سرديات عودة
متاهة مريم (الثلاثاء 22 أيار 2012)
-----------------
التعليق
-----------------
منصورة عز الدين
من خلف زجاج نظارته الطبية يرقب يوسف العالم، تتحرك عيناه الواسعتان ببطء، ويزيد من اتساعهما رافعاً حاجبيه كأنما يريد ابتلاع المشهد بأسره، أحياناً أخرى يبدو كمن لا يرى ما ينظر إليه ويظل محتمياً خلف نظارته الطبية.
في صيدليته الصغيرة يرص الأدوية. ويهمهم بكلمات غير مفهومة. ومن وقت لآخر ينصت للصوت الرائق الذي ينساب من المذياع، فيما تجلس مريم شاردة على كرسى مجاور لمكتبه تعد أصابعها، وتحاول ترديد الأغانى التي تعلمتها في المدرسة، لكنها تتراجع فجأة حين يرمقها يوسف بنظرة حادة كلما علا صوتها عن الحد المسموح به، فتغرق في صمتها الخاص. ويبدوان للزبائن كمن يتسابقان على الصمت.
عينا مريم الواسعتان تتابعان المارة في الشارع عبر الباب المفتوح دائماً، يعبر الأولاد والبنات الذين يلعبون معها ويشيرون لها فتتصرف كأنها لا تعرفهم، وتهرب بنظرتها إلى يوسف المنكب على قراءة الجرائد.
هي لا تعرف كيفية التصرف في يديها.. تضعهما بجوارها بلا حراك، أو تحركهما ببطء شديد كمن يتدرب على وجودهما. وتشعر بفائدتهما فقط حين يسحبها يوسف في طريقه إلى البيت الذي غادره دون السيارة. تمشي بجواره ناظرة إلى الأرض وهي تشعر بخجل غريب، وتتمنى ألا يراها أصدقاؤها معه.. لا تريد أن تقدم لهم دليلاً ملموساً على أنها ابنة تلك العائلة.. لم تعترف أبداً أن لذراع يوسف المبتورة علاقة بالأمر.
منذ البداية كانت تلاحظ أنه يصر على القيام بكل شىء وحده.. يأكل بيده الوحيدة ويمشط شعره ويشعل سيجارته، بل ويقود سيارته. كانت نرجس لا تلح عليه كثيراً، وتتركه كما يحب بعد أن أضاعت وقتاً لا بأس به من عمرها في محاولة معاونته، وعندما يئست وضعت همها في مريم، وتفرغت لها تماماً.
يوسف التاجي اسم خُلِق للشهرة أو لأن يكون بطلاً. لكن ما معنى البطولة؟ أتشبه السيناريوهات التي كانت تلفقها مريم لتبرير غياب الذراع الأخرى ليوسف؟
"فقدها في الجبهة" هكذا كانت تردد بصوت تبالغ في جديته وتجهمه حين تلمح نظرة متسائلة في عيون أصدقائها، فيصمتون تماماً تحت ثقل الكلمة التي تجلدهم بها مريم، ولا يطلبون إيضاحاً. اعتادت شيئاً فشيئاً رؤية كمه الأيسر الفارغ، لكنها لم تجرؤ أبداً على النظر إلى منبت ذراعه الخالى.
ترقبه وهو ينظف بندقيته العتيقة ولا تتكلم. يهدهدها كطفل صغير ويربت عليها. يقضي ساعات طويلة معها بينما تحوم مريم حوله دون أن يلتفت إليها. لم تناقش قط. لم تتساءل أية جبهة تلك التي فعلت به ذلك. كانت الخيوط تتجمع عندها شيئاً فشيئاً دون أن تحاول لضمها معا.. تتركها كشلة معقدة غير مترابطة. ترقب قطعاً بنية صغيرة تضبطها نرجس في جيوبه ثم تبدأ في الولولة، تذهب معه إلى غرز حقيرة لا تفهم أياً مما يدور فيها، تلمح زجاجات ضخمة عليها كلمات أجنبية وصور مبهمة في دولاب صغير بحجرة مكتبه دون أن تعرف ما علاقة ذلك بأى شىء.
لا تذكر مريم متى كانت أول مرة يقتحمها فيها معنى تلك الأشياء، ربما في ذلك الضحى حين سمعت نرجس، وهي تتشاجر معه. كانت تذكر شيئاً عنها، عن خطورة اصطحابه لها إلى تلك الأماكن. لم تكن تعرف أنها الأماكن الوحيدة التي يلتقى فيها يوسف بنفسه التي ضاعت منه ذات يوم، وعاش على أمل أن يلتقى بها يوماً ما.
لو أرادت مريم أن تطلق على يوسف لقباً يناسبه لاختارت "رجل الغموض". كان مغرماً بالاختفاء، مولعاً بالتلون لمجرد ألاّ يعرف أحد فيمَ يفكر. أكان طيباً أم شريراً؟ مغامراً كمقامر بلا قلب أم حذراً كقط؟ كلها أمور يصعب التكهن بها. أغلب الظن أن إدمانه للحشيش يرجع بالأساس لرغبته في الاختباء خلف سحب الدخان الكثيفة الداكنة. كانت الغرز الضيقة المعبّقة بالدخان الأزرق تمنحه إحساساً طاغياً بالغموض. يغادرها خفيفاً مرحاً محاطاً بهالة الغموض التي تقترب منه أكثر فأكثر حتى لتكاد تقضى عليه.
ككل الأطفال تعشق مريم الوضوح. لم تعترف أبداً بالمناطق الرمادية، لذا لم يتح لها الوقت لفهم يوسف أو الاقتراب منه. يسحبها خلفه من الصيدلية إلى البيت، إلى المقاهي التي تحمل أنفاسه، وأحياناً إلى بيت كوثر نفسه. ترافقه طوال الوقت لكنهما كانا أشبه بقطارين يسيران على شريطين متوازيين كل في اتجاه مخالف للآخر.
وحده بيت كوثر كان غريباً عنها. يصحبها يوسف إليه من وقت لآخر. تكون زياراته سريعة مبتسرة في وجودها. يغادر كوثر مع وعد بالعودة. إحساس عميق بالذنب كان يتملكها حين تسألها نرجس: أين ذهبت مع يوسف؟ فتضطر للكذب.
كانت تتأمل كوثر البيضاء المكتنزة وهي تضحك.. وهي تتكلم بصوتها ذي البحة المغرية دون أن تفهم سر علاقتها بيوسف، فقط أحست بحدس طفولتها أن في الأمر شيئاً ما غير ملائم، وإلا لماذا تكره نرجس تلك المرأة؟ ولماذا تغرق في جنونها حين يُذكر اسمها؟
على عكس ما تعتقده نرجس، بدت كوثر لمريم امرأة لطيفة، بها الكثير من الحنو والعطف. تعطيها الحلوى كلما ذهبت إليها، وتحتضنها بقوة، وهي تضحك موجهة حديثها إلى يوسف.
امرأة أخرى تمقتها نرجس وتتعلق بها مريم: نور خادمة صوفيا العجوز وكاتمة أسرار يوسف.
المرأة التي يناديها يوسف بنرجس لم تسمح لمريم أبداً بنطق اسم نور أمامها، كما لم تسمح لأحد بالسرايا بمجرد الإشارة إلى وجود كوثر.
لطالما اعتقدت أن تجاهلها لشىء أو شخص ما يعنى ببساطة أنه غير موجود، لذا أمعنت في محو أى أثر قد يدل على كوثر. ومنذ أن هجرها يوسف إليها صارت امرأة أخرى. لم تعد الفتاة النضرة التي دخلت سرايا التاجي لأول مرة.
بعد مرور هذه السنين صارت تشبه السرايا المليئة بالسراديب والفخاخ. والآن بعد ارتماء يوسف تماماً في أحضان كوثر، توغلت هي في ابتعادها عن صورتها الأولى، صارت أكثر اهتماماً بالتفاصيل.. تقف في المطبخ لمتابعة الخادمة، وهي تعد الطعام وتسأل عن أسعار الخضروات والفاكهة بعدوانية غريبة عليها. تغسل الزهور البلاستيكية بنفسها. وتتفحص طلاء الحوائط للتأكد من ثباته. وقبل كل شىء أخذت تحاكي صوفيا في عنايتها بالحديقة وإن فعلت ذلك بطريقة مختلفة.
كانت تروى شجيرات الورد وأشجار الخوخ والمانجو واللوز باستمرار، وتمسح الأوراق بحدب، وتمنع مقص الجنايني من الاقتراب منها لتهذيبها.. تركت الأشجار والحشائش تتوحش وتتعملق محولة الحديقة الى أحراش مصغرة.
بدت كشخص يرغب في التلاشي بأن يعملق الأشياء من حوله، وللتأكيد على ذلك اعتادت أن تجلس وسط غابة صغيرة من أشجار الليمون المتشابكة متقوقعة على نفسها ناظرة إلى الأفق أمامها بلا كلمة واحدة، ثم لا تلبث أن تجمع حبات الليمون من الأشجار في سلة صغيرة، وتضعها على رخامة المطبخ بجوار الخادمة التي تتجاهل السلة، وتتركها حتى تيبس ثمراتها، فتراها نرجس دون أن تعلق.
بدأت تحصى خسائرها التي تراكمت مع سنوات زواجها. كانت تعلم أن الزواج سيفقدها نفسها لكنها اندمجت فيه بكليتها. تراجعت عن أحلامها في إنجاز رسالة ماجستير في الأدب الإنجليزى عن ويليام بليك. واستغرقتها ثنايا عائلة التاجي والآن فقط عادت كالجندى الذي خاض معارك هائلة ثم اكتشف فجأة أن الانتصارات لم تصب في حسابه هو بل في حساب قائده.
يعرف يوسف قبل الجميع أن نرجس تعشق نفسها.. تعشق الفتاة الصغيرة ذات الثمانية عشر ربيعاً التي كانتها. أرادت أن تقف ذاتها وتجربتها عند ذلك السن وتلك الشخصية، لذا لم ترغب أبداً رغم حبها ليوسف أن تدخل في حالة عشق كاملة معه. لم تحب أن تذوب فيه، ونظرت له دائماً كشخص يحاول أن يسرق منها البنت التي كانتها وظلت تعشقها.
أثناء حملها بمريم أدركت نرجس أنها على أعتاب تجربة مرعبة. كانت تصحو كل صباح لتقف عارية أمام المرآة، تراقب التطورات التي تطرأ على جسدها.. تضغط على بطنها كأنها ترغب في زوال هذا النتوء الطارئ.. أقلقها صدرها وقد أخذ ينمو، لكنها لم تكره الحمل إلا مع تحول الدائرتين الورديتين المحيطتين بحلمتيها إلى اللون البنى الداكن. عرفت أنها فقدت جزءاً منها لن تستعيده مرة أخرى. وحين ازداد بطنها نتوءاً أخذت ترقب سرتها بهلع.. لم تعد ذلك الجزء الغائر الصغير الذي يتصدر بطنها.. بدأت تبرز للخارج متحولة بدورها إلى نتوء آخر أصغر يتوسط النتوء الأكبر.
ارتعبت نرجس من فكرة أن جسدها قد لا يعود أبداً إلى سيرته الأولى.. لم تكن تفهم ما الذي يحدث له؟ ولم تستوعب فكرة أنه متحول غير ثابت بداية من الطمث إلى الحمل والولادة وما يتبعهما.. هذا التحول أفقدها لذة امتلاك جسد واحد متماسك بلا تغيرات جوهرية تطرأ عليه.. جسد لا يخدعها ويتغير مرة كل شهر غارقاً في أسراره الخاصة، ولا يتواطأ مع يوسف عليها واضعاً إياها أمام امرأة أخرى ذات بطن منتفخ، ظلت تراقبها في المرآة لمدة سبعة أشهر.
بعد شهر من ولادتها لمريم، استيقظت نرجس من نومها على سرب من النمل الأسود الصغير يزحف على ذراعها اليسرى باتجاه الكتف.. صرخت بهلع وهي تحملق في الخيط الأسود المتراص والزاحف بانتظام، وجرت إلى الحمام تاركة جسدها للمياه في ذلك الصباح الشتوى القارس. فتّشت كل بوصة في حجرتها فلم تجد أثراً للنمل، لذا قررت أن تدع هذا الحادث الطارئ خلف ظهرها، واستسلمت لإيقاع حياتها الهادئ، لكنها فوجئت فجر اليوم التالى بهجوم أشد ضراوة من سابقه، إذ أحست بلدغات حامية في أجزاء متفرقة من جسدها، وأبصرت جيوشاً هائلة من النمل تغطيه بالكامل.
كان النمل يتحرك في خيوط متشعبة تتجه جميعاً نحو قلبها كأنما تبتغي التهامه.. نمل شرس مراوغ لا أثر له خارج حدود الحيز الذي تشغله هي كأنه نبت من العدم بهدف وحيد لم تدركه تماماً، لكنها خافت من مجرد تخيله.
دفعها الخوف إلى الاندماج في اللعبة بكليتها.. انتظرت أسراب النمل في الليالي التالية إلا أنها لم تأت. وعندما كفت عن الانتظار استيقظت على صرخة مكتومة في غرفتها المظلمة لتجد سرباً صغيراً من النمل يقتات على ثديها الأيسر، وآخر يغطي فمها، فجلست ترتعش من شدة الرعب.
اعتقدت أن رائحة اللبن في ثدييها تجذب النمل الذي ينتظر الفرصة الملائمة لالتهامها، لكنها لم تفهم أبداً كيف تظهر تلك الكائنات المثابرة التي تنتهكها ليلاً في فصل الشتاء؟ استسلام جسدها لدغدغات النمل تلك فاق كل خياناته السابقة لها. بدا في جزء منه متشوقاً لفهم ما يحدث، ومتلهفاً لقطع الشوط لآخره، رغم ألمها الشديد من اللدغات المتعاقبة، ورعبها من الصراخ المكتوم الذي تسمعه في ظلام غرفتها الدامس.
حلمت أنها تسير عارية في طريق معتم.. تشعر بالكاد بحركتها فيه، وفجأة وجدت نفسها تتحرك في بقعة ضوء حدودها مكونة من نمل عملاق يستعد لالتهامها، ثم أخذ جسدها الذي عاد جميلاً يتبدل حاملاً في كل مرة هيئة غريبة عليه تماماً. رفعت ذراعها اليسرى إلى فمها وبدأت في التهامها غير عابئة بالدماء النازفة منها وانتقلت إلى الذراع الأخرى، ثم إلى ساقيها وجذعها، وتمهلت وهي تلتهم قلبها المرتعش إلى أن تلاشت مخلفة وراءها بقعة دماء قانية لعقها النمل العملاق حتى انمحت.
باتت نرجس تكره جسدها أكثر من أي وقت مضى.. تراقب الطفلة الصغيرة الراقدة بجوارها، وهي تحاول أن تقنع نفسها أنها منذ شهر فقط كانت بداخلها. تشعر أن ثدييها ثقيلان جداً وأنها غير قادرة على فعل أي شىء حيال ذلك..
ارتبط ذلك الألم الخفيف الذي ينغزها وتلك الكائنات الدقيقة التي تحاول التهامها ليلاً باللبن المعبأ في ثدييها، الأمر الذي زاد من اغترابها عن جسدها، ثم تضاعفت مشاكلها بالأحلام المخيفة التي تهاجمها ليلا، وتدور جميعها في إطار فقدها لوليدتها بسبب إهمالها الجسيم. هو بالأحرى حلم واحد يتكرر في الليلة الواحدة عشرات المرات: ترى مريم تستجير من فرط الألم.. تنطلق من فمها صرخات شديدة متقطعة لا يكاد يحتملها قلبها الصغير، تجرى إليها نرجس راغبة في احتضانها، إلا أنها ورغماً عنها تقّربها من فمها، وتبتلعها دفعة واحدة، تتحول إلى مقبرة لها. ترتعب من فكرة ابتلاعها لطفلتها لكنها أيضا وبالدرجة نفسها تكاد تموت خوفاً من فكرة أن بطنها ممتلئ بها مرة أخرى. هل يعني هذا أنها ستتعرض لتجربة الوضع الأليمة من جديد؟ هل يعني أن ابنتها ستموت على يديها؟
تستيقظ نرجس صارخة ولا تهدأ إلا بسماعها بكاء مريم –الراقد بجوارها- المنزعج من صراخها المفاجئ. لم تحك لأحد هذا الحلم خوفاً من تحققه لكنها لم تنسه لحظة واحدة. كلما نظرت إلى مريم سألت نفسها ما الشىء الفظيع الذي سوف أرتكبه في حقها؟ وكان هذا هو الشىء الوحيد الذي يخرجها من سجن انشغالها بذاتها.
* * *
حين ماتت صوفيا كانت نرجس بجوارها مع يوسف والخادمة نور ومريم الصغيرة. كانت صوفيا قد تحولت إلى هيكل عظمي تنبعث منه روائح عفنة وتنتظر أن تبارحها الروح.. أخذت تجيل بصرها فيهم وعيونها تحمل دمعة معلقة وغير مفهومة.. ومن بين الجميع اختارت نرجس لتتوقف نظرتها أمامها، كأنما أرادت أن تخبرها بشىء محدد، لكنها لم تكن قادرة على الكلام.
بدا الموت لنرجس مريعاً ولا إنسانياً، ورغم ذلك تمنت أن تموت شابة دون مرض ما.. كانت غير راغبة في أن تشهد المزيد من الدلائل على خيانة جسدها لها. لم تود أبداً أن تكون شاهدة على تهاويه وذبوله وتحوله إلى ما يشبه الجيفة البعيدة تماماً عن الجسد الحبيب والمخيف الذي ألفته وتعايشت معه.
أغمضت صوفيا عينيها للمرة الأخيرة فارتعش جسد يوسف وطفرت دمعة من عينيه لكنه لم يبك.. لم ينظر إلى عينيّ نرجس وهرب من عيون مريم ونور كأن التقاء الأعين سيدمغ موت صوفيا ويؤكده.. جلس بجوار جثتها بعض الوقت يمسّد شعرها الأشيب، ويسحب الغطاء لتغطيتها قبل أن يعود مرة أخرى لدفعه بعيداً عنها كى يراها لمرة أخيرة تكررت خمس مرات.
بعدها انسحب إلى مكتبه. اعتاد أن يجلس وحيداً فيه لمدة أسبوعين. لم يتبادل فيهما كلمة واحدة مع أي شخص رغم محاولات نرجس الدءوب. بعد هذين الأسبوعين، وبينما تتناول طعام الإفطار هي ومريم بالفراندة، فوجئتا به يخرج حليقاً مرتدياً ملابس جديدة.
جلس معهما، وبلا مقدمات أخذ يحكى عن حياته.. عن طفولته في هذا البيت وعلاقته بصوفيا والأشياء التي يحبها، وتلك التي يكرهها. أشياء كثيرة تحفظها نرجس لكنها أنصتت كأنما تسمعها للمرة الأولى. بدا يوسف كما لو كان يرغب في مقاومة الفناء بإعادة تعريف نفسه.
لفترة من الوقت لم يقترب من غرفة صوفيا. كما لم يخرج من البيت لزيارة كوثر التي كانت تبعث له برسائلها مع نور فلا يرد عليها. لكنه في النهاية عاد إلى سيرته الأولى من جديد من السهر في الغرز الحقيرة ومواصلة علاقته بكوثر، فبدأت نرجس مرحلة أخرى من التجهم والإمعان في الغياب.
صارت تقضى معظم وقتها أمام التليفزيون.. تندمج كليةً مع شخصيات الأفلام والمسلسلات، تبكي بحرقة لأبسط مشهد تراه مؤثراً.. تختار شخصيات معينة وتقلدها دون وعي منها.. عندما شاهدت "ذهب مع الريح" بدأت تتعامل مع نفسها على أنها سكارليت أوهارا، لكنها لم تستمر طويلاً في هذا الدور لأنها لم تمتلك البأس الذي يمكنها من مواصلة تقمص تلك الشخصية القوية، خاصة أنها لم تجد من يعشقها كما فعل كلارك جيبل مع فيفيان لي في الفيلم، وأحنقها أنها اكتشفت أن دور أوليفيا دي هافيلاند أو "ميلانى" يناسبها أكثر، فانتقلت إلى المسلسلات، واختارت الشخصيات الأضعف دائما كي تحاكيها في تعبيرات وجهها وحركات يديها وأحياناً ملابسها وتصفيفة شعرها.
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------
فصل من رواية "متاهة مريم" للروائية المصرية منصورة عز الدين، صدرت عن دار ميريت 2004، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر 2010.
من خلف زجاج نظارته الطبية يرقب يوسف العالم، تتحرك عيناه الواسعتان ببطء، ويزيد من اتساعهما رافعاً حاجبيه كأنما يريد ابتلاع المشهد بأسره، أحياناً أخرى يبدو كمن لا يرى ما ينظر إليه ويظل محتمياً خلف نظارته الطبية.
في صيدليته الصغيرة يرص الأدوية. ويهمهم بكلمات غير مفهومة. ومن وقت لآخر ينصت للصوت الرائق الذي ينساب من المذياع، فيما تجلس مريم شاردة على كرسى مجاور لمكتبه تعد أصابعها، وتحاول ترديد الأغانى التي تعلمتها في المدرسة، لكنها تتراجع فجأة حين يرمقها يوسف بنظرة حادة كلما علا صوتها عن الحد المسموح به، فتغرق في صمتها الخاص. ويبدوان للزبائن كمن يتسابقان على الصمت.
عينا مريم الواسعتان تتابعان المارة في الشارع عبر الباب المفتوح دائماً، يعبر الأولاد والبنات الذين يلعبون معها ويشيرون لها فتتصرف كأنها لا تعرفهم، وتهرب بنظرتها إلى يوسف المنكب على قراءة الجرائد.
هي لا تعرف كيفية التصرف في يديها.. تضعهما بجوارها بلا حراك، أو تحركهما ببطء شديد كمن يتدرب على وجودهما. وتشعر بفائدتهما فقط حين يسحبها يوسف في طريقه إلى البيت الذي غادره دون السيارة. تمشي بجواره ناظرة إلى الأرض وهي تشعر بخجل غريب، وتتمنى ألا يراها أصدقاؤها معه.. لا تريد أن تقدم لهم دليلاً ملموساً على أنها ابنة تلك العائلة.. لم تعترف أبداً أن لذراع يوسف المبتورة علاقة بالأمر.
منذ البداية كانت تلاحظ أنه يصر على القيام بكل شىء وحده.. يأكل بيده الوحيدة ويمشط شعره ويشعل سيجارته، بل ويقود سيارته. كانت نرجس لا تلح عليه كثيراً، وتتركه كما يحب بعد أن أضاعت وقتاً لا بأس به من عمرها في محاولة معاونته، وعندما يئست وضعت همها في مريم، وتفرغت لها تماماً.
يوسف التاجي اسم خُلِق للشهرة أو لأن يكون بطلاً. لكن ما معنى البطولة؟ أتشبه السيناريوهات التي كانت تلفقها مريم لتبرير غياب الذراع الأخرى ليوسف؟
"فقدها في الجبهة" هكذا كانت تردد بصوت تبالغ في جديته وتجهمه حين تلمح نظرة متسائلة في عيون أصدقائها، فيصمتون تماماً تحت ثقل الكلمة التي تجلدهم بها مريم، ولا يطلبون إيضاحاً. اعتادت شيئاً فشيئاً رؤية كمه الأيسر الفارغ، لكنها لم تجرؤ أبداً على النظر إلى منبت ذراعه الخالى.
ترقبه وهو ينظف بندقيته العتيقة ولا تتكلم. يهدهدها كطفل صغير ويربت عليها. يقضي ساعات طويلة معها بينما تحوم مريم حوله دون أن يلتفت إليها. لم تناقش قط. لم تتساءل أية جبهة تلك التي فعلت به ذلك. كانت الخيوط تتجمع عندها شيئاً فشيئاً دون أن تحاول لضمها معا.. تتركها كشلة معقدة غير مترابطة. ترقب قطعاً بنية صغيرة تضبطها نرجس في جيوبه ثم تبدأ في الولولة، تذهب معه إلى غرز حقيرة لا تفهم أياً مما يدور فيها، تلمح زجاجات ضخمة عليها كلمات أجنبية وصور مبهمة في دولاب صغير بحجرة مكتبه دون أن تعرف ما علاقة ذلك بأى شىء.
لا تذكر مريم متى كانت أول مرة يقتحمها فيها معنى تلك الأشياء، ربما في ذلك الضحى حين سمعت نرجس، وهي تتشاجر معه. كانت تذكر شيئاً عنها، عن خطورة اصطحابه لها إلى تلك الأماكن. لم تكن تعرف أنها الأماكن الوحيدة التي يلتقى فيها يوسف بنفسه التي ضاعت منه ذات يوم، وعاش على أمل أن يلتقى بها يوماً ما.
لو أرادت مريم أن تطلق على يوسف لقباً يناسبه لاختارت "رجل الغموض". كان مغرماً بالاختفاء، مولعاً بالتلون لمجرد ألاّ يعرف أحد فيمَ يفكر. أكان طيباً أم شريراً؟ مغامراً كمقامر بلا قلب أم حذراً كقط؟ كلها أمور يصعب التكهن بها. أغلب الظن أن إدمانه للحشيش يرجع بالأساس لرغبته في الاختباء خلف سحب الدخان الكثيفة الداكنة. كانت الغرز الضيقة المعبّقة بالدخان الأزرق تمنحه إحساساً طاغياً بالغموض. يغادرها خفيفاً مرحاً محاطاً بهالة الغموض التي تقترب منه أكثر فأكثر حتى لتكاد تقضى عليه.
ككل الأطفال تعشق مريم الوضوح. لم تعترف أبداً بالمناطق الرمادية، لذا لم يتح لها الوقت لفهم يوسف أو الاقتراب منه. يسحبها خلفه من الصيدلية إلى البيت، إلى المقاهي التي تحمل أنفاسه، وأحياناً إلى بيت كوثر نفسه. ترافقه طوال الوقت لكنهما كانا أشبه بقطارين يسيران على شريطين متوازيين كل في اتجاه مخالف للآخر.
وحده بيت كوثر كان غريباً عنها. يصحبها يوسف إليه من وقت لآخر. تكون زياراته سريعة مبتسرة في وجودها. يغادر كوثر مع وعد بالعودة. إحساس عميق بالذنب كان يتملكها حين تسألها نرجس: أين ذهبت مع يوسف؟ فتضطر للكذب.
كانت تتأمل كوثر البيضاء المكتنزة وهي تضحك.. وهي تتكلم بصوتها ذي البحة المغرية دون أن تفهم سر علاقتها بيوسف، فقط أحست بحدس طفولتها أن في الأمر شيئاً ما غير ملائم، وإلا لماذا تكره نرجس تلك المرأة؟ ولماذا تغرق في جنونها حين يُذكر اسمها؟
على عكس ما تعتقده نرجس، بدت كوثر لمريم امرأة لطيفة، بها الكثير من الحنو والعطف. تعطيها الحلوى كلما ذهبت إليها، وتحتضنها بقوة، وهي تضحك موجهة حديثها إلى يوسف.
امرأة أخرى تمقتها نرجس وتتعلق بها مريم: نور خادمة صوفيا العجوز وكاتمة أسرار يوسف.
المرأة التي يناديها يوسف بنرجس لم تسمح لمريم أبداً بنطق اسم نور أمامها، كما لم تسمح لأحد بالسرايا بمجرد الإشارة إلى وجود كوثر.
لطالما اعتقدت أن تجاهلها لشىء أو شخص ما يعنى ببساطة أنه غير موجود، لذا أمعنت في محو أى أثر قد يدل على كوثر. ومنذ أن هجرها يوسف إليها صارت امرأة أخرى. لم تعد الفتاة النضرة التي دخلت سرايا التاجي لأول مرة.
بعد مرور هذه السنين صارت تشبه السرايا المليئة بالسراديب والفخاخ. والآن بعد ارتماء يوسف تماماً في أحضان كوثر، توغلت هي في ابتعادها عن صورتها الأولى، صارت أكثر اهتماماً بالتفاصيل.. تقف في المطبخ لمتابعة الخادمة، وهي تعد الطعام وتسأل عن أسعار الخضروات والفاكهة بعدوانية غريبة عليها. تغسل الزهور البلاستيكية بنفسها. وتتفحص طلاء الحوائط للتأكد من ثباته. وقبل كل شىء أخذت تحاكي صوفيا في عنايتها بالحديقة وإن فعلت ذلك بطريقة مختلفة.
كانت تروى شجيرات الورد وأشجار الخوخ والمانجو واللوز باستمرار، وتمسح الأوراق بحدب، وتمنع مقص الجنايني من الاقتراب منها لتهذيبها.. تركت الأشجار والحشائش تتوحش وتتعملق محولة الحديقة الى أحراش مصغرة.
بدت كشخص يرغب في التلاشي بأن يعملق الأشياء من حوله، وللتأكيد على ذلك اعتادت أن تجلس وسط غابة صغيرة من أشجار الليمون المتشابكة متقوقعة على نفسها ناظرة إلى الأفق أمامها بلا كلمة واحدة، ثم لا تلبث أن تجمع حبات الليمون من الأشجار في سلة صغيرة، وتضعها على رخامة المطبخ بجوار الخادمة التي تتجاهل السلة، وتتركها حتى تيبس ثمراتها، فتراها نرجس دون أن تعلق.
بدأت تحصى خسائرها التي تراكمت مع سنوات زواجها. كانت تعلم أن الزواج سيفقدها نفسها لكنها اندمجت فيه بكليتها. تراجعت عن أحلامها في إنجاز رسالة ماجستير في الأدب الإنجليزى عن ويليام بليك. واستغرقتها ثنايا عائلة التاجي والآن فقط عادت كالجندى الذي خاض معارك هائلة ثم اكتشف فجأة أن الانتصارات لم تصب في حسابه هو بل في حساب قائده.
يعرف يوسف قبل الجميع أن نرجس تعشق نفسها.. تعشق الفتاة الصغيرة ذات الثمانية عشر ربيعاً التي كانتها. أرادت أن تقف ذاتها وتجربتها عند ذلك السن وتلك الشخصية، لذا لم ترغب أبداً رغم حبها ليوسف أن تدخل في حالة عشق كاملة معه. لم تحب أن تذوب فيه، ونظرت له دائماً كشخص يحاول أن يسرق منها البنت التي كانتها وظلت تعشقها.
أثناء حملها بمريم أدركت نرجس أنها على أعتاب تجربة مرعبة. كانت تصحو كل صباح لتقف عارية أمام المرآة، تراقب التطورات التي تطرأ على جسدها.. تضغط على بطنها كأنها ترغب في زوال هذا النتوء الطارئ.. أقلقها صدرها وقد أخذ ينمو، لكنها لم تكره الحمل إلا مع تحول الدائرتين الورديتين المحيطتين بحلمتيها إلى اللون البنى الداكن. عرفت أنها فقدت جزءاً منها لن تستعيده مرة أخرى. وحين ازداد بطنها نتوءاً أخذت ترقب سرتها بهلع.. لم تعد ذلك الجزء الغائر الصغير الذي يتصدر بطنها.. بدأت تبرز للخارج متحولة بدورها إلى نتوء آخر أصغر يتوسط النتوء الأكبر.
ارتعبت نرجس من فكرة أن جسدها قد لا يعود أبداً إلى سيرته الأولى.. لم تكن تفهم ما الذي يحدث له؟ ولم تستوعب فكرة أنه متحول غير ثابت بداية من الطمث إلى الحمل والولادة وما يتبعهما.. هذا التحول أفقدها لذة امتلاك جسد واحد متماسك بلا تغيرات جوهرية تطرأ عليه.. جسد لا يخدعها ويتغير مرة كل شهر غارقاً في أسراره الخاصة، ولا يتواطأ مع يوسف عليها واضعاً إياها أمام امرأة أخرى ذات بطن منتفخ، ظلت تراقبها في المرآة لمدة سبعة أشهر.
بعد شهر من ولادتها لمريم، استيقظت نرجس من نومها على سرب من النمل الأسود الصغير يزحف على ذراعها اليسرى باتجاه الكتف.. صرخت بهلع وهي تحملق في الخيط الأسود المتراص والزاحف بانتظام، وجرت إلى الحمام تاركة جسدها للمياه في ذلك الصباح الشتوى القارس. فتّشت كل بوصة في حجرتها فلم تجد أثراً للنمل، لذا قررت أن تدع هذا الحادث الطارئ خلف ظهرها، واستسلمت لإيقاع حياتها الهادئ، لكنها فوجئت فجر اليوم التالى بهجوم أشد ضراوة من سابقه، إذ أحست بلدغات حامية في أجزاء متفرقة من جسدها، وأبصرت جيوشاً هائلة من النمل تغطيه بالكامل.
كان النمل يتحرك في خيوط متشعبة تتجه جميعاً نحو قلبها كأنما تبتغي التهامه.. نمل شرس مراوغ لا أثر له خارج حدود الحيز الذي تشغله هي كأنه نبت من العدم بهدف وحيد لم تدركه تماماً، لكنها خافت من مجرد تخيله.
دفعها الخوف إلى الاندماج في اللعبة بكليتها.. انتظرت أسراب النمل في الليالي التالية إلا أنها لم تأت. وعندما كفت عن الانتظار استيقظت على صرخة مكتومة في غرفتها المظلمة لتجد سرباً صغيراً من النمل يقتات على ثديها الأيسر، وآخر يغطي فمها، فجلست ترتعش من شدة الرعب.
اعتقدت أن رائحة اللبن في ثدييها تجذب النمل الذي ينتظر الفرصة الملائمة لالتهامها، لكنها لم تفهم أبداً كيف تظهر تلك الكائنات المثابرة التي تنتهكها ليلاً في فصل الشتاء؟ استسلام جسدها لدغدغات النمل تلك فاق كل خياناته السابقة لها. بدا في جزء منه متشوقاً لفهم ما يحدث، ومتلهفاً لقطع الشوط لآخره، رغم ألمها الشديد من اللدغات المتعاقبة، ورعبها من الصراخ المكتوم الذي تسمعه في ظلام غرفتها الدامس.
حلمت أنها تسير عارية في طريق معتم.. تشعر بالكاد بحركتها فيه، وفجأة وجدت نفسها تتحرك في بقعة ضوء حدودها مكونة من نمل عملاق يستعد لالتهامها، ثم أخذ جسدها الذي عاد جميلاً يتبدل حاملاً في كل مرة هيئة غريبة عليه تماماً. رفعت ذراعها اليسرى إلى فمها وبدأت في التهامها غير عابئة بالدماء النازفة منها وانتقلت إلى الذراع الأخرى، ثم إلى ساقيها وجذعها، وتمهلت وهي تلتهم قلبها المرتعش إلى أن تلاشت مخلفة وراءها بقعة دماء قانية لعقها النمل العملاق حتى انمحت.
باتت نرجس تكره جسدها أكثر من أي وقت مضى.. تراقب الطفلة الصغيرة الراقدة بجوارها، وهي تحاول أن تقنع نفسها أنها منذ شهر فقط كانت بداخلها. تشعر أن ثدييها ثقيلان جداً وأنها غير قادرة على فعل أي شىء حيال ذلك..
ارتبط ذلك الألم الخفيف الذي ينغزها وتلك الكائنات الدقيقة التي تحاول التهامها ليلاً باللبن المعبأ في ثدييها، الأمر الذي زاد من اغترابها عن جسدها، ثم تضاعفت مشاكلها بالأحلام المخيفة التي تهاجمها ليلا، وتدور جميعها في إطار فقدها لوليدتها بسبب إهمالها الجسيم. هو بالأحرى حلم واحد يتكرر في الليلة الواحدة عشرات المرات: ترى مريم تستجير من فرط الألم.. تنطلق من فمها صرخات شديدة متقطعة لا يكاد يحتملها قلبها الصغير، تجرى إليها نرجس راغبة في احتضانها، إلا أنها ورغماً عنها تقّربها من فمها، وتبتلعها دفعة واحدة، تتحول إلى مقبرة لها. ترتعب من فكرة ابتلاعها لطفلتها لكنها أيضا وبالدرجة نفسها تكاد تموت خوفاً من فكرة أن بطنها ممتلئ بها مرة أخرى. هل يعني هذا أنها ستتعرض لتجربة الوضع الأليمة من جديد؟ هل يعني أن ابنتها ستموت على يديها؟
تستيقظ نرجس صارخة ولا تهدأ إلا بسماعها بكاء مريم –الراقد بجوارها- المنزعج من صراخها المفاجئ. لم تحك لأحد هذا الحلم خوفاً من تحققه لكنها لم تنسه لحظة واحدة. كلما نظرت إلى مريم سألت نفسها ما الشىء الفظيع الذي سوف أرتكبه في حقها؟ وكان هذا هو الشىء الوحيد الذي يخرجها من سجن انشغالها بذاتها.
* * *
حين ماتت صوفيا كانت نرجس بجوارها مع يوسف والخادمة نور ومريم الصغيرة. كانت صوفيا قد تحولت إلى هيكل عظمي تنبعث منه روائح عفنة وتنتظر أن تبارحها الروح.. أخذت تجيل بصرها فيهم وعيونها تحمل دمعة معلقة وغير مفهومة.. ومن بين الجميع اختارت نرجس لتتوقف نظرتها أمامها، كأنما أرادت أن تخبرها بشىء محدد، لكنها لم تكن قادرة على الكلام.
بدا الموت لنرجس مريعاً ولا إنسانياً، ورغم ذلك تمنت أن تموت شابة دون مرض ما.. كانت غير راغبة في أن تشهد المزيد من الدلائل على خيانة جسدها لها. لم تود أبداً أن تكون شاهدة على تهاويه وذبوله وتحوله إلى ما يشبه الجيفة البعيدة تماماً عن الجسد الحبيب والمخيف الذي ألفته وتعايشت معه.
أغمضت صوفيا عينيها للمرة الأخيرة فارتعش جسد يوسف وطفرت دمعة من عينيه لكنه لم يبك.. لم ينظر إلى عينيّ نرجس وهرب من عيون مريم ونور كأن التقاء الأعين سيدمغ موت صوفيا ويؤكده.. جلس بجوار جثتها بعض الوقت يمسّد شعرها الأشيب، ويسحب الغطاء لتغطيتها قبل أن يعود مرة أخرى لدفعه بعيداً عنها كى يراها لمرة أخيرة تكررت خمس مرات.
بعدها انسحب إلى مكتبه. اعتاد أن يجلس وحيداً فيه لمدة أسبوعين. لم يتبادل فيهما كلمة واحدة مع أي شخص رغم محاولات نرجس الدءوب. بعد هذين الأسبوعين، وبينما تتناول طعام الإفطار هي ومريم بالفراندة، فوجئتا به يخرج حليقاً مرتدياً ملابس جديدة.
جلس معهما، وبلا مقدمات أخذ يحكى عن حياته.. عن طفولته في هذا البيت وعلاقته بصوفيا والأشياء التي يحبها، وتلك التي يكرهها. أشياء كثيرة تحفظها نرجس لكنها أنصتت كأنما تسمعها للمرة الأولى. بدا يوسف كما لو كان يرغب في مقاومة الفناء بإعادة تعريف نفسه.
لفترة من الوقت لم يقترب من غرفة صوفيا. كما لم يخرج من البيت لزيارة كوثر التي كانت تبعث له برسائلها مع نور فلا يرد عليها. لكنه في النهاية عاد إلى سيرته الأولى من جديد من السهر في الغرز الحقيرة ومواصلة علاقته بكوثر، فبدأت نرجس مرحلة أخرى من التجهم والإمعان في الغياب.
صارت تقضى معظم وقتها أمام التليفزيون.. تندمج كليةً مع شخصيات الأفلام والمسلسلات، تبكي بحرقة لأبسط مشهد تراه مؤثراً.. تختار شخصيات معينة وتقلدها دون وعي منها.. عندما شاهدت "ذهب مع الريح" بدأت تتعامل مع نفسها على أنها سكارليت أوهارا، لكنها لم تستمر طويلاً في هذا الدور لأنها لم تمتلك البأس الذي يمكنها من مواصلة تقمص تلك الشخصية القوية، خاصة أنها لم تجد من يعشقها كما فعل كلارك جيبل مع فيفيان لي في الفيلم، وأحنقها أنها اكتشفت أن دور أوليفيا دي هافيلاند أو "ميلانى" يناسبها أكثر، فانتقلت إلى المسلسلات، واختارت الشخصيات الأضعف دائما كي تحاكيها في تعبيرات وجهها وحركات يديها وأحياناً ملابسها وتصفيفة شعرها.
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------
فصل من رواية "متاهة مريم" للروائية المصرية منصورة عز الدين، صدرت عن دار ميريت 2004، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر 2010.
التعليق