سرديات عودة
فصل من رواية " هالة النور" للروائي المصري محمد العشري (الجمعة 30 آذار 2012)
( أ )
تأمل حسام الظلال الهادئة التي بللت الرمال بلونها الرمادي، رآها تُكوَّن أشباه وجوه يعرفها متناثرة في سطح الأرض، امتدت شعورها صاعدة إلى حقل الشمس، فغطت وهجها بوشاح رطب، أزاحت في حركاتها البطيئة، وابتساماتها الهادئة، السراب الراقص في المطبات الهوائية الباردة، أبطلت سحره، اجتمعت تلك الوجوه الغائبة التي تنتظره، شكلت نافورة ضخمة على شكل نبتة عيش غراب وحيدة، تنمو بلا توقف منذ أن خُلقت، فبدت هياكلها عالية، رؤوسها السحاب، تمر من بين سيقانها المرتفعة دوامات غبار خفيف، نتجت عن هبّة هوائية مخروطية الجسم، تحركها الموسيقى يمينـًا ويساراً، بدت من بعيد كأشجار عتيقة، متكئة على جذورها، الممتدة في الفراغات النائمة بين الحبيبات الأرضية المكونة للون الأصفر الصحراوي، رسمت الطبيعة لوحة حية، استحضرت الغائبين أمام عينيه، لوّنت ظلالهم بالروح المتوهجة التي تتغلغل في داخل مسام الجماد، الحيوان، الطير، الإنسان، بشكل طاغٍ لا تستطيع أن تغفله عين، أو تهرب منه للحظة، فالصحراء آسرة، ساحرة، تشرب الروح في رمالها العطشى، تبخرها في ليلها نسيمـًا أخاذاً، يلف الكون بعطره وموسيقاه.
***
نظر حسام في ساعته، نفخ مبرداً لسعة عقاربها، أحس بضجر وضيق عميقين يعصرانه، خرج من الكرفان مدفوعـًا بأمله في أن يرى عربة تقله إلى بيته، بعد أن أنهى المهمة التي أتى لها، وبقى عاطلاً بلا شيء يؤديه.
أخبره مديره عبر الهاتف أن عليه الانتظار إلى يوم الجمعة، ليعود في العربة "الجيب"، التي ستقل الشيخ من الإسكندرية صباحـًا ليصلي بالعاملين صلاة الجمعة في الموقع، بعدها يتناول طعامه في الميز، ويُرجعه السائق إلى بيته.
أكد عليه أن يلتزم بخط السير المرسوم للعربة مسبقـًا، وبمجرد وصوله يدعه ينطلق بها ليسلمها في جراج الشركة في القاهرة.
في ذلك القلق والتوتر فكر في شيء يفعله، تحرك، لف حول نفسه، يداه مشتبكتان خلف خاصرته، ينظر في الرمل تحت قدميه، بحثـًا عن فكرة ما، لكنه استكان حين وجد رأسه خاويـًا، متعبـًا، لا نفع فيه. رسمت عيناه الحائرتان جملة لم يستطع أن يكتمها في حلقه، هَمّهَمَ متأفّفـًا:
- لابد أن أنتظر!! شيء مؤسف.
***
رأى نفسه يجري بلا توقف، في المسافة التي تقترب من أربعمئة كيلو متر، منها مئة كاملة في عرض الصحراء، حتى تلامس إطارات العربات أول طريق أسفلتي، تساءل:
(ماذا لو ترك كل ذلك خلفه ورحل؟ ما الذي سيحدث؟)
امتد الوقت أمامه، تضخم فاقسـًا المزيد من الفقاعات الهوائية بين شفتيه، لامس بأصابعه تلك الفقاعات التي تسقط أمامه بسرعة، فينبت لها جناحان يحملانها ويطيران بها في المسافة ما بين وجهه المعروق، واللاشيء الذي يقف أمامه كسد حصين، يمنعه من الحركة والعودة سريعـًا إلى حيث يريد.
***
تحول فراغ الصحراء من حوله إلى بحر من الأمواج الرملية الساخنة، التي تغرقه باندفاعها وثورتها، تسحق رأسه بحوافها الحادة، وأسنانها الشرسة. قبض على قطعة صخر زلطية، شعر بلسعها، قذفها أمامه بعنف، أحدثت شرراً صاحبه صوت حاد، ارتد متضخمـًا، مولداً في المدى البعيد حيوانات هائجة، تفر من قيودها، تدوس كل ما يعترضها، بحثـًا عن بوابة تخرج منها لتعيش حريتها، فرت أمامه، أقدامها تدب في الأرض، تهزها هزًّا، اختفت، لم يبق منها سوى ذيل الغبار الطويل.
***
يومان آخران هنا بلا شيء يفعله، فقط يجلس أمام مرآة الانتظار المستفزة، قاضمـًا أظافره بنهم، رغم تجاوزه للثلاثين من العمر بأشهر عديدة، إلا أنه ما زال يتفتف فتات الأظافر، بالعـًا مرارة استمراره الضجِر، غير قادر على الإقلاع عنها، مغلقـًا عينيه للتفكير بعيداً عما تركه خلفه في المدينة، انشغل بتتبع التضاريس التي تبديها واجهة الصخور الناتئة تحت قدميه، أمعن في ثني حديد الوقت والتخلص من سطوته، أزاح سيف القلق المسلط على رقبته، تحرك لا مباليـًا في فراغ لا أخر له، انصاع إلى الأوامر الروتينية التي تقف تحت سقف خرساني عتيق، تحد من الرغبة في تغيير الواقع، تسرب إليه إحساسه الذي لازمه منذ فترة، رأى نفسه قرداً تائهـًا وحيداً يهز ذيل اللامبالاة من خلفه، ترك رأسه المنتفخ كبالون ليتيه في تفكير متداخل لا يؤدي إلى شيء، فقط يقوده إلى المزيد من فتات الأظافر في فمه، جرب كثيراً ولم يستطع أن يترك أظافره تنمو بشكل مستوٍ ولو مرة واحدة، فما أن يدب القلق والتوتر في نفسه، حتى يتحول إلى واحد من كبار القاضمين للأظافر في العالم.
***
سأل زملاءه عن إمكانية وصول عربات إليهم، بداية من تلك اللحظة، أكد عليهم أن يخبروه إذا أتت واحدة في مهمة ما من إحدى الشركات التي يتعاملون معها، شدّ رموش عينه اليمنى قليلاً، تثاءب، رنّ في أذنيه صوت مديره، يحدثه من مكتب القاهرة، يرتب معه تفاصيل العمل الذي أتى من أجله.
بعد أن أملى حسام عليه تقريراً مفصلاً بما قام به، أعطاه نتائج التسجيلات الكهربائية للبئر، متضمنـة سجل تفاصيل الطبقات الأرضية، من السطح الخارجي حتى العمق النهائي المحفور، على بُعد تسعة آلاف قدم، دلّل على احتمالات تواجد الزيت، في الطبقة الأرضية المستهدفة من الحفر إلى ذلك العمق، بما شاهده من قراءات كبيرة، لمقاومة الصخر الرملي - صخر الخزان - للموجات الكهربائية التي تبثها الآلات المتدلية في فتحة البئر - كشخص معذب يتدلى من قدميه ليعترف على حقيقة يخفيها - تستقبلها العربة المجهزة على شاشات أجهزة الكمبيوتر، تُرسم على هيئة منحنيات خطية يستطيع أن يحلّلها حسام إلى أرقام، مع تواجد فتحات مسامية عالية بين حبيبات الرمل الدقيقة، كممرات مدينة عربية قديمة، تؤدي مسالكها إلى بعضها البعض، تسمح بمرور السوائل فيها فتتعاظم فرصة تواجد الخام، ويُجرى الإعداد لترتيب مهام أخرى خاصة باستخراجه، بعد قياس الضغط المحبوس كمارد ينتظر من يفتح له ثقبـًا في أي اتجاه، فيندفع من فتحة البئر إلى أعلى ساحبـًا الزيت في ركابه، أما إذا كان ذلك الضغط شيخـًا هزيلاً فإنه سيصبح في حاجة إلى مساعدة خارجية من المضخات الرافعة.
***
العربة التي أقلته من بيته تركته في الصحراء، عادت بعد أن أوصلته لتبيت في جراج الشركة في القاهرة. كان لديه أمر مهم يود إنجازه بأسرع ما يمكن قبل أن تظهر تلك المأمورية فجأة، ها هو ذا وحده في متاهة لا يستطيع الخروج منها، معزولاً في مكان ناءٍ، لا يربطه بالعالم الخارجي إلا أصوات الهاتف عبر القمر الصناعي، أجرى عدة مكالمات سريعة، خرج إلى مكان نومه، أخرج قدميه من الحذاء الجلدي الطويل، خلع أفروله الأزرق، ألقاه جانبـًا بإهمال، استلقى على سريره.
***
وهو ممدد، غارق في التفاصيـل الـتي يمـر بهـا، فـرد ذراعيـه محـاولاً الإمساك بأي شيء يقع تحت ملمس أصابعه، تسرب ضجيج مولد الكهرباء في الفراغ الواسع، شَكّلَ كائنات أثيرية عملاقة، تهيم على وجوهها المعروقة بحثـًا عن الراحة، فتدخل مُتعَبة في دهاليز الأرض، تحطّ على بطونها، تترك أقدامها وأذرعها مفككة، تنام مُطلقة زفيرها الساخن يدفع عجلات الريح إلى الدوران.
***
المخلوقات الحية المنتشرة هنا وهناك، فتحت أفواهها وزعقت، ملأت صوانَيّ أذنيه بالزحام، تناثرت في فراغ الصحراء، ملأته بدبيبها المتواصل. الزملاء في الموقع فتحوا أبواب الثرثرة في أشياء كثيرة لا تعنيـه، ولا يود سماعها.
بحث عن مخرج، باب يهرب منه، مد يده، أطفأ النور، أحاط رأسه بأصابعه. نامت الدوائر التي يفكر فيها تحت غطائه، غلبه جهد العمل، وطائرة النوم أطلقت أزيزها المرتفع، أنشبت جناحيها العملاقين، اخترقت السحب الكثيفة، ظللته بجسمها البارد، وفراشها الناعم، طارت به إلى عالم هامس، بعيداً عن صوت الماكينات المتخلق ليلاً ونهارًا.
لفه سير النعاس الناعم في دورانه، غطى عينيه بحرير التعب والإرهاق، حمله في مركب هوائي، رفعه في الهواء، عَمّقه في سماء مبهجة الألوان.
***
(ب)
رأيتها للمرة الأولى في الطريق، تلفتُّ منجذبـًا، نظرتُ إليها ساهمـًا، فضحِكتْ مُغلقة رموشها القصيرة، خفق القلب خفقة مباغتة، انتفض بعدها وانفجر في صدري بعد سكونه زمنـًا، حتى ظننت أنه مات، ولا أحد يستطيع أن ينتشله من نومه، ارتفع ساق الورد بسرعة وازدهر محمرًا، قطفتُ وردة من بائع متجول، صدّرتها في مواجهتها، تلون وجهها بخطوط الخجل، تلعثمتْ كلماتها، تقدمتُ منها خطوة، ضممت كفيَّ إلى بعضهما، تفتحت وردة الابتسام بيننا وأطلقت أريجها المنعش.
***
فكرتُ كثيراً بوجل في طموحات العاشقين، وهم يهبطون بمظلات الحب الفضفاضة في نار الوجد، فيطفئون النار وتشتعل قلوبهم بالمحبة، رأيت قلبي يتسع ليظلل الكون، يهبط بي في لب الحياة، وأنا أعبر الخط الفاصل بين الخيال والحقيقة، توصلت إلى أن النهل من عسل القلوب المتوهجة لا يلزمه وقفات وتردد، فقط الانطلاق بأقصى سرعة في خلاياها، التشبث بأحضانها، مهما كبر ألم اللسع، وانغرست في الجسم إبر الواقع، فالعمر مهما طال قصير كطرفة عين، والحياة تستحق أن تعاش، أن تُأخذ من بين فكَّي الزمن، الذي لا يتوقف عند أحد، فالحياة المشبعة بالوصال فيها من المُتع ما يروي ألف صحراء جرداء، يحيلها إلى بساتين وجنان.
***
لم أتوقف طويلاً، قـررت أن أخـوض التجربـة إلى منتهاهـا، أن أتتبع العلامات، أن أحفر بإزميل ساخن في سيقان الأشجار العتيقة، أن أجعل لخطواتي آثاراً في كل مكان تهبط فيه ملائكة الحب، أن أقترب من شاطئ النهر العتيق متأملاً، وعلى حافته اللينة - فقط - أترك عطشي ليغوص إلى القاع.
***
في الخطوة التالية سرنا متجاورين، أصابعنا على ساق الوردة المتوهجة، تلتذ بوخز براعم شوكها المتأججة.
***
دعوتها للخروج بعيداً عن الزحام، تسللنا إلى مكان خافت الإضاءة، وارف الأشجار على ضفة النيل، فاجأتها بقبلة خاطفة على خدها الأيمن، ارتعشت يدها في يدي، مضت إلى جواري صامتة، تستجمع أطرافها وتشدها إليها، أخرجتُ من جيبي قصاصات الورق، التي دونت فيها كلمة واحدة، ملأت كفيَّ بها، رفعتها في الهواء، تركتها تتناثر فوق رأسها كحبات مطر منعشة، تلمس الخدود برفق، والكلمات تتأرجح في الهواء، تفرش الأرض تحت أقدامنا، ضحكتْ بطفولة لذيذة، انحنت تلتقط بعض القطع الصغيرة المتفرقة بأصابعها، قرأتْ واحدة واندهشت، أخري وازدادت اندهاشـًا وضحكـًا، ثالثة، رابعة، وعاشرة..
***
الكلمة الواحدة التي رسمّتها متأنيـًا بلون أخضر زاهٍ في كل الأوراق، تندفع خارجة من قلب صغير مرسوم باللون الأحمر، جَعَلَتها تحرر جناحيها، تحيطني بذراعيها، تلّح بفرح طفولي:
- أريد أن أسمعها منك أيها الساحر.
دفعني طلبها إلى الصمت، مدركـًا أن صمت العشق في وجوه المحبين يلهب الشوق، يزرع في القلب ورود المحبة المتوهجة، أحطت رقبتها بذراعي، فابتسمتْ، لفت ذراعها الأيمن حول خصري، واصلنا السير في خطوات بطيئة، في عمق الأشجار الوارفة، والعشب الندى يصحو على ملامسة أقدامنا له، انتبهت لانصاتها التام، وهي في انتظار أن أمطرها بلمسات وكلمات الغزل.
نظرتُ خلفي مبتسمـًا، لقطع الورق التي لحقت بنا، غطت أكتافنا وصدرينا كسرب حمام أراد أن يستريح، سمعتها تهمس في أذني، تردد منتشية في غناء عذب، لمستهُ يخرج من بين أوراق الأشجار المتدلية الأغصان، يحطّ على كتفيَّ مستكينـًا:
"أحبك.. أحبك....".
***
حينما اقتربت مني إلى هذا الحد، لم أدر إلا والأفرع تمتد، تخرج مني، تُملأ بأوراق كثيفة، تحولت إلى شجرة في الليل، مكتظة بالعصافير، تحول اقترابها الناعم مني إلى طلقة صياد أفزعت العصافير النائمة، فانطلقت متسربة وراء بعضها البعض.
***
السكون الذي خدرني بعد أن مسني شعور اللذة، جعلني حائراً، أتساءل:
من أنا؟
هل أنا حقًّا أنا؟
أم أنا الشجرة؟
هل أنا ظلّها؟
في شوق إلى أن تسكنني العصافير، تخترقني طلقة الصياد من آن لآخر، في لحظات ما أستطيع أن أتجرد من كل شيء، تتساقط أوراقي، تطير طيوري، أصبح عاريـًا في حاجة إلى الدفء، إلى غلاف حي يحتوي الروح الشاردة.
***
مـرة أخـرى ضمـمت أصـابعـي علـى أرواح صغـيرة، أخـرجـــت
القصاصات وطيرتها في الهواء، فبدا الحب الخارج من جيبي كالعصافير المرحة، تبص من أعشاشها فاردة رقابها العارية من الريش، تملأ الجو بالزقزقات، تدعو أسرابـًا كثيرة للانضمام إلى حفلها، فتتهادى ضربات الأجنحة لتحجب السحب بنثر الزغب الأخضر في الهواء، والجيبان اللذان امتدا بطول الساقين لم يتوقفا عن إنتاج أفراخ جديدة.
***
عدت يسبقني صفيري، وزهوي يشدني من ذراعيَّ، يضع كفي الأيسر على الخشب الأملس، وأنا أصعد درجات السلم، واحدة تلو الأخرى كأنني أعزف على أصابع بيانو ضخم، يضخ الموسيقى في حجرات المبنى العتيق، يوزعها في تناغم، يتصاعد من الفتحات، والجوقة تردد غنائي من خلف الإضاءة المثبتة على الحوائط، المجلدة بألواح خشبية مزخرفة، تتراقص أمام عينيَّ، زَيّنَ مس الحب كل شيء بلون وردي، يدعو إلى الفرح، والصعود على درجات الموسيقى، للوصول إلى بهجة الروح.
***
قفزت البهجة من عينيَّ، فابتسمتُ لمكتب استقبال الفندق، وأنا أمد يدي لألتقط مفتاح الحجرة، من المسمار المزخرف، الذي مد أصابعه ليسقطه في راحة يدي، دون أن أنطق كلمة واحدة أعطيته ظهري، سبحت بخفة في اتجاه غرفتي، وأنا أمدد على السرير، مُعجبـًا بنفسي، قلت: (حتى المبتكرون العظام لا يفعلون سوى أشياء بسيطة للغاية، يعتبرها الآخرون معجزات).
فلم أكن أدري أن مجرد ابتكار حيلة بسيطة للتعبير عن نبضات القلب، كانت هي العصا السحرية التي رفعت السماء على قدمين، فتحت لي سبعة وسبعين بابـًا، في اتجاه العرش.
***
---------------------------------------------
فصل من رواية "هالة النور" للروائي والكاتب المصري محمد العشري الصادرة حديثاً في بيروت في طبعة عربية جديدة لدى الدار العربية للعلوم/ ناشرون
( أ )
تأمل حسام الظلال الهادئة التي بللت الرمال بلونها الرمادي، رآها تُكوَّن أشباه وجوه يعرفها متناثرة في سطح الأرض، امتدت شعورها صاعدة إلى حقل الشمس، فغطت وهجها بوشاح رطب، أزاحت في حركاتها البطيئة، وابتساماتها الهادئة، السراب الراقص في المطبات الهوائية الباردة، أبطلت سحره، اجتمعت تلك الوجوه الغائبة التي تنتظره، شكلت نافورة ضخمة على شكل نبتة عيش غراب وحيدة، تنمو بلا توقف منذ أن خُلقت، فبدت هياكلها عالية، رؤوسها السحاب، تمر من بين سيقانها المرتفعة دوامات غبار خفيف، نتجت عن هبّة هوائية مخروطية الجسم، تحركها الموسيقى يمينـًا ويساراً، بدت من بعيد كأشجار عتيقة، متكئة على جذورها، الممتدة في الفراغات النائمة بين الحبيبات الأرضية المكونة للون الأصفر الصحراوي، رسمت الطبيعة لوحة حية، استحضرت الغائبين أمام عينيه، لوّنت ظلالهم بالروح المتوهجة التي تتغلغل في داخل مسام الجماد، الحيوان، الطير، الإنسان، بشكل طاغٍ لا تستطيع أن تغفله عين، أو تهرب منه للحظة، فالصحراء آسرة، ساحرة، تشرب الروح في رمالها العطشى، تبخرها في ليلها نسيمـًا أخاذاً، يلف الكون بعطره وموسيقاه.
***
نظر حسام في ساعته، نفخ مبرداً لسعة عقاربها، أحس بضجر وضيق عميقين يعصرانه، خرج من الكرفان مدفوعـًا بأمله في أن يرى عربة تقله إلى بيته، بعد أن أنهى المهمة التي أتى لها، وبقى عاطلاً بلا شيء يؤديه.
أخبره مديره عبر الهاتف أن عليه الانتظار إلى يوم الجمعة، ليعود في العربة "الجيب"، التي ستقل الشيخ من الإسكندرية صباحـًا ليصلي بالعاملين صلاة الجمعة في الموقع، بعدها يتناول طعامه في الميز، ويُرجعه السائق إلى بيته.
أكد عليه أن يلتزم بخط السير المرسوم للعربة مسبقـًا، وبمجرد وصوله يدعه ينطلق بها ليسلمها في جراج الشركة في القاهرة.
في ذلك القلق والتوتر فكر في شيء يفعله، تحرك، لف حول نفسه، يداه مشتبكتان خلف خاصرته، ينظر في الرمل تحت قدميه، بحثـًا عن فكرة ما، لكنه استكان حين وجد رأسه خاويـًا، متعبـًا، لا نفع فيه. رسمت عيناه الحائرتان جملة لم يستطع أن يكتمها في حلقه، هَمّهَمَ متأفّفـًا:
- لابد أن أنتظر!! شيء مؤسف.
***
رأى نفسه يجري بلا توقف، في المسافة التي تقترب من أربعمئة كيلو متر، منها مئة كاملة في عرض الصحراء، حتى تلامس إطارات العربات أول طريق أسفلتي، تساءل:
(ماذا لو ترك كل ذلك خلفه ورحل؟ ما الذي سيحدث؟)
امتد الوقت أمامه، تضخم فاقسـًا المزيد من الفقاعات الهوائية بين شفتيه، لامس بأصابعه تلك الفقاعات التي تسقط أمامه بسرعة، فينبت لها جناحان يحملانها ويطيران بها في المسافة ما بين وجهه المعروق، واللاشيء الذي يقف أمامه كسد حصين، يمنعه من الحركة والعودة سريعـًا إلى حيث يريد.
***
تحول فراغ الصحراء من حوله إلى بحر من الأمواج الرملية الساخنة، التي تغرقه باندفاعها وثورتها، تسحق رأسه بحوافها الحادة، وأسنانها الشرسة. قبض على قطعة صخر زلطية، شعر بلسعها، قذفها أمامه بعنف، أحدثت شرراً صاحبه صوت حاد، ارتد متضخمـًا، مولداً في المدى البعيد حيوانات هائجة، تفر من قيودها، تدوس كل ما يعترضها، بحثـًا عن بوابة تخرج منها لتعيش حريتها، فرت أمامه، أقدامها تدب في الأرض، تهزها هزًّا، اختفت، لم يبق منها سوى ذيل الغبار الطويل.
***
يومان آخران هنا بلا شيء يفعله، فقط يجلس أمام مرآة الانتظار المستفزة، قاضمـًا أظافره بنهم، رغم تجاوزه للثلاثين من العمر بأشهر عديدة، إلا أنه ما زال يتفتف فتات الأظافر، بالعـًا مرارة استمراره الضجِر، غير قادر على الإقلاع عنها، مغلقـًا عينيه للتفكير بعيداً عما تركه خلفه في المدينة، انشغل بتتبع التضاريس التي تبديها واجهة الصخور الناتئة تحت قدميه، أمعن في ثني حديد الوقت والتخلص من سطوته، أزاح سيف القلق المسلط على رقبته، تحرك لا مباليـًا في فراغ لا أخر له، انصاع إلى الأوامر الروتينية التي تقف تحت سقف خرساني عتيق، تحد من الرغبة في تغيير الواقع، تسرب إليه إحساسه الذي لازمه منذ فترة، رأى نفسه قرداً تائهـًا وحيداً يهز ذيل اللامبالاة من خلفه، ترك رأسه المنتفخ كبالون ليتيه في تفكير متداخل لا يؤدي إلى شيء، فقط يقوده إلى المزيد من فتات الأظافر في فمه، جرب كثيراً ولم يستطع أن يترك أظافره تنمو بشكل مستوٍ ولو مرة واحدة، فما أن يدب القلق والتوتر في نفسه، حتى يتحول إلى واحد من كبار القاضمين للأظافر في العالم.
***
سأل زملاءه عن إمكانية وصول عربات إليهم، بداية من تلك اللحظة، أكد عليهم أن يخبروه إذا أتت واحدة في مهمة ما من إحدى الشركات التي يتعاملون معها، شدّ رموش عينه اليمنى قليلاً، تثاءب، رنّ في أذنيه صوت مديره، يحدثه من مكتب القاهرة، يرتب معه تفاصيل العمل الذي أتى من أجله.
بعد أن أملى حسام عليه تقريراً مفصلاً بما قام به، أعطاه نتائج التسجيلات الكهربائية للبئر، متضمنـة سجل تفاصيل الطبقات الأرضية، من السطح الخارجي حتى العمق النهائي المحفور، على بُعد تسعة آلاف قدم، دلّل على احتمالات تواجد الزيت، في الطبقة الأرضية المستهدفة من الحفر إلى ذلك العمق، بما شاهده من قراءات كبيرة، لمقاومة الصخر الرملي - صخر الخزان - للموجات الكهربائية التي تبثها الآلات المتدلية في فتحة البئر - كشخص معذب يتدلى من قدميه ليعترف على حقيقة يخفيها - تستقبلها العربة المجهزة على شاشات أجهزة الكمبيوتر، تُرسم على هيئة منحنيات خطية يستطيع أن يحلّلها حسام إلى أرقام، مع تواجد فتحات مسامية عالية بين حبيبات الرمل الدقيقة، كممرات مدينة عربية قديمة، تؤدي مسالكها إلى بعضها البعض، تسمح بمرور السوائل فيها فتتعاظم فرصة تواجد الخام، ويُجرى الإعداد لترتيب مهام أخرى خاصة باستخراجه، بعد قياس الضغط المحبوس كمارد ينتظر من يفتح له ثقبـًا في أي اتجاه، فيندفع من فتحة البئر إلى أعلى ساحبـًا الزيت في ركابه، أما إذا كان ذلك الضغط شيخـًا هزيلاً فإنه سيصبح في حاجة إلى مساعدة خارجية من المضخات الرافعة.
***
العربة التي أقلته من بيته تركته في الصحراء، عادت بعد أن أوصلته لتبيت في جراج الشركة في القاهرة. كان لديه أمر مهم يود إنجازه بأسرع ما يمكن قبل أن تظهر تلك المأمورية فجأة، ها هو ذا وحده في متاهة لا يستطيع الخروج منها، معزولاً في مكان ناءٍ، لا يربطه بالعالم الخارجي إلا أصوات الهاتف عبر القمر الصناعي، أجرى عدة مكالمات سريعة، خرج إلى مكان نومه، أخرج قدميه من الحذاء الجلدي الطويل، خلع أفروله الأزرق، ألقاه جانبـًا بإهمال، استلقى على سريره.
***
وهو ممدد، غارق في التفاصيـل الـتي يمـر بهـا، فـرد ذراعيـه محـاولاً الإمساك بأي شيء يقع تحت ملمس أصابعه، تسرب ضجيج مولد الكهرباء في الفراغ الواسع، شَكّلَ كائنات أثيرية عملاقة، تهيم على وجوهها المعروقة بحثـًا عن الراحة، فتدخل مُتعَبة في دهاليز الأرض، تحطّ على بطونها، تترك أقدامها وأذرعها مفككة، تنام مُطلقة زفيرها الساخن يدفع عجلات الريح إلى الدوران.
***
المخلوقات الحية المنتشرة هنا وهناك، فتحت أفواهها وزعقت، ملأت صوانَيّ أذنيه بالزحام، تناثرت في فراغ الصحراء، ملأته بدبيبها المتواصل. الزملاء في الموقع فتحوا أبواب الثرثرة في أشياء كثيرة لا تعنيـه، ولا يود سماعها.
بحث عن مخرج، باب يهرب منه، مد يده، أطفأ النور، أحاط رأسه بأصابعه. نامت الدوائر التي يفكر فيها تحت غطائه، غلبه جهد العمل، وطائرة النوم أطلقت أزيزها المرتفع، أنشبت جناحيها العملاقين، اخترقت السحب الكثيفة، ظللته بجسمها البارد، وفراشها الناعم، طارت به إلى عالم هامس، بعيداً عن صوت الماكينات المتخلق ليلاً ونهارًا.
لفه سير النعاس الناعم في دورانه، غطى عينيه بحرير التعب والإرهاق، حمله في مركب هوائي، رفعه في الهواء، عَمّقه في سماء مبهجة الألوان.
***
(ب)
رأيتها للمرة الأولى في الطريق، تلفتُّ منجذبـًا، نظرتُ إليها ساهمـًا، فضحِكتْ مُغلقة رموشها القصيرة، خفق القلب خفقة مباغتة، انتفض بعدها وانفجر في صدري بعد سكونه زمنـًا، حتى ظننت أنه مات، ولا أحد يستطيع أن ينتشله من نومه، ارتفع ساق الورد بسرعة وازدهر محمرًا، قطفتُ وردة من بائع متجول، صدّرتها في مواجهتها، تلون وجهها بخطوط الخجل، تلعثمتْ كلماتها، تقدمتُ منها خطوة، ضممت كفيَّ إلى بعضهما، تفتحت وردة الابتسام بيننا وأطلقت أريجها المنعش.
***
فكرتُ كثيراً بوجل في طموحات العاشقين، وهم يهبطون بمظلات الحب الفضفاضة في نار الوجد، فيطفئون النار وتشتعل قلوبهم بالمحبة، رأيت قلبي يتسع ليظلل الكون، يهبط بي في لب الحياة، وأنا أعبر الخط الفاصل بين الخيال والحقيقة، توصلت إلى أن النهل من عسل القلوب المتوهجة لا يلزمه وقفات وتردد، فقط الانطلاق بأقصى سرعة في خلاياها، التشبث بأحضانها، مهما كبر ألم اللسع، وانغرست في الجسم إبر الواقع، فالعمر مهما طال قصير كطرفة عين، والحياة تستحق أن تعاش، أن تُأخذ من بين فكَّي الزمن، الذي لا يتوقف عند أحد، فالحياة المشبعة بالوصال فيها من المُتع ما يروي ألف صحراء جرداء، يحيلها إلى بساتين وجنان.
***
لم أتوقف طويلاً، قـررت أن أخـوض التجربـة إلى منتهاهـا، أن أتتبع العلامات، أن أحفر بإزميل ساخن في سيقان الأشجار العتيقة، أن أجعل لخطواتي آثاراً في كل مكان تهبط فيه ملائكة الحب، أن أقترب من شاطئ النهر العتيق متأملاً، وعلى حافته اللينة - فقط - أترك عطشي ليغوص إلى القاع.
***
في الخطوة التالية سرنا متجاورين، أصابعنا على ساق الوردة المتوهجة، تلتذ بوخز براعم شوكها المتأججة.
***
دعوتها للخروج بعيداً عن الزحام، تسللنا إلى مكان خافت الإضاءة، وارف الأشجار على ضفة النيل، فاجأتها بقبلة خاطفة على خدها الأيمن، ارتعشت يدها في يدي، مضت إلى جواري صامتة، تستجمع أطرافها وتشدها إليها، أخرجتُ من جيبي قصاصات الورق، التي دونت فيها كلمة واحدة، ملأت كفيَّ بها، رفعتها في الهواء، تركتها تتناثر فوق رأسها كحبات مطر منعشة، تلمس الخدود برفق، والكلمات تتأرجح في الهواء، تفرش الأرض تحت أقدامنا، ضحكتْ بطفولة لذيذة، انحنت تلتقط بعض القطع الصغيرة المتفرقة بأصابعها، قرأتْ واحدة واندهشت، أخري وازدادت اندهاشـًا وضحكـًا، ثالثة، رابعة، وعاشرة..
***
الكلمة الواحدة التي رسمّتها متأنيـًا بلون أخضر زاهٍ في كل الأوراق، تندفع خارجة من قلب صغير مرسوم باللون الأحمر، جَعَلَتها تحرر جناحيها، تحيطني بذراعيها، تلّح بفرح طفولي:
- أريد أن أسمعها منك أيها الساحر.
دفعني طلبها إلى الصمت، مدركـًا أن صمت العشق في وجوه المحبين يلهب الشوق، يزرع في القلب ورود المحبة المتوهجة، أحطت رقبتها بذراعي، فابتسمتْ، لفت ذراعها الأيمن حول خصري، واصلنا السير في خطوات بطيئة، في عمق الأشجار الوارفة، والعشب الندى يصحو على ملامسة أقدامنا له، انتبهت لانصاتها التام، وهي في انتظار أن أمطرها بلمسات وكلمات الغزل.
نظرتُ خلفي مبتسمـًا، لقطع الورق التي لحقت بنا، غطت أكتافنا وصدرينا كسرب حمام أراد أن يستريح، سمعتها تهمس في أذني، تردد منتشية في غناء عذب، لمستهُ يخرج من بين أوراق الأشجار المتدلية الأغصان، يحطّ على كتفيَّ مستكينـًا:
"أحبك.. أحبك....".
***
حينما اقتربت مني إلى هذا الحد، لم أدر إلا والأفرع تمتد، تخرج مني، تُملأ بأوراق كثيفة، تحولت إلى شجرة في الليل، مكتظة بالعصافير، تحول اقترابها الناعم مني إلى طلقة صياد أفزعت العصافير النائمة، فانطلقت متسربة وراء بعضها البعض.
***
السكون الذي خدرني بعد أن مسني شعور اللذة، جعلني حائراً، أتساءل:
من أنا؟
هل أنا حقًّا أنا؟
أم أنا الشجرة؟
هل أنا ظلّها؟
في شوق إلى أن تسكنني العصافير، تخترقني طلقة الصياد من آن لآخر، في لحظات ما أستطيع أن أتجرد من كل شيء، تتساقط أوراقي، تطير طيوري، أصبح عاريـًا في حاجة إلى الدفء، إلى غلاف حي يحتوي الروح الشاردة.
***
مـرة أخـرى ضمـمت أصـابعـي علـى أرواح صغـيرة، أخـرجـــت
القصاصات وطيرتها في الهواء، فبدا الحب الخارج من جيبي كالعصافير المرحة، تبص من أعشاشها فاردة رقابها العارية من الريش، تملأ الجو بالزقزقات، تدعو أسرابـًا كثيرة للانضمام إلى حفلها، فتتهادى ضربات الأجنحة لتحجب السحب بنثر الزغب الأخضر في الهواء، والجيبان اللذان امتدا بطول الساقين لم يتوقفا عن إنتاج أفراخ جديدة.
***
عدت يسبقني صفيري، وزهوي يشدني من ذراعيَّ، يضع كفي الأيسر على الخشب الأملس، وأنا أصعد درجات السلم، واحدة تلو الأخرى كأنني أعزف على أصابع بيانو ضخم، يضخ الموسيقى في حجرات المبنى العتيق، يوزعها في تناغم، يتصاعد من الفتحات، والجوقة تردد غنائي من خلف الإضاءة المثبتة على الحوائط، المجلدة بألواح خشبية مزخرفة، تتراقص أمام عينيَّ، زَيّنَ مس الحب كل شيء بلون وردي، يدعو إلى الفرح، والصعود على درجات الموسيقى، للوصول إلى بهجة الروح.
***
قفزت البهجة من عينيَّ، فابتسمتُ لمكتب استقبال الفندق، وأنا أمد يدي لألتقط مفتاح الحجرة، من المسمار المزخرف، الذي مد أصابعه ليسقطه في راحة يدي، دون أن أنطق كلمة واحدة أعطيته ظهري، سبحت بخفة في اتجاه غرفتي، وأنا أمدد على السرير، مُعجبـًا بنفسي، قلت: (حتى المبتكرون العظام لا يفعلون سوى أشياء بسيطة للغاية، يعتبرها الآخرون معجزات).
فلم أكن أدري أن مجرد ابتكار حيلة بسيطة للتعبير عن نبضات القلب، كانت هي العصا السحرية التي رفعت السماء على قدمين، فتحت لي سبعة وسبعين بابـًا، في اتجاه العرش.
***
---------------------------------------------
فصل من رواية "هالة النور" للروائي والكاتب المصري محمد العشري الصادرة حديثاً في بيروت في طبعة عربية جديدة لدى الدار العربية للعلوم/ ناشرون