سرديات عودة
"هيفاء " للقاص الجزائري الطيب صالح طهوري (السبت 24 آذار 2012)
ـ ابنها أنت؟
ـ نعم.. أجاب..
عيناه واسعتان وعميقتان كعينيها.. نفس السمرة الفاتحة ونفس الشعر الأسود اللامع أيضا..
حين رأيته دق القلب الرابض فيَ بعنف، واضطربت الرجلان اللتان تحملاني..
توجهت نحوه.. أنت ابنها..صح؟
ـ نعم.. قال مبتسما..
وكعادتي في توزيع الحلوى على الأطفال أخرجت البعض مما كان في جيبي وأعطيته..
ـ ما اسمك؟.. سألته..
رضا.. قال ..
أعدت اليد إلى الجيب وأخرجت كل ما بقي فيها من حلوى..
ـ خذ.. قلت.. وأنا أمد يدي إليه خفيفا..
كانت الجدران تحاصرني بغيابها..
والنوافذ الصغيرة المسيجة تلاحقني من كل الجهات بطيفها..
ضممته إلى الصدر.. قبلت جبينه..
وحين أطلت بنظراتها المضطربة كان الزقاق ما يزال خاليا من مارته..
فوجئتْ بوجودي.. وفوجئت بابتسامتها الحزينة..
عادت برأسها إلى الداخل.. تأكدت أن لا أحد خلفها..
قالت هامسة: اشتقت إليك كثيرا..
: وإليك أكثر.. قلت بصوت خفيض بطيء..
أشارت إليه.. هو.. إنه هو..
صحت هامسا ورجلاي ترتجفان من شدة مفاجأة الإشارة: .. ابني.. ابني.. وضممته إلى الصدر أكثر..
حين اكتملت أنوثتها كان لي طفلان..
سمرتها الفاتحة كانت حقول قمح تتماوج تاركة في قلب كل واحد منا نحن شباب القرية لهفة الشوق إليها..
عيناها السوداوان الواسعتان والعميقتان غزالتان نافرتان .. نجري ونجري .. لكننا نعجز عن الإمساك بهما..
كانت ترسل شعرها على الكتفين عاريا ، وتتعمد هزه من حين إلى آخر، فتهتز القلوب منا ..
كان البعض ممن تعلم من شباب القرية يسميها هيفاء.. هاهي هيفاء.. انظروا.. هناك هيفاء.. يا للروعة.. هيفاء.. هيفاء..
وحين دخلتُ قسم السنة الأخيرة في مدرسة القرية الوحيدة ونظرت كعادتي إلى وجوه التلاميذ أمامي للتعرف عليهم.. رأيتها..
كدت أصيح: يا للسحر..
وقلت في السر: خالقي كن معي..
ما إن أدخل القسم حتى تبادر إلى مسح السبورة وكتابة تاريخ الدرس.. ومرات تسألني عنوانه وتكتبه أيضا..
كانت ابتسامتها الدفء الذي يسري في الجميع..
تنظر إلى التلميذ فيتجمد في مكانه..
وتنظر إلى التلميذة فتتجمد كذلك..
كل العيون تتوجه نحوها حين تتكلم..
وكل القلوب تهفو إليها عندما تقف..
حين تزوجت أول مرة ، وكان العريس عسكريا، أرسلت زوجتي وولديّ إلى عرسها..
أغلقت الباب وجلست..
وضعت الرأس التائه بين الكتفين.. وجلست..
كانت ابتسامتها تكبر وتكبر..
امتلأت جدران الغرفة بها..
امتلأ السقف أيضا..
وامتلأت الأرض بخطواتها..
كانت تبكي.. وكنت أراها..
حين أركبوها السيارة رفعت رأسي .. ونظرت..
كانت الجدران بيننا.. ورأيتها..
كانت تنظر جهتي.. والسيارة تبتعد.. وتبتعد..
في المرة الثانية.. غامرت وخرجت.. وكان العريس هذه المرة رجل أعمال.. يستورد كل شيء .. ويصدر كل شيء أيضا..
كنت أقف مع جمع المتفرجين حين أخرجوها..
كانت تنظر.. وأنا أنظر..
مشت في اتجاه السيارة.. ومشيت كالآخرين..
تعثرتْ وسقطت.. تعثرتُ وسقطت.. وفي نفس اللحظة ..
أركبوها السيارة..
ابتعدتْ.. وابتعدتُ..
كانت نظراتها مشدودة إليّ..
وكانت نظراتي مشدودة إليها..
اشتقت إليك كثيرا.. قالت..
وقلت هامسا: وإليك أكثر..
رفعت المكنسة من جديد.. وراحت تتظاهر بالكنس أمام الباب..
انحنت برأسها إلى الأرض وراحت تتظاهر بالكنس..
وكان الطفل يبتسم..ينظر إليها تارة.. وإلي تارة أخرى..
وكان الزقاق خاليا من مارته..
قالت: كرهت كل شيء..
أعرف ذلك قلت.. وأضفت: لكنها الحياة.. لا مفر من أقدارها..
وفي السر كنت أقول: أعرف أنه لا يأتيك إلا نادرا.. أعرف أنه يقضي يومين في الأسبوع مع زوجته الفرنسية هناك.. ويومين آخرين مع زوجته الجديدة الأمريكية.. هنالك.. وأعرف أنه يقضي يوم الجمعة وأيام المناسبات الدينية في السعودية حيث تعيش زوجته الرابعة.. أما اليومان الآخران فيخصصهما للاطلاع على أحوال أعماله..
وأعرف أنه يُخضع كل عصابات تهريب الجمر والتمر والقمل والرمل والنفط والعفط والحجر والبشر والشيح والريح والأوهام والأغنام له..
كررت: صدقني لقد كرهت كل شيء.. كل شيء..
عادت إلى الداخل .. وأغلقت الباب خلفها..
كنت أسمع نحيبها.. وكان النحيب في داخلي يتعالى..
وكان بعض المارة قد ظهروا في الزقاق من بعيد..
ـ هاهو.. يلازم نفس المكان منذ مدة.. ويسلك نفس الطريق كل يوم..قال لزميله.. ونظرا بألم إليّ..
ـ قال الآخر معلقا: ليس وحده.. لقد كنا كلنا..هل نسيت..؟
ـ لكنه الوحيد الذي ما يزال مشدودا إلى وتدها.. أجاب زميله..
ـ قال الآخر ونظراته تمتد إلى الباب المغلق أيضا: صحيح.. صحيح..
حين ابتعدا.. ضممت الطفل من جديد إلى القلب.. كنت كمن يعصره.. ثم.. أطلقته.. ومشيت..
كنت أسمع نحيبها.. وأسمع نحيبي أكثر..وأنا أمشي متثاقل الخطوات..
كانت حقول القمح خارج القرية سمرتها الذاهلة..
كانت النسائم الخفيفة شعرها المتماوج فوق ساحل المتوسط شمالا والأهاقار جنوبا..
كنت أمشي .. وأمشي.. خطاي ثقيلة والأرض صدفة تضيق وتضيق..
وكان الأفق أمامي عينيها السوداوتين الواسعتين ..
كنت أمشي .. وكانت ابتسامتها الأعماق التي تغرس روحي في سواد الرحيل..
كنت أمشي.. وكانت الخطوات قدميها الهاربتين..
... وكنت أمشي حين سمعت صوت الطفل خلفي: عمي .. عمي..
استدرت بكل جسدي إلى الخلف ..
كان الطفل يلوّح بالمنديل من بعيد..
وكان يلهث حين سلمني المنديل..
ـ أرسلته أمي إليك.. قال..
قبلت الطفل.. وفتحت المنديل..
في القلب الحرفان الأولان من اسمينا( هـ ط)
تحت القلب: إلى الأبد..
وفي الأعلى كان الهلال يحيط النجمة بكلتا ذراعيه..
نظر الطفل إلي بعمق.. ضمني هو أيضا إلى الصدر.. قبلني..
ثم أعطى الريح لرجليه.. وسار..
وكنت ألاحقه حين رأيت البيوت صخورا تتحرك باتجاه بعضها وتتلاصق.. والأرض شقوقا تكبر..
ووقفت مع الناس مندهشا حين علا صوت الريح مندفعا وغطت وجه السماء غيوم السواد..
وقفت مندهشا .. يد الطفل تمتد نحوي.. وعيناها تزرعان في مقلتيه الشوق إلى البعيد البعيد.
ـ نعم.. أجاب..
عيناه واسعتان وعميقتان كعينيها.. نفس السمرة الفاتحة ونفس الشعر الأسود اللامع أيضا..
حين رأيته دق القلب الرابض فيَ بعنف، واضطربت الرجلان اللتان تحملاني..
توجهت نحوه.. أنت ابنها..صح؟
ـ نعم.. قال مبتسما..
وكعادتي في توزيع الحلوى على الأطفال أخرجت البعض مما كان في جيبي وأعطيته..
ـ ما اسمك؟.. سألته..
رضا.. قال ..
أعدت اليد إلى الجيب وأخرجت كل ما بقي فيها من حلوى..
ـ خذ.. قلت.. وأنا أمد يدي إليه خفيفا..
كانت الجدران تحاصرني بغيابها..
والنوافذ الصغيرة المسيجة تلاحقني من كل الجهات بطيفها..
ضممته إلى الصدر.. قبلت جبينه..
وحين أطلت بنظراتها المضطربة كان الزقاق ما يزال خاليا من مارته..
فوجئتْ بوجودي.. وفوجئت بابتسامتها الحزينة..
عادت برأسها إلى الداخل.. تأكدت أن لا أحد خلفها..
قالت هامسة: اشتقت إليك كثيرا..
: وإليك أكثر.. قلت بصوت خفيض بطيء..
أشارت إليه.. هو.. إنه هو..
صحت هامسا ورجلاي ترتجفان من شدة مفاجأة الإشارة: .. ابني.. ابني.. وضممته إلى الصدر أكثر..
حين اكتملت أنوثتها كان لي طفلان..
سمرتها الفاتحة كانت حقول قمح تتماوج تاركة في قلب كل واحد منا نحن شباب القرية لهفة الشوق إليها..
عيناها السوداوان الواسعتان والعميقتان غزالتان نافرتان .. نجري ونجري .. لكننا نعجز عن الإمساك بهما..
كانت ترسل شعرها على الكتفين عاريا ، وتتعمد هزه من حين إلى آخر، فتهتز القلوب منا ..
كان البعض ممن تعلم من شباب القرية يسميها هيفاء.. هاهي هيفاء.. انظروا.. هناك هيفاء.. يا للروعة.. هيفاء.. هيفاء..
وحين دخلتُ قسم السنة الأخيرة في مدرسة القرية الوحيدة ونظرت كعادتي إلى وجوه التلاميذ أمامي للتعرف عليهم.. رأيتها..
كدت أصيح: يا للسحر..
وقلت في السر: خالقي كن معي..
ما إن أدخل القسم حتى تبادر إلى مسح السبورة وكتابة تاريخ الدرس.. ومرات تسألني عنوانه وتكتبه أيضا..
كانت ابتسامتها الدفء الذي يسري في الجميع..
تنظر إلى التلميذ فيتجمد في مكانه..
وتنظر إلى التلميذة فتتجمد كذلك..
كل العيون تتوجه نحوها حين تتكلم..
وكل القلوب تهفو إليها عندما تقف..
حين تزوجت أول مرة ، وكان العريس عسكريا، أرسلت زوجتي وولديّ إلى عرسها..
أغلقت الباب وجلست..
وضعت الرأس التائه بين الكتفين.. وجلست..
كانت ابتسامتها تكبر وتكبر..
امتلأت جدران الغرفة بها..
امتلأ السقف أيضا..
وامتلأت الأرض بخطواتها..
كانت تبكي.. وكنت أراها..
حين أركبوها السيارة رفعت رأسي .. ونظرت..
كانت الجدران بيننا.. ورأيتها..
كانت تنظر جهتي.. والسيارة تبتعد.. وتبتعد..
في المرة الثانية.. غامرت وخرجت.. وكان العريس هذه المرة رجل أعمال.. يستورد كل شيء .. ويصدر كل شيء أيضا..
كنت أقف مع جمع المتفرجين حين أخرجوها..
كانت تنظر.. وأنا أنظر..
مشت في اتجاه السيارة.. ومشيت كالآخرين..
تعثرتْ وسقطت.. تعثرتُ وسقطت.. وفي نفس اللحظة ..
أركبوها السيارة..
ابتعدتْ.. وابتعدتُ..
كانت نظراتها مشدودة إليّ..
وكانت نظراتي مشدودة إليها..
اشتقت إليك كثيرا.. قالت..
وقلت هامسا: وإليك أكثر..
رفعت المكنسة من جديد.. وراحت تتظاهر بالكنس أمام الباب..
انحنت برأسها إلى الأرض وراحت تتظاهر بالكنس..
وكان الطفل يبتسم..ينظر إليها تارة.. وإلي تارة أخرى..
وكان الزقاق خاليا من مارته..
قالت: كرهت كل شيء..
أعرف ذلك قلت.. وأضفت: لكنها الحياة.. لا مفر من أقدارها..
وفي السر كنت أقول: أعرف أنه لا يأتيك إلا نادرا.. أعرف أنه يقضي يومين في الأسبوع مع زوجته الفرنسية هناك.. ويومين آخرين مع زوجته الجديدة الأمريكية.. هنالك.. وأعرف أنه يقضي يوم الجمعة وأيام المناسبات الدينية في السعودية حيث تعيش زوجته الرابعة.. أما اليومان الآخران فيخصصهما للاطلاع على أحوال أعماله..
وأعرف أنه يُخضع كل عصابات تهريب الجمر والتمر والقمل والرمل والنفط والعفط والحجر والبشر والشيح والريح والأوهام والأغنام له..
كررت: صدقني لقد كرهت كل شيء.. كل شيء..
عادت إلى الداخل .. وأغلقت الباب خلفها..
كنت أسمع نحيبها.. وكان النحيب في داخلي يتعالى..
وكان بعض المارة قد ظهروا في الزقاق من بعيد..
ـ هاهو.. يلازم نفس المكان منذ مدة.. ويسلك نفس الطريق كل يوم..قال لزميله.. ونظرا بألم إليّ..
ـ قال الآخر معلقا: ليس وحده.. لقد كنا كلنا..هل نسيت..؟
ـ لكنه الوحيد الذي ما يزال مشدودا إلى وتدها.. أجاب زميله..
ـ قال الآخر ونظراته تمتد إلى الباب المغلق أيضا: صحيح.. صحيح..
حين ابتعدا.. ضممت الطفل من جديد إلى القلب.. كنت كمن يعصره.. ثم.. أطلقته.. ومشيت..
كنت أسمع نحيبها.. وأسمع نحيبي أكثر..وأنا أمشي متثاقل الخطوات..
كانت حقول القمح خارج القرية سمرتها الذاهلة..
كانت النسائم الخفيفة شعرها المتماوج فوق ساحل المتوسط شمالا والأهاقار جنوبا..
كنت أمشي .. وأمشي.. خطاي ثقيلة والأرض صدفة تضيق وتضيق..
وكان الأفق أمامي عينيها السوداوتين الواسعتين ..
كنت أمشي .. وكانت ابتسامتها الأعماق التي تغرس روحي في سواد الرحيل..
كنت أمشي.. وكانت الخطوات قدميها الهاربتين..
... وكنت أمشي حين سمعت صوت الطفل خلفي: عمي .. عمي..
استدرت بكل جسدي إلى الخلف ..
كان الطفل يلوّح بالمنديل من بعيد..
وكان يلهث حين سلمني المنديل..
ـ أرسلته أمي إليك.. قال..
قبلت الطفل.. وفتحت المنديل..
في القلب الحرفان الأولان من اسمينا( هـ ط)
تحت القلب: إلى الأبد..
وفي الأعلى كان الهلال يحيط النجمة بكلتا ذراعيه..
نظر الطفل إلي بعمق.. ضمني هو أيضا إلى الصدر.. قبلني..
ثم أعطى الريح لرجليه.. وسار..
وكنت ألاحقه حين رأيت البيوت صخورا تتحرك باتجاه بعضها وتتلاصق.. والأرض شقوقا تكبر..
ووقفت مع الناس مندهشا حين علا صوت الريح مندفعا وغطت وجه السماء غيوم السواد..
وقفت مندهشا .. يد الطفل تمتد نحوي.. وعيناها تزرعان في مقلتيه الشوق إلى البعيد البعيد.