سرديات عودة
"الغرق" (الخميس 26 نيسان 2012)
-------------
خالد ساحلي
كنت قلقا، أؤكد قلقي كان عنيفا، صراع مرير قاتل، حرب داخلية تهد كل مقاومتي. لم أشأ فتح كراسته، قاومت رغبتي، كلما زادت المقاومة كلما زاد إلحاحي على تصفحها، لم أشعر يوما بالتردد، الخوف أخترق باطني، أفقدني توازني، تدميره شامل.
ترتعش أصابعي كورقة تعبث بها الرياح في موسم الخريف، أحاول جاهدا تحطيم الجدار المعيق لرغبتي الكابح لها، أرفد معنوياتي المنهارة المجرورة مع الضعف، أمسك كراسته أقرّبها مني أكثر، أجس دفتيها أستشعر الحنين المكتنز من زمان لليدين اللتين حملتها كثيرا، أقعدها في حنان على ركبتي، أمرر أصابع يدي على هيكلها الخارجي لعلّ روحه تبعث مجددا من مكان في هذا العالم، أعيرها إحساسي وأعماقي، هذا الوعاء الكبير المختزن للماضي لتسكنه ويحيا صديقي من جديد. الحياة ليست سهلة فهي مليئة بالحركة والأنين والألم والتعب، التعب لا شك يحمل الراحة في الاستزادة من قوى التحمل، الألم دليل رفض.
أليست العلامات قيام سائر للهلاك، أليس الهلاك رسول مأمور يؤدي وظيفته دون الحياد عن طريق القدر المرسوم من الله؟ أسئلة مقلقة.
أحمل كراسته بين يدي، أشعر بموج حنينه يخرج إلى شاطئ البوح، لؤلؤ وجدانيٌ، يحكي للشمس حكاية خطوط الرمل لأيامه، طيور أحزان محلّقة متعبة. أشعر بنبضه في هذه الصفحات، يتزايد نبضه كلما قرّبت كراسته لعينيي، كلما شممت رائحته الساكنة حبر قلمه، أحس دمه يجري بين السطور مجرى الماء في الساقية، صفاء وحياة يهبها لطين يابس متشقق لعمره. ماذا ترك لي من ميراث التعب اللذيذ زهو الدنيا، الدنيا لا تزهى بآلام المعذبين و المحرومين حاملي البريق الأخاذ المبهورين بحكمة الامتزاج أولياء الله الصالحين حاملي السر المكنون الغالي الذي لا يباع ولا يشترى. كراسته تتراقص بين كف يدي، تنفتح ليلج السلام من سم الحرف، وقفت مواكب الصمت وطقوس المسالك إجلالا للعارف.
أمسكت كراسته شعرت بكلماته أشلاء معلّقة على منتجعات أفراحنا.
أقلبت دفة الكراسة الخارجية، النبض يكاد يفر من نبضه والعين وافرة الصحو ترتعش من كشفها لأول السطر، يغرز رمح بكاء في كحلها، تفيض حنانا ورحمة:
"زكي يا صديقي، تقت للحرية المفقودة، حلمت بها كثيرا، رسمت لها أبهى صورة قد تعجز عنها أمهر ريشة فنان على وجه الأرض على رسم شكلها. تعجز عدسة مصور محترف، يعجز إزليم أي نحّات على نقش جدارية في مثل صورتها.
أحرقتني بعيدة وقريبة، نارها بردا وسلاما. خرجت من الدنيا وليس لي إلا كمّاشات العذاب ملتصقة بلحمي وتلك الشعارات اللاسعة كجليد سبيريا، جئت إلى الدنيا ولم تنفتح عيني إلا على السياط البشرية، يغيب سوط ليخلفه سوط آخر سلطة الجلد المتجددة. قد تعجب يا صديقي إن قلت لك جئت إلى الدنيا محروم الحقوق، يُأْكًلُ خبزي ويؤخذ حظي السعيد ويبّدل بآخر سيء، يغيّر قدري كما تغيّر ألقاب المساجين بأرقام لا معنى لها إلا أن تمحو الاسم الجميل وتحوله إلى عدد أصم يحمل معادلة حسابية. جئت إلى الدنيا لا أحمل قطعة حلوة في يدي ولا لعب أطفال؛ بالأطفال الذين يشترون لي العداء يتكلمون عن خيل وجند سليمان"نحن الغالبون". أنا لم أكن أعلم عن اللعب وعرائس القراقوز شيء، فالخبز كان همي وحلمي، أتصوره الجنة التي سمعت عنها من فم المعلمة العنصرية التي كانت تقول الجنة فيها كل شيء نتمناه؛ حينها تمنيت الجنة كلها خبز، كانت سذاجتي تعطيني الخيال الواسع لأنحت صورة الخبز الذي لا أشبعه. جئت إلى الدنيا لألبس فضلة الثياب الرثة. أسمع كثيرا من المتكلمين عن الصبر والقضاء والحظ، أنا لا أفرّق بين معاني هذه الكلمات، كانت جديدة على مسمعي، معقـّدة النطق تستعص على فهمي، العقل في عمري بمثل عقل عصفور، جسدي غض طري مع هذا نلت كثيرا من الصفع على الخد والركل على المؤخرة.
كنت صغيرا، لا أعرف أني اقترفت ذنبا أحاسب عليه، غير أني كنت أفرّق بين شكلي وشكل الأطفال أترابي، كانوا يقتربون في النقاء والنظافة والبياض إلى حد الملائكة، شعر رؤوسهم يلمع من الدهون المصففة للشعر والمثبـّتة له، ثيابهم الجديدة الجميلة المزركشة تثير بداخلي أسئلة أحملها كل ليلة في رسالة قلبي، أرسلها إلى الله، أعلم أن الله يحبني والدليل على حبه لي أنه أعطاني القدرة على التخيل، قليلون هم الأطفال الذين ينتبهون إلى تخيل الجنة كلها خبز، عوّض الله عني بنعمة لا يحصيها كثيرون.
نعم يا صديقي كانت المعلمة تجعل وجنتاي الطريتان لحما أحمر يميل إلى الزرقة من القرص والصفعات القاسية تنظر إليّ بعينيها الحادتين الذابحتين، تخترق بصري المضطرب الخائف، أشعر بقلبي يسقط إلى حيث رجلاي. كم من مرة تبوّلت في سروالي الوحيد، الذي لا أملك غيره، شعرت وقتها كم العالم قاس، كم الحياة ضيقة ولونها الأسود يحجب عني الرؤية. أتساءل لماذا معلمتي لا تملك قلبا يشبه قلب أمي، أمي التي تظل مهمومة كل الوقت وتتظاهر بالسعادة كلما لمحتني أدخل البيت الضيق، البيت المنهار السقف، داعية لي بوافر الصحة والعمر الطويل، رافعة رأسها للسماء: "يا ربي وفقه امنحه العون ليصير طيارا أو طبيبا".
معلمتي تمسح يدها بحنان على بعض رؤوس الأطفال وتقبـّلهم أمامي، كان أولياؤهم يدخلون أيديهم في جيوبهم ويخرجون أوراقا نقدية، يعطونها لها، تتلهف لذلك كلما سنحت لها الفرصة حين تلتقي بهم.
رأيتها يوما تمسك بالنقود، نظرت إلي بحقد وكراهية كأنه التهديد المعهود، تومئ لي بإشارة من رأسها بالانصراف وغض البصر، أتجاهل في سرعة ما رأيت تقية للعذاب والتوبيخ. تدري يا صديقي كرهت المدرسة، تمنيت لو كنت حجرا أو شجرا أو جمادا على هذه الأرض ولم أكن طفلا بإحساس. أنظر في المعلمين أجد الوشاية عندهم والتحذلق والعمالة والتودد لأطفال السادة وذوي المناصب المتنعمين بسيارات الدولة التي تأتي لأخذ أبنائهم.
كنت أحلم بالخبز كثيرا بالكاد كنت أقتسم رغيفا مع إخوتي، حتى لأني أجد قطعا من الخبز على الأرض أمام أكياس القمامة أرفعها من الأرض أدسها في محفظتي، بصري يفتش عمن يكن قد رآني أطمئن حين أنظر في كل الاتجاهات، الحمد لله لم يراني أحد؛ هكذا يا صديقي بكبرياء وحتى في صغري برغم جوعي كانت لي روحا رواقية.
أتيت إلى الدنيا والكل متفق على شخصي؛ من الأطفال في الحارات والمدارس إلى وضعي المزري، إلى حلمي بقطعة خبز تحت سقف منهار.".
أقلبت الصفحة والدمعة تشق طريقها تحفر أخدودا، الزفير الحار يتفاعل مع انقباضات الروح، آخذ نفسا عميقا من حسرة، أقف على فجع الموجع والانكسارات، صرح البشرية الهش يتهاوى، هذا ما تبقى أليس اليوم كالبارحة، حملت كراسته شددت عليها بمقبض يدي. إحساس البشر يستوقفني، ما معنى التكلم عن العدل وقساة القلوب على الأرض يصرحون ويمرحون يعلّقون مفاتيح القسوة في حمّالات على حلقات سرواليهم، متنزهين في الوطن الذي يضيق بأمثالنا؟ غالبت حزني ونفوري عن متابعة ما خطّه في هذه الكراسة من أحمال ثقيلة من معاناة الطفولة لكن شيء ما يدعوني لمواصلة البحث في غور هذه الحياة علـّني أكتشف زوايا خفية من حياته الملفوفة بالغموض، المسكونة بالأسرار التي لا يعلمها أحد إلا الله.
كنا صغارا وكانت أوقات حياتي معه حياة أخ بأخيه، من الصعب فتح أبواب تكتمه على ما يحدث له، يلفه الصمت، لا أسمعه إلا وهو يدعوني للعب خارج المدينة المزدحمة البلهاء بأهلها، بشوارعها النتنة الوسخة، الحمقاء بساكنيها.
كان مفتونا بجمال الطبيعة الساحرة ينتشي ويبتهج حين يصير في قلبها النابض بالاخضرار، هوائها المتسع المنتشر دون حاجز أسمنت يحده، الأسمنت الذي خنق حيوية الأمكنة وجعلها تعيش الغثيان من جراء المدنية المقرفة. صديقي لا يشعر بالراحة والطلاقة إلا وهو بين أحضان الخلوة يفرّج عن شفتيه الأنة، تبتهج أسارير وجهه كما يبتهج الطفل بملاقاة أمه بعد غياب طويل.
كراسته وذكرياته تتقاطع، تنفصل ثم تتصل من جديد محدثة ثقوبا في الشعور بعمق الألم، تراكيب الصور تختلط فيها جميل الذكريات وألمها، يحدث ويُتعب قلب الإنسان كلما أصّر على التفكير وحرّك الذاكرة باتجاه الماضي، الماضي الذي نحياه في حياتنا الحاضرة ونمد له جسرا لنجتر به خيبة الأمل المؤجل، جسر الحياة الحبلى بالألغاز والمفاجئات لمحيطنا المنتج لمزيد من راهن القلق والحيرة.
لقد كان صديق الطفولة وأذكر أنه كان صديقي الوحيد، عرفته من مرحلة الطفولة حتى الشباب حتى اليوم. كانت صداقتي به أكثر من صداقة الصف والمدرسة والمقعد والحارة، بل تعدت إلى شريك، نتقاسم خبزنا وأسرارنا، نفشي بما تخبئه أمهاتنا من بوح الكلام، ذاك الكلام الذي نسمعه وهنّ مجتمعات مع بعضهن البعض، نفشي أسرار آبائنا حين يصطحبوننا معهم إلى المقاهي أو النزهة وحتى الأسواق تلك أماكن فضفضتهم، الأماكن الحميمية وحدها كانت منبر الترويح، يسردون شكواهم وماتعرضوا له من ضغوطات زوجاتهم؛ كنت صديقه وكان صديقي الوحيد.
أتعارك في اليوم مرات ومرات دفاعا مستميتا لأجله، التلاميذ وأطفال الحارة يستغلون طيبته، يتهكمون عليه، يبرحونه ضربا. كنت دائم العراك لأجله لم يكن ضعيف البنية أو جبانا، أشعر به مسالما نافرا من العنف. يدعوني دوما للهرب من ضجيج المدينة للخروج إلى قلب الطبيعة النابض بالجمال، أقول هذا وكلي يقين بحبه للطبيعة تأتى من نفس جميلة لا غير.
أمد يدي الشمال لشعر رأسي أضغط عليه علني بذلك أطرد شبح الذكريات الواخزة. الذكريات الجميلة أثرها بليغ في النفس أكثر إيلاما من الذكريات الجارحة. حينما نبحث عن ذكريات عزيز علينا داخل القلب نجد مكانه بسهولة بالمقابل نجد ذاك المكان موحشا مقفرا، تجول فيه خيالات وأوهام كما البوم والغربان؛ الذكريات تمتزج بعجزنا عن مساعدة من نحبهم وقتذاك، الأسف ينطبع إلى صفائح جليد واخز، شعور بالذنب، الآن و أنا أحمل كراسته أي واقع حال في العالم يشبه واقعه؟
أفتح كراسته حنينا إليه بقلب يرتجف، إلى كلماته، أعيره كل جسدي لنحيا سويا.
هي الصفحة الثانية، أقرأها وكلي يقين بوجود بعضا مما كان بيننا:
"لا تعجب يا صديقي مما تقرأ، لا تتعجب فأنت عليم ببعض ما أملك، الوحيد الذي تملك بعضا من مفاتيح حياتي الخاصة. لم أتجرأ يوما الكذب عليك أو إخفاء أسراري عنك، أعذرني هناك دوافع كثيرة أبعدتني عن طريقك ودوافع أبعدتك عني، هي الحياة لا غير، مشاغلها كثيرة، فوضاها، إغرائها، عذوبتها البراقة وزخرفها.إن المنفعة والمصلحة التي طبعت على النفس أسرها هي الوحيدة التي جعلتنا نختار مصائرنا ونحدد علامات الدرب، ألا ترى يا صديقي أننا كنا في أرحام أمهاتنا تشكلنا في خلقة النطفة لنكون موصولين، الحياة إذا هي اتصال دائم وانفصال، ألا ترى أننا يوم فصلنا عن أمهاتنا يوم مولدنا بقطع حبل الصرة لم يكن ذلك إلا إيذانا لنا باتصال ووصل جديد مع غيرنا مع هذا العالم بخيره وشره. يا صديقي بالفصل يكون الوصل وبالقطع يكون الاستمرار وبالموت تكون الحياة، هي الحياة يا صديقي والتقاليد المتوارثة نرثها من آبائنا ومجتمعاتنا ومحيطنا، نتوارثه بالبحث عن النفع على حساب الآخرين حتى على أعز ما نملك، فإذا تصادمت مصالحنا صرنا أكثر أعداء لأنفسنا من كوننا أعداء غيرنا. بالفصل نكتشف شخصيتنا وندرك اختيارنا بالقطع نصل إلى حقيقة وجودنا وماهية كياننا. صعب فصل نفسك عن غيرك لتتصل بمحيط يعكس ما تتمنى وتحلم. الوصل قد يورطك طول حياتك في قدر لم تشأ يوما أن تحياه وتجعل الآخرين يحيونه، قد تكون الضحية لغيرك الذين سيقع عليهم اختيارك؛ ضحايا ذاك الوصل اللعين.
سأكلمك من خلال هذه الكراسة، المدونة فيها أيام الغربة هناك وراء البحر، أقرأ منها ما شئت عن الملاك الطاهر داخل أحداث هذه الكراسة.
سأكلمك الآن بصفتك الأخ، الصديق المثالي الذي كان يحضر في محفظته غذائه وفطوره الصباحي ويخفيه عن عائلته ليشركني فيه، أعتبر هذا الكلام مجرد إقرار بالجميل وحفظا لذكرى طيبة أتجالس فيها مع وحدتي.
كما قلت سلفا، لم أكن غير ذاك الطفل الذي تكره عائلته الكبيرة حضوره لأعراسها ومآتمها، تخاف على أطفالها منه ومن الهم الذي يلحق صغارها كلما تطيروا منه، لم أكن أشعر بتعاسة الحياة بقدر شعوري بتعاسة النسب وأكاذيب العرق والانتماء، حييت لأرى الانتماء سوى مصلحة وطاقية مطرّزة يتنافس عليها الأعيان والملأ. الولاء المطلق والاحترام المطلق للسلطة والجاه. الأبناء يعاملون على هذا المبدأ لا غير، والدي لم يكن وافر الحظ من الدنيا، قدره حياة البؤس والفقر، يكد في الدروب الوعرة لأجل رغيف الخبز وسيء الحظ تغيب عنه الشمس حين تفتح له أبواب الكنوز فلا يرى ما يجمع. كان والدي بقدر حبه لنا يعاملنا بعصبية ونرفزة، نشعر بذلك نحسه في عباراته الجارحة، نشعر بذاك العجز الذي لا يمكّنه من جعلنا سعداء كباقي الأطفال بثياب جديدة ومسكن فسيح وبقرطاسيات وكتب مدرسية ولعب وقصص كباقي أطفال العائلات المحترمة في المجتمع. كانت عيناه الرحيمتان دليلنا إلى قلبه، عانى كثيرا وهو يراني عاريا، لا سروال ولا حذاء يدفئني من برد الشتاء القارص.
مرضه جعله ينتحر معنويا أمامنا كل يوم، كنا نشعر بالحزن في غيابه عن البيت؛ الوالدة هي ما تبقى لنا من الدنيا نلجأ لحضنها كلما ازدادت الدنيا ظلاما في وجوهنا. لا تحسب حين أنثر هذا الصقيع أقيم محكمة لما حدث أو أستجدي عطفا، لست ناقما على قدر الله ولائما الوضع القائم المزري. لقد عانيت كما عانى مثلي الظلم الكبير، الحقوق ضائعة، اللصوصية نخرت جسد البلد، لست ممتعضا من جهة على أخرى الكل يشبه بعضه. تدري دائما وأنا صغير السن أرسم المنظر الجميل للوطن والصورة تقترب إلى الكمال والملائكية. الدولة وقتها كانت تمنح الإعانات للمحتاجين والمطاعم المجانية تستقبل أبناء الفقراء تطعمهم وتسقيهم وتمنحهم ما يحتاجونه. أتذكر يوم دخل المدير حاملا في يده قائمة وراح يبحث عني من بين تلاميذ القسم يومها راح الجميع ينظر إلي، حتى أني سمعت من بعظمهم من يقول:
" ناداه المدير ليعطيه صدقة الدولة". كنت لجانبي تنظر إلى عيني المغرورقتين بالدموع، رأيت يومها دموعي في عينيك وشعرت أنك أنا وأنا أنت، أتذكر جيدا كيف قمت بحركة لذلك التلميذ، أذكر وتراني ابتسم الآن وأنا أخط هذه الجمل، كان الطفل ابن رئيس دائرة الأمن، قمت أنت بحركة الذبح بيدك تهديدا له، راح من خلال حركتك ينظر أمامه متغاضيا عما كان يقوله ويفعله، شعرت بالمهانة وقتها وحق الله، كنتُ الوحيد من كل التلاميذ الذين أنعم الله على آبائهم ولم ينعم على والدي المسكين، هي إرادة الله تمّت وأنعم الله عليه بعدها بالقبر.
أتساءل وقتها لما هؤلاء يحيون في هناء وكرامة وأنا أهان صباح مساء على مسمع الجميع، يومها أخرجني المدير بحنان ماسحا على رأسي:
ــ "تعال يا بني، تعال معي، كيف حال أبيك؟ ألا زال مريضا؟
أغرورقت عيناي، لم أكن لأتكلم معه إلا بإشارة إطراق رأسي أي نعم، طأطأته مركّزا بصري بين رجلاي، أبحث عن الأنفة الملتصقة بحذائي المطاطي، سألني من جديد بعدما دخلت مكتبه:
ــ "كيف حال الأب؟ ألا زال لا يقوى على العمل؟"
المدير وقتها نناديه بسيدي قلت له:
ــ "نعم سيدي.
ورد: ــ "سلـّم عليه حين رجوعك للبيت قل له عمي محمد يقول شرفنا في المكتب غدا".
قلت: ــ نعم سيدي.
أعطاني يومها ملابس جديدة في كيس مغلق، ناولني قصاصة ورقية، قرأت عنوانها في الأعلى «استدعاء". علمت بأن المدير عمي محمد يريد رؤية والدي لأجلي أو يريد شهادة تثبت عجزه عن العمل كما يطلبها في كل سنة دراسية.
رجعت بكيس الثياب الجديدة، دخلت القسم قبل نهاية الدرس، راح الجميع يحملق فيّ دون استثناء حتى المعلمة، لم يكن أحد ليرمقني بعطف سواك، حتى أن المعلمة الغليظة القلب دفعتني بقوة من كتفي:
ــ "مكانك أيها الحثالة هي أسرع لا تضيّع وقتي."
لا أعلم لما يكرهون الفقراء وأبنائهم ويعتبرونهم أقل منزلة من الكلاب، لم أكن أملك غير دموعي سلاحا، انفجرتُ بكاء من فعلها الشنيع نلت من أثره صفعات أخرى على وجهي الغض الطري فارتسمت أصابعها عليه، لمّا عدت للبيت لحظت أمي ذلك، توسلت أبي الذهاب إلى المدير للاستفسار عن التوبيخ والضرب المبرّح، لكن جوابه الصمت والرضوخ لواقع المساكين والفقراء داخل المجتمع.
أجاب والدي: "ربما نفسد على الولد أكثر، قد تحوّله معلمته اللعينة إلى عدو تحقد عليه أكثر لو شكوناها المدير؟
كانت صفعاتها سم ثعبان الكبرا الهندي القاتل. مسحت دموعي بكف يدي، صدري يحدث الحشرجة بصوت الألم يا لهذا الظلم. حاولت يا صديقي دفن كل هذا في بئر سحيق ونسيانه لكنني ما استطعت. في حياتي دفنت الكثير من ذكرياتي إلا الذكريات التي غيّرت مسار حياتي.
رجعت للبيت بكيس الثياب، الخد المرسومة عليه الأصابع اللعينة؛ أعطيت أبي الاستدعاء وتهت في حزن عميق، لا يتصور بشر في الدنيا كيف هو الحزن حين يخالط براءة طفل لا يعرف من الدنيا غير طريق البيت والمدرسة والحقل، طفل لا زال هشا طري الجسد والروح. لا أحد يتصور سهما مغروزا مسموما في قلب طفل لا زال لم يدخل الدنيا والحياة بعد، طفل صدره لا يتسع حتى لكلمة تأديب فما بالك بالإهانة التي لا يصبر عليها حتى الكهل؛ قلب طفل لم يعرف من البراءة غير شقاء العالم وشروره الحافة به.
تهت كربّان غرقت سفينته وأضاع وجهته في بحر لجيّ، لا تتصور حكمي يومها على العالم، كانت حزمة من عقد بدأت في التكوين، صدقني يا صديقي لم أجد يومها يدا دافئة غير أيدي بعض المحسنين الأوفياء أو لياء الله، أنت كنت واحدا منهم، أظن أن العالم الفسيح بقدر اتساعه تتسع معه الآلام صنيعة الإنسان.
لقد مزق والدي ذاك الاستدعاء بل وبخني، كأنني كنت المذنب في هذه الحياة يوم أتيت إليها، مرغم على المجيء إلى هذه الحياة العمياء الداكنة بسواد شرور أصحابها وآثامهم. الله خلق نفوسنا زكية جميلة ممتلئة بالخير والجمال والعطاء والصفاء الإنساني كصفاء روحك، أنا لا أؤنب ضميري الآن وأنا أكتب إليك اعترافاتي في الحياة نعم إني أعتبرها اعترافات لأن منبعها صميم الروح، كنتُ صادقا في كتابتها خاصة وهي موجّهة إليك لا إلى سواك، توصلت أنه من يصنع المجرم هم من يحفونه، الشعب هو من يصنع الطاغية والطاغية يصنع الانتقام والمنتقم يصنع الخوف لكيلهما.
لم أختر المجيء إلى الحياة ولو كان الاختيار لي لفضّلت كوني في المجهول أو في مكان آخر غير هذا. ربما اخترت أن لا أخلق وأموت في أصل تكوين الحياة الأولى. مقتنع بأن الدنيا كثرت فيها الشرور والصراعات والآثام نتيجتها الآلام والموت بوجوهه المختلفة، مقتنع الدنيا الخير فيها لا ينقطع، المثل الجميلة موجودة في ثناياه. تمنيت لو أن العالم كله كان نزيها محبا لتلك المثل حتى ينعم الإنسان بحياته كإنسان.
لو خيّرت أن لا آتي إلى الدنيا واستشرت في علم الغيب الخاص بحياتي لقبلت بكوني أي شيء غير أن آتي بشرا إلى هذا المكان، أحاسب فيه على شكل وصورة ووضع اجتماعي لم أختاره ولم أكن لأختاره ولو قدر لي أن أختار.
لِمَا أحاسب إذا على فقري وباعتباري ابن فقير مريض.. أعرف يا صديقي الآن يبدو لك الأمر تشكيكا في اليقين الديني وفي المقدس لكن صدقني أنت أدرى الخلق بصديقك. لست أكثر الناس إيمانا بالله وبقدره لكنني مؤمن.
سألني أبي: ــ "من أعطاك الاستدعاء؟"
أجبته: ـ "المدير عمي محمد وهو بالمرة يسلم عليك"
رفع رأسه للسماء وأذكر أن أذني سرقت السمع وهو يتمتم:
"يا ربي ما ذنب هذا الطفل ليهان؟"
أحسست بالذي يشعر به والدي. ثم قال لي:
ــ "نعم سأذهب إليه في الغد لا تهتم عمك محمد يا ولدي رجل طيب من وقت الثورة هو رجل موقف لا يشبه الآخرين. هل مزقت الكيس لترى ثيابك الجديدة.؟"
مزق والدي كيس الثياب، راح يقيسها على خصري: "تناسبك الثياب يا ولدي.. أحلم أن تصير عالما أو قائدا لتحفك رعاية الله ورحمته"
من يومها يا صديقي وأنا أفكر في كيفية تغيير حالتي الاجتماعية، بدأت أفكر كالكبار على السبل التي تمنحني الأحسن والأفضل لأصير محترما كالأطفال الآخرين، بدأت أحلم بمنزل كبير، بأكل كثير، بسيارة لأبي تشبه السيارات الحكومية لآباء الأطفال أترابي، بدلات وأساور من الذهب لأمي ولعبا كثيرة داخل غرفة فسيحة، بدأت أحلم بأشياء لم يحن وقتها. بدأت أكبر قبل الوقت، بدأت تكبر معي أفكاري الخاصة.
أكتب إليك في هذا المساء الذي يحمل ثقلا كبيرا، في حياتي سيف الليل أقوى من ترس الشمس. كنت في خارج المنزل قبل أن أكتب؛ الهدوء شبح متخفيا يشعرك بهاجس خوف، حركات البشر توقفت، الكل وسعه بيته، أكثرية المحلات مغلقة، لا يجسر الواحد على المغامرة بالتنقل في أزقة المدينة بعدما يشيح الليل رداءه. أهوى هذا الوقت بالذات للخروج متسكعا في الشوارع البلهاء، لم يكن لي من رفيق أقاسمه رغيف الحياة، رفيق حقيقي تتطابق أفكاره وأفكاري؛ رفيق يحمل أحدنا الآخر، يرفد الواحد مواصفات الآخر، من وقت غير بعيد وأنا هكذا بمنأى عن الناس لا ألتقي أحد إلا ما تربطني به متطلبات المعيشة والمعاملة اليومية بما تعلق من أمور العمل لا غير. من وقت بعيد وجدتني أهرب منهم ليس عجزا ولا عن عقد لكنه الحرص على البقاء حيا بما أحمل من مبادئ ومُثل لطالما حرصت للمحافظة والذود عنها. الناس على ألوانهم وأنواعهم كما هناك، تتغير عندهم الأخلاق والقيم لا يهمهم غير منطق المصلحة والمنفعة لا غير، شيء واحد فقط يميزهم عن بعضهم البعض ولائهم يظهر لمن يملك القهر والمال والصلاة لصاحب القوة. الناس مستعدون للتعامل مع الشيطان لو أقتضى الأمر لأجل أهدافهم ومنفعتهم، مستعدون لبيع الوطن والعرض معا. قد يقنعونك بسلوكهم لو حاولت الولوج إلى عالمهم المليء بالمبررات والحجج. وجدتني أبتعد عمن أشاء واربط علاقتي بما دفعتني إليه حكمة المحنة، واظبت على هذا الخيار من زمن بعيد.
هجرت إلى هذه المدينة الحبلى بالألغاز. هجرت مدينتي مرغما لم يعد لي من أحد هناك حتى إخوتي الثلاثة تفرقوا في كل اتجاه بغية البحث عن مستقبلهم الذي ينام في ظلام نياتهم السيئة، أذكر أني كنت أصغرهم ومع هذا ما اعتدت الاتكال عليهم في حياتي، كنت أدرس وأعمل، لم أمد يوما يدي بغية طلب الإعانة رغم حاجتي الكبيرة لبعض المال لسداد بعض متطلبات الدراسة الجامعية.
كنت دائم الاستقرار في الحي الجامعي، لا أغادره إلى مدينتي إلا مرة كل شهرين برفقتك، تعرف هذا. لفـّتُ انتباه طلبة الحي الجامعي، أمر مكوثي صار خبرا تلوكه الألسن، صرت صاحب شهرة مضحكة، سجّلت رقما قياسيا، وصفوني بنزيل فندق الجامعة. أولئك المعلقون الجامعيون هم الأطفال الذين كانوا معنا في صف الدراسة الابتدائي أبناء الأثرياء والمسئولين، لم أكترث لهذا ولن أكترث لأمور مشابهة حدثت كعدم غيابي ولو يوما واحدا من مقاعد الجامعة أو المطعم، لم أغضب حين أطلقوا عليّ أسماء كثيرة وكنايات صارت نكت يتبادلها الطلاب داخل غرفهم وفي نوادي سمرهم.
كنت المتفوق عليهم رضوا أم لم يرضوا، مهما اشتروا نقاطهم من أساتذتهم اللصوص الكراسي الخشبية.
لا يعلم هؤلاء الدوافع الحقيقة التي تجعل الإنسان يقف عاجزا مستسلما أمام خيارات يرونها عارا بينما يراها غيرهم ملاذا آمنا يحقق لهم الاستقرار النسبي ويكفيهم مشقة الحياة.
إخوتي الثلاثة بعدما أنعم الله عليهم، استقل كل واحد بمسكنه وكوّن أسرة، صارت زوجاتهم تتضايق من زياراتي الخفيفة، لا أمكث عند أحدهم، أداروا لي ظهورهم متملصين من وصية أبي بحسن رعايتي ومساعدتي حتى أبلغ رشدي ويتصلـّب عودي في هذه الحياة العصيبة الوعرة، لذا قررت قطع صلتي بعالم الدم والأسرة. أنزوي عنهم فلا أسبب لهم الإحراج مع زوجاتهم ولا مع أنفسهم، لا يمكنني الحكم على ضعفهم، لست حقودا.
الأخوة الحقيقية كما عرفتها لا تنحصر في رابطة الدم والقبيلة والعرق إنما تتعداها إلى فضاء آخر أرحب وأوسع مثل فضائك أيها الصديق. قطعت صلتي بأهلي والحقيقة هم من قطعوا صلتهم بشخصي كما تعرف، لم أجد فيهم من يسأل عني أو يبعث لي بسلام مع من يعرف.
أراسلهم كلما أشتد الشوق بي لكني أجد برودة إحساس من اتجاههم، دفنت حنيني، نسيت أن لي أهلا يسألون عني. لم يكن لي من سند في هذه الحياة غير صديق الطفولة، لقد تتلمذنا ولعبنا وكبرنا ودخلنا الجامعة، سكـّنا غرفة واحدة وتخرجنا من الجامعة وعدنا إلى مدينتا معا، تقاسمنا أسرارنا وآلامنا ومسراتنا كان كل منا ظل الآخر، لسان الآخر، حتى ليبدو للرائي الذي ألف وجودنا وحضورنا أننا توأمان.
أنت الوحيد في الأعياد من يأتيني بالعشاء ويصطحبني معه للبيت، وحدك من تحضر لي نصيبي مما طبخت خالتي ربيحة الماهرة، لقد اكتريت الغرفة بعدما باع إخوتي بيت أبي واقتسموا ثمنه، المضحك المبكي أني صرت مثل النازحين. أشعر أنك الوحيد في العالم الذي يستحق حبي، لم تكن تكفيني النقود التي أحصل عليها من العمل المؤقت لأتدبر به بعض أموري لولا مساعدتك لي. تعطيني أجر كراء الشقة، تقول أنها نقود بعثها إليك أبي، أعرف أنك من تدبرها وطلبها من أبيه، مدان لك بالكثير. كانت هجرتنا الغير شرعية هي المنعطف الذي غيـّر حياتي ومنحني حياة ستجدها هنا في هذه الكراسة، ستعلم هنا الحقائق التي ارتقت إليها الروح وتحررت من قيدها ووثاقها الذي شدّها نحو الوجود الزائف لكل ما يحيط بنا."
أغلقت كراسته الجلدية، تجمّدت في مكاني غير أني سرحت بخيالي عن الدنيا وعن المكان والزمان المباشر في الحاضر رحت متنقلا في ثنايا رحلة بين رواق أيام صديقي الذي أملك الآن بين يدي أسراره التي تركها لي والكثيرون يتوقون لمعرفة ولو بعضا منها، هذه الأسرار في جوهرها تهدد حياتي. ذكرياتي وذكرياته نقطة واحدة تجمع صورنا الكثيرة المتنوعة في تصور واحد حول واقع حالنا الذي كان والذي لا يزال. إنها نقطة الذاكرة المبعث لفيض الأحداث الماضية وصورها، لا يمكنك بحال من الأحوال أن تعزل تلك الصور والأحداث من داخلك، إنها تراكمات الماضي، الماضي الذي يصنع يومياتنا، إنه الحبل المفتول يلف بعضه بعضا، لا يمكنك فصل طبقاته عن بعضها البعض كذلك أيام ماضينا، بغير هذا الحبل تصير ساعات حاضرنا هشة. لا يمكنك أن تنّحي الصور العالقة عندك أو تتناساها.
النسيان بفضله تجف دموعنا ويؤكد حقيقة مقامنا، الشواهد وحدها شفاء النسيان. شفائنا في حضور الوعي المتقاعد المختار لمكان اللاشعور كمهرب للصور التي نريدها أن تشيخ وتموت داخل إطار كبتنا المدفون في أغوارنا، الذين نحبهم حد الموت نمنحهم المطلق من الكمال ننسى أخطائهم لا نتذكرها أبدا، الذين يغادروننا هكذا ببساطة مرغمين نتمنى نسيانهم في وقت قياسي ولو استطعنا دفع الأجر مقابل إطفاء نار كحولهم على قلوبنا لفعلنا. ذكرياتهم أليمة مهما كانت عذبة المعنى وحلوة؛ الفقد والبعاد هو ما يجعل ذاكرتهم متعبة مرّوعة، صعب أن يعذبك إنسان تحبه ولا تملك منه في نفسك غير تخيلات تنام في دماغك وتصورات تتوهمها، تلبسها على شكله، ترسم له ملامح جديدة جميلة تضيفها لخلقته وطبيعته ولشخصيته على غير ما جاء بها إلى هذا العالم. إنما الإضافات التي زدتها هي ذاك الحب والحنين الذي جعلك تسرح في فضاء الاشتياق والأمنية الغير متحققة.
فتحت الكراسة من جديد، كأن بها سحر بابل وتعويدة عرافة دلفيا، السحر الذي يشدني للقراءة بنهم وانتباه وقلق إيقاعيين، قراءة النفس المعذبة التي تشكو العذاب والمعاناة، النفس التي تشكو من دوائر ما يخفيه الزمن، وما تقتضيه الأوقات السيئة والعذبة معا، الأوقات السلبية والموجبة، سحر يحرّض نفسي الواهنة على الاستزادة من معرفة ما كان مخبئا عني كل هذا الوقت وقد ظننت أني فقدت صديقي في أعماق البحر، سحر يدفعني للهروب من كبت يمارس عليّ قهرا.
---------------------------------------------------------------------------
* فصل من رواية لم تنشر بعد، بعنوان "الغرق" للكاتب الجزائري خالد ساحلي
التعليق
-------------
خالد ساحلي
كنت قلقا، أؤكد قلقي كان عنيفا، صراع مرير قاتل، حرب داخلية تهد كل مقاومتي. لم أشأ فتح كراسته، قاومت رغبتي، كلما زادت المقاومة كلما زاد إلحاحي على تصفحها، لم أشعر يوما بالتردد، الخوف أخترق باطني، أفقدني توازني، تدميره شامل.
ترتعش أصابعي كورقة تعبث بها الرياح في موسم الخريف، أحاول جاهدا تحطيم الجدار المعيق لرغبتي الكابح لها، أرفد معنوياتي المنهارة المجرورة مع الضعف، أمسك كراسته أقرّبها مني أكثر، أجس دفتيها أستشعر الحنين المكتنز من زمان لليدين اللتين حملتها كثيرا، أقعدها في حنان على ركبتي، أمرر أصابع يدي على هيكلها الخارجي لعلّ روحه تبعث مجددا من مكان في هذا العالم، أعيرها إحساسي وأعماقي، هذا الوعاء الكبير المختزن للماضي لتسكنه ويحيا صديقي من جديد. الحياة ليست سهلة فهي مليئة بالحركة والأنين والألم والتعب، التعب لا شك يحمل الراحة في الاستزادة من قوى التحمل، الألم دليل رفض.
أليست العلامات قيام سائر للهلاك، أليس الهلاك رسول مأمور يؤدي وظيفته دون الحياد عن طريق القدر المرسوم من الله؟ أسئلة مقلقة.
أحمل كراسته بين يدي، أشعر بموج حنينه يخرج إلى شاطئ البوح، لؤلؤ وجدانيٌ، يحكي للشمس حكاية خطوط الرمل لأيامه، طيور أحزان محلّقة متعبة. أشعر بنبضه في هذه الصفحات، يتزايد نبضه كلما قرّبت كراسته لعينيي، كلما شممت رائحته الساكنة حبر قلمه، أحس دمه يجري بين السطور مجرى الماء في الساقية، صفاء وحياة يهبها لطين يابس متشقق لعمره. ماذا ترك لي من ميراث التعب اللذيذ زهو الدنيا، الدنيا لا تزهى بآلام المعذبين و المحرومين حاملي البريق الأخاذ المبهورين بحكمة الامتزاج أولياء الله الصالحين حاملي السر المكنون الغالي الذي لا يباع ولا يشترى. كراسته تتراقص بين كف يدي، تنفتح ليلج السلام من سم الحرف، وقفت مواكب الصمت وطقوس المسالك إجلالا للعارف.
أمسكت كراسته شعرت بكلماته أشلاء معلّقة على منتجعات أفراحنا.
أقلبت دفة الكراسة الخارجية، النبض يكاد يفر من نبضه والعين وافرة الصحو ترتعش من كشفها لأول السطر، يغرز رمح بكاء في كحلها، تفيض حنانا ورحمة:
"زكي يا صديقي، تقت للحرية المفقودة، حلمت بها كثيرا، رسمت لها أبهى صورة قد تعجز عنها أمهر ريشة فنان على وجه الأرض على رسم شكلها. تعجز عدسة مصور محترف، يعجز إزليم أي نحّات على نقش جدارية في مثل صورتها.
أحرقتني بعيدة وقريبة، نارها بردا وسلاما. خرجت من الدنيا وليس لي إلا كمّاشات العذاب ملتصقة بلحمي وتلك الشعارات اللاسعة كجليد سبيريا، جئت إلى الدنيا ولم تنفتح عيني إلا على السياط البشرية، يغيب سوط ليخلفه سوط آخر سلطة الجلد المتجددة. قد تعجب يا صديقي إن قلت لك جئت إلى الدنيا محروم الحقوق، يُأْكًلُ خبزي ويؤخذ حظي السعيد ويبّدل بآخر سيء، يغيّر قدري كما تغيّر ألقاب المساجين بأرقام لا معنى لها إلا أن تمحو الاسم الجميل وتحوله إلى عدد أصم يحمل معادلة حسابية. جئت إلى الدنيا لا أحمل قطعة حلوة في يدي ولا لعب أطفال؛ بالأطفال الذين يشترون لي العداء يتكلمون عن خيل وجند سليمان"نحن الغالبون". أنا لم أكن أعلم عن اللعب وعرائس القراقوز شيء، فالخبز كان همي وحلمي، أتصوره الجنة التي سمعت عنها من فم المعلمة العنصرية التي كانت تقول الجنة فيها كل شيء نتمناه؛ حينها تمنيت الجنة كلها خبز، كانت سذاجتي تعطيني الخيال الواسع لأنحت صورة الخبز الذي لا أشبعه. جئت إلى الدنيا لألبس فضلة الثياب الرثة. أسمع كثيرا من المتكلمين عن الصبر والقضاء والحظ، أنا لا أفرّق بين معاني هذه الكلمات، كانت جديدة على مسمعي، معقـّدة النطق تستعص على فهمي، العقل في عمري بمثل عقل عصفور، جسدي غض طري مع هذا نلت كثيرا من الصفع على الخد والركل على المؤخرة.
كنت صغيرا، لا أعرف أني اقترفت ذنبا أحاسب عليه، غير أني كنت أفرّق بين شكلي وشكل الأطفال أترابي، كانوا يقتربون في النقاء والنظافة والبياض إلى حد الملائكة، شعر رؤوسهم يلمع من الدهون المصففة للشعر والمثبـّتة له، ثيابهم الجديدة الجميلة المزركشة تثير بداخلي أسئلة أحملها كل ليلة في رسالة قلبي، أرسلها إلى الله، أعلم أن الله يحبني والدليل على حبه لي أنه أعطاني القدرة على التخيل، قليلون هم الأطفال الذين ينتبهون إلى تخيل الجنة كلها خبز، عوّض الله عني بنعمة لا يحصيها كثيرون.
نعم يا صديقي كانت المعلمة تجعل وجنتاي الطريتان لحما أحمر يميل إلى الزرقة من القرص والصفعات القاسية تنظر إليّ بعينيها الحادتين الذابحتين، تخترق بصري المضطرب الخائف، أشعر بقلبي يسقط إلى حيث رجلاي. كم من مرة تبوّلت في سروالي الوحيد، الذي لا أملك غيره، شعرت وقتها كم العالم قاس، كم الحياة ضيقة ولونها الأسود يحجب عني الرؤية. أتساءل لماذا معلمتي لا تملك قلبا يشبه قلب أمي، أمي التي تظل مهمومة كل الوقت وتتظاهر بالسعادة كلما لمحتني أدخل البيت الضيق، البيت المنهار السقف، داعية لي بوافر الصحة والعمر الطويل، رافعة رأسها للسماء: "يا ربي وفقه امنحه العون ليصير طيارا أو طبيبا".
معلمتي تمسح يدها بحنان على بعض رؤوس الأطفال وتقبـّلهم أمامي، كان أولياؤهم يدخلون أيديهم في جيوبهم ويخرجون أوراقا نقدية، يعطونها لها، تتلهف لذلك كلما سنحت لها الفرصة حين تلتقي بهم.
رأيتها يوما تمسك بالنقود، نظرت إلي بحقد وكراهية كأنه التهديد المعهود، تومئ لي بإشارة من رأسها بالانصراف وغض البصر، أتجاهل في سرعة ما رأيت تقية للعذاب والتوبيخ. تدري يا صديقي كرهت المدرسة، تمنيت لو كنت حجرا أو شجرا أو جمادا على هذه الأرض ولم أكن طفلا بإحساس. أنظر في المعلمين أجد الوشاية عندهم والتحذلق والعمالة والتودد لأطفال السادة وذوي المناصب المتنعمين بسيارات الدولة التي تأتي لأخذ أبنائهم.
كنت أحلم بالخبز كثيرا بالكاد كنت أقتسم رغيفا مع إخوتي، حتى لأني أجد قطعا من الخبز على الأرض أمام أكياس القمامة أرفعها من الأرض أدسها في محفظتي، بصري يفتش عمن يكن قد رآني أطمئن حين أنظر في كل الاتجاهات، الحمد لله لم يراني أحد؛ هكذا يا صديقي بكبرياء وحتى في صغري برغم جوعي كانت لي روحا رواقية.
أتيت إلى الدنيا والكل متفق على شخصي؛ من الأطفال في الحارات والمدارس إلى وضعي المزري، إلى حلمي بقطعة خبز تحت سقف منهار.".
أقلبت الصفحة والدمعة تشق طريقها تحفر أخدودا، الزفير الحار يتفاعل مع انقباضات الروح، آخذ نفسا عميقا من حسرة، أقف على فجع الموجع والانكسارات، صرح البشرية الهش يتهاوى، هذا ما تبقى أليس اليوم كالبارحة، حملت كراسته شددت عليها بمقبض يدي. إحساس البشر يستوقفني، ما معنى التكلم عن العدل وقساة القلوب على الأرض يصرحون ويمرحون يعلّقون مفاتيح القسوة في حمّالات على حلقات سرواليهم، متنزهين في الوطن الذي يضيق بأمثالنا؟ غالبت حزني ونفوري عن متابعة ما خطّه في هذه الكراسة من أحمال ثقيلة من معاناة الطفولة لكن شيء ما يدعوني لمواصلة البحث في غور هذه الحياة علـّني أكتشف زوايا خفية من حياته الملفوفة بالغموض، المسكونة بالأسرار التي لا يعلمها أحد إلا الله.
كنا صغارا وكانت أوقات حياتي معه حياة أخ بأخيه، من الصعب فتح أبواب تكتمه على ما يحدث له، يلفه الصمت، لا أسمعه إلا وهو يدعوني للعب خارج المدينة المزدحمة البلهاء بأهلها، بشوارعها النتنة الوسخة، الحمقاء بساكنيها.
كان مفتونا بجمال الطبيعة الساحرة ينتشي ويبتهج حين يصير في قلبها النابض بالاخضرار، هوائها المتسع المنتشر دون حاجز أسمنت يحده، الأسمنت الذي خنق حيوية الأمكنة وجعلها تعيش الغثيان من جراء المدنية المقرفة. صديقي لا يشعر بالراحة والطلاقة إلا وهو بين أحضان الخلوة يفرّج عن شفتيه الأنة، تبتهج أسارير وجهه كما يبتهج الطفل بملاقاة أمه بعد غياب طويل.
كراسته وذكرياته تتقاطع، تنفصل ثم تتصل من جديد محدثة ثقوبا في الشعور بعمق الألم، تراكيب الصور تختلط فيها جميل الذكريات وألمها، يحدث ويُتعب قلب الإنسان كلما أصّر على التفكير وحرّك الذاكرة باتجاه الماضي، الماضي الذي نحياه في حياتنا الحاضرة ونمد له جسرا لنجتر به خيبة الأمل المؤجل، جسر الحياة الحبلى بالألغاز والمفاجئات لمحيطنا المنتج لمزيد من راهن القلق والحيرة.
لقد كان صديق الطفولة وأذكر أنه كان صديقي الوحيد، عرفته من مرحلة الطفولة حتى الشباب حتى اليوم. كانت صداقتي به أكثر من صداقة الصف والمدرسة والمقعد والحارة، بل تعدت إلى شريك، نتقاسم خبزنا وأسرارنا، نفشي بما تخبئه أمهاتنا من بوح الكلام، ذاك الكلام الذي نسمعه وهنّ مجتمعات مع بعضهن البعض، نفشي أسرار آبائنا حين يصطحبوننا معهم إلى المقاهي أو النزهة وحتى الأسواق تلك أماكن فضفضتهم، الأماكن الحميمية وحدها كانت منبر الترويح، يسردون شكواهم وماتعرضوا له من ضغوطات زوجاتهم؛ كنت صديقه وكان صديقي الوحيد.
أتعارك في اليوم مرات ومرات دفاعا مستميتا لأجله، التلاميذ وأطفال الحارة يستغلون طيبته، يتهكمون عليه، يبرحونه ضربا. كنت دائم العراك لأجله لم يكن ضعيف البنية أو جبانا، أشعر به مسالما نافرا من العنف. يدعوني دوما للهرب من ضجيج المدينة للخروج إلى قلب الطبيعة النابض بالجمال، أقول هذا وكلي يقين بحبه للطبيعة تأتى من نفس جميلة لا غير.
أمد يدي الشمال لشعر رأسي أضغط عليه علني بذلك أطرد شبح الذكريات الواخزة. الذكريات الجميلة أثرها بليغ في النفس أكثر إيلاما من الذكريات الجارحة. حينما نبحث عن ذكريات عزيز علينا داخل القلب نجد مكانه بسهولة بالمقابل نجد ذاك المكان موحشا مقفرا، تجول فيه خيالات وأوهام كما البوم والغربان؛ الذكريات تمتزج بعجزنا عن مساعدة من نحبهم وقتذاك، الأسف ينطبع إلى صفائح جليد واخز، شعور بالذنب، الآن و أنا أحمل كراسته أي واقع حال في العالم يشبه واقعه؟
أفتح كراسته حنينا إليه بقلب يرتجف، إلى كلماته، أعيره كل جسدي لنحيا سويا.
هي الصفحة الثانية، أقرأها وكلي يقين بوجود بعضا مما كان بيننا:
"لا تعجب يا صديقي مما تقرأ، لا تتعجب فأنت عليم ببعض ما أملك، الوحيد الذي تملك بعضا من مفاتيح حياتي الخاصة. لم أتجرأ يوما الكذب عليك أو إخفاء أسراري عنك، أعذرني هناك دوافع كثيرة أبعدتني عن طريقك ودوافع أبعدتك عني، هي الحياة لا غير، مشاغلها كثيرة، فوضاها، إغرائها، عذوبتها البراقة وزخرفها.إن المنفعة والمصلحة التي طبعت على النفس أسرها هي الوحيدة التي جعلتنا نختار مصائرنا ونحدد علامات الدرب، ألا ترى يا صديقي أننا كنا في أرحام أمهاتنا تشكلنا في خلقة النطفة لنكون موصولين، الحياة إذا هي اتصال دائم وانفصال، ألا ترى أننا يوم فصلنا عن أمهاتنا يوم مولدنا بقطع حبل الصرة لم يكن ذلك إلا إيذانا لنا باتصال ووصل جديد مع غيرنا مع هذا العالم بخيره وشره. يا صديقي بالفصل يكون الوصل وبالقطع يكون الاستمرار وبالموت تكون الحياة، هي الحياة يا صديقي والتقاليد المتوارثة نرثها من آبائنا ومجتمعاتنا ومحيطنا، نتوارثه بالبحث عن النفع على حساب الآخرين حتى على أعز ما نملك، فإذا تصادمت مصالحنا صرنا أكثر أعداء لأنفسنا من كوننا أعداء غيرنا. بالفصل نكتشف شخصيتنا وندرك اختيارنا بالقطع نصل إلى حقيقة وجودنا وماهية كياننا. صعب فصل نفسك عن غيرك لتتصل بمحيط يعكس ما تتمنى وتحلم. الوصل قد يورطك طول حياتك في قدر لم تشأ يوما أن تحياه وتجعل الآخرين يحيونه، قد تكون الضحية لغيرك الذين سيقع عليهم اختيارك؛ ضحايا ذاك الوصل اللعين.
سأكلمك من خلال هذه الكراسة، المدونة فيها أيام الغربة هناك وراء البحر، أقرأ منها ما شئت عن الملاك الطاهر داخل أحداث هذه الكراسة.
سأكلمك الآن بصفتك الأخ، الصديق المثالي الذي كان يحضر في محفظته غذائه وفطوره الصباحي ويخفيه عن عائلته ليشركني فيه، أعتبر هذا الكلام مجرد إقرار بالجميل وحفظا لذكرى طيبة أتجالس فيها مع وحدتي.
كما قلت سلفا، لم أكن غير ذاك الطفل الذي تكره عائلته الكبيرة حضوره لأعراسها ومآتمها، تخاف على أطفالها منه ومن الهم الذي يلحق صغارها كلما تطيروا منه، لم أكن أشعر بتعاسة الحياة بقدر شعوري بتعاسة النسب وأكاذيب العرق والانتماء، حييت لأرى الانتماء سوى مصلحة وطاقية مطرّزة يتنافس عليها الأعيان والملأ. الولاء المطلق والاحترام المطلق للسلطة والجاه. الأبناء يعاملون على هذا المبدأ لا غير، والدي لم يكن وافر الحظ من الدنيا، قدره حياة البؤس والفقر، يكد في الدروب الوعرة لأجل رغيف الخبز وسيء الحظ تغيب عنه الشمس حين تفتح له أبواب الكنوز فلا يرى ما يجمع. كان والدي بقدر حبه لنا يعاملنا بعصبية ونرفزة، نشعر بذلك نحسه في عباراته الجارحة، نشعر بذاك العجز الذي لا يمكّنه من جعلنا سعداء كباقي الأطفال بثياب جديدة ومسكن فسيح وبقرطاسيات وكتب مدرسية ولعب وقصص كباقي أطفال العائلات المحترمة في المجتمع. كانت عيناه الرحيمتان دليلنا إلى قلبه، عانى كثيرا وهو يراني عاريا، لا سروال ولا حذاء يدفئني من برد الشتاء القارص.
مرضه جعله ينتحر معنويا أمامنا كل يوم، كنا نشعر بالحزن في غيابه عن البيت؛ الوالدة هي ما تبقى لنا من الدنيا نلجأ لحضنها كلما ازدادت الدنيا ظلاما في وجوهنا. لا تحسب حين أنثر هذا الصقيع أقيم محكمة لما حدث أو أستجدي عطفا، لست ناقما على قدر الله ولائما الوضع القائم المزري. لقد عانيت كما عانى مثلي الظلم الكبير، الحقوق ضائعة، اللصوصية نخرت جسد البلد، لست ممتعضا من جهة على أخرى الكل يشبه بعضه. تدري دائما وأنا صغير السن أرسم المنظر الجميل للوطن والصورة تقترب إلى الكمال والملائكية. الدولة وقتها كانت تمنح الإعانات للمحتاجين والمطاعم المجانية تستقبل أبناء الفقراء تطعمهم وتسقيهم وتمنحهم ما يحتاجونه. أتذكر يوم دخل المدير حاملا في يده قائمة وراح يبحث عني من بين تلاميذ القسم يومها راح الجميع ينظر إلي، حتى أني سمعت من بعظمهم من يقول:
" ناداه المدير ليعطيه صدقة الدولة". كنت لجانبي تنظر إلى عيني المغرورقتين بالدموع، رأيت يومها دموعي في عينيك وشعرت أنك أنا وأنا أنت، أتذكر جيدا كيف قمت بحركة لذلك التلميذ، أذكر وتراني ابتسم الآن وأنا أخط هذه الجمل، كان الطفل ابن رئيس دائرة الأمن، قمت أنت بحركة الذبح بيدك تهديدا له، راح من خلال حركتك ينظر أمامه متغاضيا عما كان يقوله ويفعله، شعرت بالمهانة وقتها وحق الله، كنتُ الوحيد من كل التلاميذ الذين أنعم الله على آبائهم ولم ينعم على والدي المسكين، هي إرادة الله تمّت وأنعم الله عليه بعدها بالقبر.
أتساءل وقتها لما هؤلاء يحيون في هناء وكرامة وأنا أهان صباح مساء على مسمع الجميع، يومها أخرجني المدير بحنان ماسحا على رأسي:
ــ "تعال يا بني، تعال معي، كيف حال أبيك؟ ألا زال مريضا؟
أغرورقت عيناي، لم أكن لأتكلم معه إلا بإشارة إطراق رأسي أي نعم، طأطأته مركّزا بصري بين رجلاي، أبحث عن الأنفة الملتصقة بحذائي المطاطي، سألني من جديد بعدما دخلت مكتبه:
ــ "كيف حال الأب؟ ألا زال لا يقوى على العمل؟"
المدير وقتها نناديه بسيدي قلت له:
ــ "نعم سيدي.
ورد: ــ "سلـّم عليه حين رجوعك للبيت قل له عمي محمد يقول شرفنا في المكتب غدا".
قلت: ــ نعم سيدي.
أعطاني يومها ملابس جديدة في كيس مغلق، ناولني قصاصة ورقية، قرأت عنوانها في الأعلى «استدعاء". علمت بأن المدير عمي محمد يريد رؤية والدي لأجلي أو يريد شهادة تثبت عجزه عن العمل كما يطلبها في كل سنة دراسية.
رجعت بكيس الثياب الجديدة، دخلت القسم قبل نهاية الدرس، راح الجميع يحملق فيّ دون استثناء حتى المعلمة، لم يكن أحد ليرمقني بعطف سواك، حتى أن المعلمة الغليظة القلب دفعتني بقوة من كتفي:
ــ "مكانك أيها الحثالة هي أسرع لا تضيّع وقتي."
لا أعلم لما يكرهون الفقراء وأبنائهم ويعتبرونهم أقل منزلة من الكلاب، لم أكن أملك غير دموعي سلاحا، انفجرتُ بكاء من فعلها الشنيع نلت من أثره صفعات أخرى على وجهي الغض الطري فارتسمت أصابعها عليه، لمّا عدت للبيت لحظت أمي ذلك، توسلت أبي الذهاب إلى المدير للاستفسار عن التوبيخ والضرب المبرّح، لكن جوابه الصمت والرضوخ لواقع المساكين والفقراء داخل المجتمع.
أجاب والدي: "ربما نفسد على الولد أكثر، قد تحوّله معلمته اللعينة إلى عدو تحقد عليه أكثر لو شكوناها المدير؟
كانت صفعاتها سم ثعبان الكبرا الهندي القاتل. مسحت دموعي بكف يدي، صدري يحدث الحشرجة بصوت الألم يا لهذا الظلم. حاولت يا صديقي دفن كل هذا في بئر سحيق ونسيانه لكنني ما استطعت. في حياتي دفنت الكثير من ذكرياتي إلا الذكريات التي غيّرت مسار حياتي.
رجعت للبيت بكيس الثياب، الخد المرسومة عليه الأصابع اللعينة؛ أعطيت أبي الاستدعاء وتهت في حزن عميق، لا يتصور بشر في الدنيا كيف هو الحزن حين يخالط براءة طفل لا يعرف من الدنيا غير طريق البيت والمدرسة والحقل، طفل لا زال هشا طري الجسد والروح. لا أحد يتصور سهما مغروزا مسموما في قلب طفل لا زال لم يدخل الدنيا والحياة بعد، طفل صدره لا يتسع حتى لكلمة تأديب فما بالك بالإهانة التي لا يصبر عليها حتى الكهل؛ قلب طفل لم يعرف من البراءة غير شقاء العالم وشروره الحافة به.
تهت كربّان غرقت سفينته وأضاع وجهته في بحر لجيّ، لا تتصور حكمي يومها على العالم، كانت حزمة من عقد بدأت في التكوين، صدقني يا صديقي لم أجد يومها يدا دافئة غير أيدي بعض المحسنين الأوفياء أو لياء الله، أنت كنت واحدا منهم، أظن أن العالم الفسيح بقدر اتساعه تتسع معه الآلام صنيعة الإنسان.
لقد مزق والدي ذاك الاستدعاء بل وبخني، كأنني كنت المذنب في هذه الحياة يوم أتيت إليها، مرغم على المجيء إلى هذه الحياة العمياء الداكنة بسواد شرور أصحابها وآثامهم. الله خلق نفوسنا زكية جميلة ممتلئة بالخير والجمال والعطاء والصفاء الإنساني كصفاء روحك، أنا لا أؤنب ضميري الآن وأنا أكتب إليك اعترافاتي في الحياة نعم إني أعتبرها اعترافات لأن منبعها صميم الروح، كنتُ صادقا في كتابتها خاصة وهي موجّهة إليك لا إلى سواك، توصلت أنه من يصنع المجرم هم من يحفونه، الشعب هو من يصنع الطاغية والطاغية يصنع الانتقام والمنتقم يصنع الخوف لكيلهما.
لم أختر المجيء إلى الحياة ولو كان الاختيار لي لفضّلت كوني في المجهول أو في مكان آخر غير هذا. ربما اخترت أن لا أخلق وأموت في أصل تكوين الحياة الأولى. مقتنع بأن الدنيا كثرت فيها الشرور والصراعات والآثام نتيجتها الآلام والموت بوجوهه المختلفة، مقتنع الدنيا الخير فيها لا ينقطع، المثل الجميلة موجودة في ثناياه. تمنيت لو أن العالم كله كان نزيها محبا لتلك المثل حتى ينعم الإنسان بحياته كإنسان.
لو خيّرت أن لا آتي إلى الدنيا واستشرت في علم الغيب الخاص بحياتي لقبلت بكوني أي شيء غير أن آتي بشرا إلى هذا المكان، أحاسب فيه على شكل وصورة ووضع اجتماعي لم أختاره ولم أكن لأختاره ولو قدر لي أن أختار.
لِمَا أحاسب إذا على فقري وباعتباري ابن فقير مريض.. أعرف يا صديقي الآن يبدو لك الأمر تشكيكا في اليقين الديني وفي المقدس لكن صدقني أنت أدرى الخلق بصديقك. لست أكثر الناس إيمانا بالله وبقدره لكنني مؤمن.
سألني أبي: ــ "من أعطاك الاستدعاء؟"
أجبته: ـ "المدير عمي محمد وهو بالمرة يسلم عليك"
رفع رأسه للسماء وأذكر أن أذني سرقت السمع وهو يتمتم:
"يا ربي ما ذنب هذا الطفل ليهان؟"
أحسست بالذي يشعر به والدي. ثم قال لي:
ــ "نعم سأذهب إليه في الغد لا تهتم عمك محمد يا ولدي رجل طيب من وقت الثورة هو رجل موقف لا يشبه الآخرين. هل مزقت الكيس لترى ثيابك الجديدة.؟"
مزق والدي كيس الثياب، راح يقيسها على خصري: "تناسبك الثياب يا ولدي.. أحلم أن تصير عالما أو قائدا لتحفك رعاية الله ورحمته"
من يومها يا صديقي وأنا أفكر في كيفية تغيير حالتي الاجتماعية، بدأت أفكر كالكبار على السبل التي تمنحني الأحسن والأفضل لأصير محترما كالأطفال الآخرين، بدأت أحلم بمنزل كبير، بأكل كثير، بسيارة لأبي تشبه السيارات الحكومية لآباء الأطفال أترابي، بدلات وأساور من الذهب لأمي ولعبا كثيرة داخل غرفة فسيحة، بدأت أحلم بأشياء لم يحن وقتها. بدأت أكبر قبل الوقت، بدأت تكبر معي أفكاري الخاصة.
أكتب إليك في هذا المساء الذي يحمل ثقلا كبيرا، في حياتي سيف الليل أقوى من ترس الشمس. كنت في خارج المنزل قبل أن أكتب؛ الهدوء شبح متخفيا يشعرك بهاجس خوف، حركات البشر توقفت، الكل وسعه بيته، أكثرية المحلات مغلقة، لا يجسر الواحد على المغامرة بالتنقل في أزقة المدينة بعدما يشيح الليل رداءه. أهوى هذا الوقت بالذات للخروج متسكعا في الشوارع البلهاء، لم يكن لي من رفيق أقاسمه رغيف الحياة، رفيق حقيقي تتطابق أفكاره وأفكاري؛ رفيق يحمل أحدنا الآخر، يرفد الواحد مواصفات الآخر، من وقت غير بعيد وأنا هكذا بمنأى عن الناس لا ألتقي أحد إلا ما تربطني به متطلبات المعيشة والمعاملة اليومية بما تعلق من أمور العمل لا غير. من وقت بعيد وجدتني أهرب منهم ليس عجزا ولا عن عقد لكنه الحرص على البقاء حيا بما أحمل من مبادئ ومُثل لطالما حرصت للمحافظة والذود عنها. الناس على ألوانهم وأنواعهم كما هناك، تتغير عندهم الأخلاق والقيم لا يهمهم غير منطق المصلحة والمنفعة لا غير، شيء واحد فقط يميزهم عن بعضهم البعض ولائهم يظهر لمن يملك القهر والمال والصلاة لصاحب القوة. الناس مستعدون للتعامل مع الشيطان لو أقتضى الأمر لأجل أهدافهم ومنفعتهم، مستعدون لبيع الوطن والعرض معا. قد يقنعونك بسلوكهم لو حاولت الولوج إلى عالمهم المليء بالمبررات والحجج. وجدتني أبتعد عمن أشاء واربط علاقتي بما دفعتني إليه حكمة المحنة، واظبت على هذا الخيار من زمن بعيد.
هجرت إلى هذه المدينة الحبلى بالألغاز. هجرت مدينتي مرغما لم يعد لي من أحد هناك حتى إخوتي الثلاثة تفرقوا في كل اتجاه بغية البحث عن مستقبلهم الذي ينام في ظلام نياتهم السيئة، أذكر أني كنت أصغرهم ومع هذا ما اعتدت الاتكال عليهم في حياتي، كنت أدرس وأعمل، لم أمد يوما يدي بغية طلب الإعانة رغم حاجتي الكبيرة لبعض المال لسداد بعض متطلبات الدراسة الجامعية.
كنت دائم الاستقرار في الحي الجامعي، لا أغادره إلى مدينتي إلا مرة كل شهرين برفقتك، تعرف هذا. لفـّتُ انتباه طلبة الحي الجامعي، أمر مكوثي صار خبرا تلوكه الألسن، صرت صاحب شهرة مضحكة، سجّلت رقما قياسيا، وصفوني بنزيل فندق الجامعة. أولئك المعلقون الجامعيون هم الأطفال الذين كانوا معنا في صف الدراسة الابتدائي أبناء الأثرياء والمسئولين، لم أكترث لهذا ولن أكترث لأمور مشابهة حدثت كعدم غيابي ولو يوما واحدا من مقاعد الجامعة أو المطعم، لم أغضب حين أطلقوا عليّ أسماء كثيرة وكنايات صارت نكت يتبادلها الطلاب داخل غرفهم وفي نوادي سمرهم.
كنت المتفوق عليهم رضوا أم لم يرضوا، مهما اشتروا نقاطهم من أساتذتهم اللصوص الكراسي الخشبية.
لا يعلم هؤلاء الدوافع الحقيقة التي تجعل الإنسان يقف عاجزا مستسلما أمام خيارات يرونها عارا بينما يراها غيرهم ملاذا آمنا يحقق لهم الاستقرار النسبي ويكفيهم مشقة الحياة.
إخوتي الثلاثة بعدما أنعم الله عليهم، استقل كل واحد بمسكنه وكوّن أسرة، صارت زوجاتهم تتضايق من زياراتي الخفيفة، لا أمكث عند أحدهم، أداروا لي ظهورهم متملصين من وصية أبي بحسن رعايتي ومساعدتي حتى أبلغ رشدي ويتصلـّب عودي في هذه الحياة العصيبة الوعرة، لذا قررت قطع صلتي بعالم الدم والأسرة. أنزوي عنهم فلا أسبب لهم الإحراج مع زوجاتهم ولا مع أنفسهم، لا يمكنني الحكم على ضعفهم، لست حقودا.
الأخوة الحقيقية كما عرفتها لا تنحصر في رابطة الدم والقبيلة والعرق إنما تتعداها إلى فضاء آخر أرحب وأوسع مثل فضائك أيها الصديق. قطعت صلتي بأهلي والحقيقة هم من قطعوا صلتهم بشخصي كما تعرف، لم أجد فيهم من يسأل عني أو يبعث لي بسلام مع من يعرف.
أراسلهم كلما أشتد الشوق بي لكني أجد برودة إحساس من اتجاههم، دفنت حنيني، نسيت أن لي أهلا يسألون عني. لم يكن لي من سند في هذه الحياة غير صديق الطفولة، لقد تتلمذنا ولعبنا وكبرنا ودخلنا الجامعة، سكـّنا غرفة واحدة وتخرجنا من الجامعة وعدنا إلى مدينتا معا، تقاسمنا أسرارنا وآلامنا ومسراتنا كان كل منا ظل الآخر، لسان الآخر، حتى ليبدو للرائي الذي ألف وجودنا وحضورنا أننا توأمان.
أنت الوحيد في الأعياد من يأتيني بالعشاء ويصطحبني معه للبيت، وحدك من تحضر لي نصيبي مما طبخت خالتي ربيحة الماهرة، لقد اكتريت الغرفة بعدما باع إخوتي بيت أبي واقتسموا ثمنه، المضحك المبكي أني صرت مثل النازحين. أشعر أنك الوحيد في العالم الذي يستحق حبي، لم تكن تكفيني النقود التي أحصل عليها من العمل المؤقت لأتدبر به بعض أموري لولا مساعدتك لي. تعطيني أجر كراء الشقة، تقول أنها نقود بعثها إليك أبي، أعرف أنك من تدبرها وطلبها من أبيه، مدان لك بالكثير. كانت هجرتنا الغير شرعية هي المنعطف الذي غيـّر حياتي ومنحني حياة ستجدها هنا في هذه الكراسة، ستعلم هنا الحقائق التي ارتقت إليها الروح وتحررت من قيدها ووثاقها الذي شدّها نحو الوجود الزائف لكل ما يحيط بنا."
أغلقت كراسته الجلدية، تجمّدت في مكاني غير أني سرحت بخيالي عن الدنيا وعن المكان والزمان المباشر في الحاضر رحت متنقلا في ثنايا رحلة بين رواق أيام صديقي الذي أملك الآن بين يدي أسراره التي تركها لي والكثيرون يتوقون لمعرفة ولو بعضا منها، هذه الأسرار في جوهرها تهدد حياتي. ذكرياتي وذكرياته نقطة واحدة تجمع صورنا الكثيرة المتنوعة في تصور واحد حول واقع حالنا الذي كان والذي لا يزال. إنها نقطة الذاكرة المبعث لفيض الأحداث الماضية وصورها، لا يمكنك بحال من الأحوال أن تعزل تلك الصور والأحداث من داخلك، إنها تراكمات الماضي، الماضي الذي يصنع يومياتنا، إنه الحبل المفتول يلف بعضه بعضا، لا يمكنك فصل طبقاته عن بعضها البعض كذلك أيام ماضينا، بغير هذا الحبل تصير ساعات حاضرنا هشة. لا يمكنك أن تنّحي الصور العالقة عندك أو تتناساها.
النسيان بفضله تجف دموعنا ويؤكد حقيقة مقامنا، الشواهد وحدها شفاء النسيان. شفائنا في حضور الوعي المتقاعد المختار لمكان اللاشعور كمهرب للصور التي نريدها أن تشيخ وتموت داخل إطار كبتنا المدفون في أغوارنا، الذين نحبهم حد الموت نمنحهم المطلق من الكمال ننسى أخطائهم لا نتذكرها أبدا، الذين يغادروننا هكذا ببساطة مرغمين نتمنى نسيانهم في وقت قياسي ولو استطعنا دفع الأجر مقابل إطفاء نار كحولهم على قلوبنا لفعلنا. ذكرياتهم أليمة مهما كانت عذبة المعنى وحلوة؛ الفقد والبعاد هو ما يجعل ذاكرتهم متعبة مرّوعة، صعب أن يعذبك إنسان تحبه ولا تملك منه في نفسك غير تخيلات تنام في دماغك وتصورات تتوهمها، تلبسها على شكله، ترسم له ملامح جديدة جميلة تضيفها لخلقته وطبيعته ولشخصيته على غير ما جاء بها إلى هذا العالم. إنما الإضافات التي زدتها هي ذاك الحب والحنين الذي جعلك تسرح في فضاء الاشتياق والأمنية الغير متحققة.
فتحت الكراسة من جديد، كأن بها سحر بابل وتعويدة عرافة دلفيا، السحر الذي يشدني للقراءة بنهم وانتباه وقلق إيقاعيين، قراءة النفس المعذبة التي تشكو العذاب والمعاناة، النفس التي تشكو من دوائر ما يخفيه الزمن، وما تقتضيه الأوقات السيئة والعذبة معا، الأوقات السلبية والموجبة، سحر يحرّض نفسي الواهنة على الاستزادة من معرفة ما كان مخبئا عني كل هذا الوقت وقد ظننت أني فقدت صديقي في أعماق البحر، سحر يدفعني للهروب من كبت يمارس عليّ قهرا.
---------------------------------------------------------------------------
* فصل من رواية لم تنشر بعد، بعنوان "الغرق" للكاتب الجزائري خالد ساحلي
التعليق