول كلمات الورقة، التي كانت بمثابة رسالة تذكر:
" آه قبطاني يا قبطاني..
أبكي من أجلي، أبكي من أجلك، آه يا حبي.
لا أريد لهذه الكلمات من أثر لوداع، أنت أدرى بي بهذه المسائل. كل ما في الأمر، أنني أردت أن أترك لك هذه الكلمات مع شيئين، ولأذكرك بالأغنية الباكية للغجري الأسباني وهو يندب حبه، لطالما سمعاناها مرات عديدة، تلك الليلة الحميمة. ولا أعتقد أنك تنسى (قبطاني آه يا قبطاني)؟.. فقط أردت أن أكون جزءاً من حياتك بشكل وبآخر دون أن أعرقلها.. في العلبة السوتيان المخرم الأسود الذي جننت به..و.. كذلك كيس سكر أمريكي من التي احتفظ بها معي برحلاتي..أنت أعرف بسره.. قبلات راشيل.. يا ترى هل سنلتقي مرة أخرى؟".

   لم أنس قط راشيل، فهي من تلك القطط التي تموء داخلي في كل لحظة، بما لا شك في أنك في النوم أو الصحو تتسمع له بما يشبه صوت ملائكي. سموها أصدقائها راكيل، راحيل أو ريشي، لكنني أصريت على نطقه كما عرفتني به، فنطقه يذكرني بحلاوة التفاتة لسانها وهي تؤكد على الشين مطعمة بمطقة كلاصق يرن في أذن السامع. تعرفت براشيل في مناسبة غريبة نوعاً ما. كنت على موعد مع صديق في مقهى وسط مدريد، كان موعداً من تلك التي نقوم بها بين حين وآخر لا لشيء سوى الفراغ، الوقت الممطوط ورغبة التواصل. وصلت قبل الصديق بنصف ساعة، فجلست في كرسي يجاور جادة الشارع أكثر منه داخل المقهى. لحظات، وانا بانتظار النادل ليجلب لي قهوة، سمعت همساً بجواري، التفت ورأيت وجهاً غريباً، لم تكن أسبانية بالمرة، بيضاء ممتلئة، صغيرة السن، يغطي وجهها نمش لطيف، قالت لي:
ـ هل تسمح لي بالتدخين معك؟
تلفت مستغرباً وابتسامتي تعني الدهشة أكثر منها الرفض.
ـ هل أنت متأكدة أنك تريدين أن تدخني من غليوني، ولكن؟
ـ آه.. تقصد أنك لا تدعه لغيرك، هل تخشى أن أنقل لك أمراضي؟
ضحكت وتأملت خصلات شعرها الأحمر يتمايل على وقع أصابعها التي لا تفتر ترتبه من جهة لأخرى.
ـ أبداً، تفضلي، ولكنك المرأة الأولى التي تقبل غليوني؟ قلت لها دون أي تلميح
التقطته كمدخنة عتيدة، تناولت كيس التبغ، هرست التبغ بين أصابعها وحشت الغليون ثم قربته من فمها وشرعت باشعاله، ثم وهو لا يقع من فمها سحبت بدفعات متتالية الدخان الذي غطى وجهها وأحاله لصورة ضبابية. بقيت أراقبها ملتفتاً ناحية طاولتها، حركة فمها واغماضة عينيها، بينما ماتزال تقبض باصابعها على كيس التبغ.
فجأة تركت الغليون ومدته لي بيدها. اخذته ودون كلمة شرعت أدخن.
ـ ليس مصادفة صدقني. قالت. المرة الأولى التي دخنت فيها الغليون كان في تجمع في حديقة عامة، وكان نفس التبغ الذي تدخنه (كابيتان بلاك)، آه هل ترى كيف أتذكر كل ذلك، كانت المرة الأولى التي أدخنه، والمرة الأولى لسماعي لقصيدة والت وايتمان (قبطاني آه يا قبطاني)، هل سمعت بها. في كل مرة يدخل الدخان فمي، أكون قد رحت في خيالي لحشائش تلك الحديقة مترنمة مع نفسي بكلمات وايتمان، بكل الحرقة والتوسل مناجياً قبطانه.
   مضينا ندخن بين فم وآخر تبغ القبطان، ننظر لبعضنا دون أي رد فعل، وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن. عندما حضر صاحبي، شاركنا الجلوس وعرفته براشيل وكأنها جاءت معي. لا أتذكر فيما دار الحوار، ولكننا امضيناه بالثرثرة في كل شيء، حتى أعتذر الصديق بأن عليه المضي للتسوق قبل عودته للبيت.
اقترحت راشيل أن نمضي لمقهى في حي المهاجرين تعرفه جيداً. في الطريق حدثتني عن أنها أمريكية، جاءت منذ سنتين للدراسة في جامعة سلمانكا، وتمر بين حين وآخر لمدريد لزيارة أصدقاء لها ولتمضية الوقت في مقاهي ومطاعم العاصمة. أما زيارتها هذه فهي الأخيرة، فقد أنتهت زمالتها، وقررت أن تمضي الأسبوع الأخير في مدريد قبل أن تستقل طائرة عودتها بعد يومين حتى مشيغان.
   لم أدرك سوى تلك المرة أنني لا أعرف عن مدريد وأزقتها إلا القليل، بعد أن كنت أحسب نفسي عالماً بأسرار المدينة. مع راشيل في تلك الليلة جربت كل شيء، مررنا بأغلب بارات و أقبية المدينة السرية، حفظت أسماء المشروبات وطرق تحضير الكوكتيل، كيفية شربه وفي أية لحظة، موانع الخلط ما بين مشروب وآخر، رغم خبرتي في المشروبات أو هذا ما كنت أظنه، أزاء خبرة راشيل كنت طفلاً في القماط.
عرفت أننا أمضينا السهرة حتى فجر اليوم التالي عندما أخبرنا آخر نادل بأن البار سيغلق بابه بعد نصف ساعة. كانت الساعة تشير للسادسة صباحاً. كنا مجموعة من عشرة اشخاص، جنسيات مختلفة، لا رابط بيننا سوى الشراب والغناء والصراخ المتواصل. عندما خرجنا تفرق الجمع دون وداع ولا أية كلمة، وكأننا ما كنا نتصارخ قبل لحظات. كنا أنا وراشيل لوحدنا. دون تساؤل معين، حضنتني من خصري ومضت بايقاع أقدامي حتى شقتي. دخلنا الغرفة، خلعت بضربة واحدة ثوبها، وبقيت مرتدية سوتيانها ولباسها الأسودين ومضت للنوم مباشرة. قالت لي وكأنها جملة تخرج من لسان زوجة عاشت لسنين مع زوجها:
ـ ننام وعندما نستيقظ غداً سنتكلم.
قلت لها: تقصدين اليوم، نحن الآن...
ولم يكن من داع لإكمال جملتي، إذ رأيت راشيل تطوي يدها اليسرى تحت رأسها بمثابة مخدة وتغلق عينيها وتنام. كانت مثل آلهة رومانية ممدة، مع أختلاف أنها كانت ترتدي أروع قماش من الساتان الأسود.
مساء اليوم التالي وليله كنا في مواجهة بعضنا في الفراش. أيقظتني راشيل، كانت قد استحمت وتناولت شندويشاً وأحضرت لي آخر مع قهوة وعصير. كانت تتصرف وكأنها تعرف الشقة بشكل جيد، وقد عاشت فيها لأعوام معي.
قلت لها: كنت افضل قبلة بدل القهوة.
ضحكت وقالت لا تستعجل.. الآن إستمع:
البارحة لم أرد أن أقترب لانني لا أحب العشق بعد ليلة خدر.. شيء آخر أنا لي حكاية سأسردها عليك قبل أن أقبلك وهي التالية... أنا لم أنم مع رجل منذ ستة أشهر، قد يبدو لك غريباً ولكنها الحقيقة، ليس لنقص في إيجادهم أو لا رغبة جنسية لي، بل العكس، لكنني ما أن حلمت بذلك المنام حتى قررت مع نفسي أن لا أنام مع رجل حتى يتحقق حلمي. في ذلك الحلم مارست الحب مع رجل لم ألتقه بحياتي، ووصلت أقصى النشوة في الحلم لدرجة انني ما زلت أتذكر تفاصيله لحظة بلحظة.. في نهاية المنام قال لي الرجل الذي لم أتذكر من وجهه سوى إبتسامة غامضة ورائحة تبغه، قال لي: لا تجزعي ستجديني يوماً ما، فقط تصبري.
لا بد أن تدرك الآن الحكاية؛ يوم امس من مقعدي في المقهى، شممت رائحة التبغ أولاً وما أن التفت لأرى من أية وجهة تهب، التقيت بابتسامتك.. نفس تلك الإبتسامة التي غادرتني بها في المنام.. ولم أطق صبراً حتى اقتربت منك وطلبت أن ادخن من غليونك.. كنت أنتظرك منذ زمن.. وكل التفاصيل اللاحقة عشتها تماماً مثل حلمي، حلمنا ذاك.. تماماً.. حتى تفاصيل لقائنا الآن، وما أسرده عليك.. تماماً.. هذا كل ما في الأمر.
اقتربت اكثر منها، ومررت بأنفي في شعرها ورقبتها لأتنفس تفاصيلها التي تذكرها لي وكانها شبه نائمة.
سألتها: وهل للحلم من بقية؟
فتحت عينيها وابتسمت لي: لم نقطع من الحلم سوى البداية، بقي الأهم.. كله.
قصة لقائي أو حلمي براشيل ليس له من وصف، الحقيقة أننا لم نعد للحديث أطلاقاً، أمضينا يومها الأخير في إسبانيا دون ان نخرج من الفراش.
راشيل من تلك النساء التي لا يمكن أن تخطئها ما أن تراها بعد أكثر من عشرين سنة. لها تقاسيم وجه لا مثيل له، نمش يغطي الوجه، شعر كستنائي يميل للإحمرار، وجسد صغير ولكن ممتلئ محمص بالشمس تشك به لولد مراهق، لكن رؤية وتحسس رمانتيها تعيدانك للأرض الأولى وغواية الفاكهة المحرمة. كنت قد تركتها تقودني بدروب حلمها الذي رأته، ولم يكن لي من دور سوى الإنتظار والمشاركة بأمر من إصبع أو كلمة كأي ممثل ثانوي ينقاد لأوامر المخرج. وكانت ان أذاقتني كل فنون الحب التي أعرف والتي لم اتصور ان بالإمكان ممارستها، وكنت في كل تهدج، تقول لي كيف يمكنني أن أكون إبناً باراً لشهرزاد والف ليلة وليلة و انا لا أعرف هذا من ذاك. أعترف اليوم انني بعد تلك الليلة مع راشيل، خرجت معبئاً بتجربة لا يمكن الحصول عليها سوى من سيدة صالون عتيدة، وليس من شابة ضئيلة الحجم وبريئة وجه مثل راشيل.
قبل أن أنهزم أمام سطوة سحرها و غوايتها، قالت لي: هل تريد أن تذوق خاتمة المنام.
مررت بيدي علامة الهزيمة وانني رهن لجسدها. ما أن رأتني هكذا حتى تركتني ومضت لجلب أشياء من حقيبتها وفردته أمامي. ثم مضت للمطبخ وعادت منه بعلبة قشطة وقالت لي: لا تعترض ودعني أعمل ما مارسته معك في الحلم. أفردت لي على الأرض شرشف أبيض وطرحتني عليه، ثم دهنتني بالقشطة كل جسدي الظاهر والمخفي، ثم أستلت من حقيبتها أكياساً من السكر ورشتني بها.
أخبرتني أنها تحمل هذه الأكياس معها منذ ليلة المنام، وها قد حانت الفرصة.
ثم كأي جائع، بدأت بالتهامي شبراً شبراً، ما رأيت أن القشطة بامتزاجها بسكر اكياس راشل الخاصة، يتحول من الأبيض إلى اللون الوردي، ثم لوناً أحمر، ثم برتقالي ليعود مجدداً للونه الوردي. كانت في كل التهام شبر جديد تأن صارخة كحيوان جريح في غابة، وكنت في كل لقمة جديدة أصرخ كحيوان مدجن يكتشف الغابة الآن.
ما بين لعبتها ومن ثم ألعابي، لم ننتبه لأنفسنا إلا وقطط البناية، لا أعرف من اين دخلت، وقد بدأت تلحسنا و تحوم حولنا، حاولت أن أنهض لطردها أو لتغسيل جسدي، لكنها أمرتني أن أسكن. هربت القطط ما أن تمطت راشيل. دهنت جسدها من جديد بالقشطة ورشته بالسكر المتلون وصعدت فوقي. مدت يدها للعمود المتلون، منتصباً بكامل إرادته وادخلته في احراش غابتها المتلونة هي الأخرى، ولم أحس سوى بصراع القشطة مع القشطة، القشطة تدخل في القشطة، وطقطقات السكرات في الدخول والخروج... الخروج والدخول حتى ساعات من سفرها الذي لم يسعفنا سوى للحظات غسيل الجسد والركض حتى غرفة فندقها لتحمل أغراضها واساعدها بإستئجار تاكسي ليقلها حتى المطار.
وأنا أقبلها وهي تدخل التاكسي قلت لها: ولكنها ليست النهاية الحقيقية للحلم.. قلت انهما سيلتقيان.
قالت: عن أي حلم تتحدث... وبالتأكيد سيلتقيان، ولكن من يعرف ماذا يحصل في الخطوة القادمة.
ثم عصرتني بكل قوة جسدها الضئيل وبقيت للحظات تتشممني واغلقت بوابة التاكسي دون أن تنظر لوجهي.
بقيت عند الجادة نفسها لنصف ساعة، ساعة أو ساعات، مدخناً تبغ القبطان ومفكراً في الليلة دون جواب شافي.

الآن وانا بمواجهة ذكراها، أفكر وحسب كيف أمكنها أن تدس الصندوق ولم تكن تملك من الوقت سوى للخروج بكل سرعة حتى لا تفوتها طائرتها. لا أعرف من قال أن المرأة لا تمنح جسدها بسهولة، وإن منحته فليس من السهولة نسيانه. سرحت ممدداً على السرير وكيس السكر المطحون بيدي يتماوج بطقطقات لا يدركها إلا من أدمن تذوقه ولو لليلة واحدة وحسب.


* عبد الهادي سعدون كاتب عراقي مقيم في مدريد
ـ النص جزء من كتاب بعنوان (سكر الباه).




التعليق بقلم فضيلة الفاروق