سرديات عودة
"تحت سماء أخرى" (الخميس 15 آذار 2012)
الكاتبة الاماراتية: ظبية خميس
---------------------------------
"حتى دودة طولها بوصة، لديها روح طولها نصف بوصة"/ مقولة بوذية
هذا هو الربيع. بالتأكيد. الهواء الذي يشبه حالة نشوة خفيفة من بداية السكر. درجة الإضاءة الساطعة دون ما ألم للعينين. تنشق روائح مبهمة تخلط ما بين طمي الأرض، زهور الأوركيد، وأريج الماء. البشرة في تفتحها، والذاكرة كذلك.
حملت بين يديها أغصان الخوخ والمشمش الطويلة، ذات الزهيرات الوردية والحبائب الحمراء، بالإضافة إلى بوكيه كبير من الورد الأحمر البلدي، زهور الليلم، عصفور الجنة، عباد الشمس، الزنبق، الجلاديوس، الكارنيشن، وضمة صغيرة من زهور البنفسج. واجتازت الشارع الذي يفصل ما بين محل "أركاديا للزهور"، وسيارتها اليابانية المركونة في ناصية من نواصي شارع 26 يوليو في الزمالك.
وضعت هدايا الربيع تلك على الكرسي الخلفي، برفق واستقلت سيارتها عبر شوارع الزمالك الملتفة حول نفسها متأملة" ذلك المعمار ذو الطراز الخاص، حركة الشارع في أول المساء، واتجهت نحو كوبري الزمالك في اتجاه ميدان سفنكس، شارع جامعة الدول العربية، ثم المهندسين.
في البيت ينفتح الباب على كوريدور صغير، يستقبلها تمثال سخمت، ثياب الشيفون المطرزة الزرقاء والبنفسجية الخليجية، قطع الحرير الهندي المطرزة بالأحجار الذهبية وخيوط الحرير البريسم وهي تهفهف على الحاجز الزجاجي الذي يفصل الكوريدور عن ردهة البيت، وصالوناته.
خلعت الفستان الأسود الشانيل، الإيشارب الصغير ذو الورود الحمراء والبيج الملفوف حول عنقها، وأزالت البروش الذهبي بقطته الحمراء عن الفستان وبقية أكسسوارات ووضعتهم على الكومدينو أمام مرآة الزينة. ثم ارتدت روب الكومينو المشجر والمعرق بألوانه الخضراء والبنفسجية وانتعلت الشبشب الماليزي المصنوع من قماش الباتيك الأخضر، واتجهت نحو المطبخ لترتب أزهارها في الفازات. كانت تحب الفازة الزرقاء الكبيرة بشكل خاص، وكذلك الفازة الشفافة الطولية التي تضعها في غرفة نومها مغيرةً أنواع الزهور فيها كل أسبوع بحسب الفصول وحالة الطقس.
إنسابت الموسيقى الخلفية على وقع سي. دي مشبعاً بصوت بيللي هاليدي ورائحة غناء الجاز القديمة.
ــ ــ ــ ــ
في البار على طاولة صغيرة كان يرج الثلج في كأس الويسكي الساك. أمامه زجاجة صغيرة من نوع تشيفاس ريغال، إناء الثلج، والمقبض المعدني. وفي مواجهته كرسي فارغ. درجة الإضاءة خافتة والديكور يوحي بمرحلة الأربعينات من القرن العشرين. بار واسع، أنيق، يتحرك الزمن فيه بمهل، ولوحات ماتيس، كليمنت، ودييغو ريفيرا تمنح بألوانها، نساءها، زهورها، وأشجارها براحاً رومانتيكيا خاصاً بهذا المكان.
تجرع كأسه ببطء، ثم أشعل سيغار هافانا وأخذ ينفث الهواء أمامه ليتحرك عبق السيغار في المكان صانعاً سحابات صغيرة زرقاء.
لن يمكث في نيويورك طويلاً هذه المرة، لقد فقد الصخب سحره فيها. لولا الطبعة الأمريكية لروايته الأخيرة لما كان هنا اليوم. إن نيويورك التي يحبها تقبع هناك، في البعيد، السبعينات والثمانينات، ربما. برودوي، أوف أوف برودوي، فيليج، البرونكس أتلانتك آفينيو، ليتل إيتالي، ذي فيفث آفينيو الشوارع المرقمة التي كان يجتازها في مانهاتين مقتفياً أثار هيزي ميللر، سوزان سونتاج، ووالت ويتمان.
أما اليوم، فهذه نيويورك أخرى. نيويورك لا يعرفها ولا يود أن يقابلها.
هكذا فكر حسن المأمون، وفكر، أيضاً، فيها. فكر فيها بعمق وشجن. ارتسمت على وجهه ابتسامة شاحبة صغيرة، وشاردة. يتوجب عليه أن يرسل إليها بنسخة من روايته بالطبعة الأمريكية. إنها كانت دائماً تفضل قراءة الرواية بالإنجليزية. سيرسل إليها الرواية بكافة اللغات التي ترجمت إليها. إنها تستحق ذلك. أليست تلك هي روايتها في آخر الأمر. إن ريتا ميسين التي ابتكرها بطلة للرواية.. هي نفسها مهرة بنت عبيد تلك التي تتنفس الآن، تحت سماء أخرى.
ــ ــ ــ ــ
كان شاباً وسيماً، ذو بشرة نحاسية ورشاقة حسية. معتدل الطول، له وجه ذو ملامح تمزج ما بين الهندي الأحمر، والعربي القديم. جبهة عالية، أنف مستقيم وحاجبين محددين تجمع بينهما شعيرات خفيفة. له وجنتين مرتفعتين وشفتين مرسومتين بعناية، دقيقتين بحدة خفيفة ولون عسلي غامق. وله شامة واضحة بنية اللون تحت أذنه اليسرى، وعينين برموش كثيفة سوداء ولون عسلي غامق. خصل شعره الأشهب تصل إلى ما قبل كتفيه بقليل. البنطلون، القميص ، الفيزت، وقبعة البيريه مع الغليون الذي يدخنه تنظر إليه النساء فتلتقي مدارات الجسد، القلب والعقل، معاً.
- " لن يستطيع رجل ما، أي رجل آخر، أن يحبك كما أحبك، أبداً ".
تذكرت كلماته تلك... تذكرتها بعد عشرين عاماً. هل كان محقاً؟
ــ ــ ــ ــ
أوشين بلو، يذكرها به. في لابواتيه تختار عطورها وترى تلك الزجاجة هناك بين العطور الرجالية. تذهب نحوها وترش قليلاً منها على ظاهر كفها .. لتشمه... تشم البحر، المحيط الأطلسي، وترحل إلى هناك، إلى نيويورك... وعبرها إلى إنديانا، إلى أن تصل إلى بلومنجتون المدينة الصغيرة التي أعادت تشكيل مصيرها.. المدينة التي تقبع في الميدويست الأمريكي. تعود بذاكرتها إلى عام 1975.
ــ ــ ــ ــ
تدور الكرة الأرضية تحتها. من مطار أبو ظبي إلى مطار بيروت، ثم لندن، ثم نيويورك.
نيويورك تلك التي استقبلتها ليلاً تلك الفتاة في الخامسة عشر من عمرها. ترتدي أوفيرأوول أزرق من الكتان، تي شيرت أبيض، وحذاء ذو كعب عالي مسطح وقلادة ذهبية تتدلى من عنقها آية الكرسي وخارطة ذهبية لفلسطين. بشعرها الطويل، والكثيف الفاحم وملامح وجهها التي تمازج ما بين الرقة الأنثوية، العنفوان، وبوادر التمرد تحركت تلك الفتاة حاملة حقيبة يدها المصنوعة من الخيش الهندي الملون ذو الطابع الهيبي، وكتاب سميك في يدها الأخرى بعنوان "الأعمال الكاملة لنزار قباني".
سمعت صوتاً يناديها:
- "مهرة، مس مهرة"، وعندما التفتت نحو ذلك النداء، رأت أمامها سيدة أمريكية بيضاء، ذات شعر قصير أشقر، ترتدي نظارة تخفي عينين زرقاواتين وتبتسم ابتسامة مرحبة بها. كانت تلك هي آيرين سميث.
في العمارة الشاهقة في مانهاتن، وفي فيفث آفينيو حيث الشرفة الواسعة التي تطل على غابة كثيفة من العمارات المشابهة وعلى منظر بعيد لحديقة السينترال بارك... كانت الشرفة تمتلئ بجرار الفخار ذات النباتات الصبارية، الزهور، والسرخس.
مكتب السيكيورتي في مدخل العمارة، ومحرقة الزبالة ذات الظرفة المعدنية في كل دور من الأدوار والسجاد الأحمر الذي يكسي أرضية كل ممرات تلك الأدوار والصالونات المتعجرفة في ركن الاستقبال أمام الأسانسيرات.. كل تلك كانت جديدة عليها. غير أنها ها هي هنا بكامل ثقتها وارتياحها لاستكشاف العالم الجديد وخوض حياة عصرية والدخول في صلب العقلية الغربية حيث لم تسبقها أي فتاة من عائلتها إلى ذلك. كل شيء كان مرحباً به، وكأنما هنالك موعد حتمي أدركته وضربته مع القدر.. قدرها ذلك والخطوات الأولى التي لم تعرف بعد أنها خطوات لن يكتب لها العودة إلى موطئ قدمها القديم أبداً من جديد.
كانت آيرين سميث أستاذة علم الأنثروبولوجيا في جامعة نيو يونفيرسيتي، هي صديقة قريبها الذي يعيش في نيويورك، ويعمل سفيراً في الأمم المتحدة ذي غيرل فيريند، والتي ستكون زوجته خلال عام من الآن. آيرين وجاسم أعدا لها وجبة سباغيتي بولونيز تلك الليلة، وضحكت مهرة كثيراً، وهي تتلقى تعليماتها الأمنية. باب الشقة المتوسطة الحجم كان يحمل عشرة أقفال مثبتة عليه: سلاسل، وزلاجات أقفال يتم استخدامها كلها قبل الذهاب إلى النوم. أما المجوهرات، والنقود فيتم حشوها داخل بطن سمك بلاستيكي يودع في فريزر الثلاجة.
سوف تنام في الصالون على الكرسي الذي يتحول إلى سرير في الليل، وفيما يذهب جاسم إلى الأمم المتحدة وتذهب آيرين إلى الجامعة خلال النهار فإنها سوف تقضي هذه الفترة في مدرسة لتحسين مستوى اللغة الإنجليزية إلى حين التحاقها بالجامعة في أواخر هذا الشهر حيث اختارت أن تدرس في جامعة ولاية إنديانا فرع مدينة بلومنجتون.
ــ ــ ــ ــ
أول انطباع راودها وهي تتجول في مدينة نيويورك، إنها مدينة أليفة وكأنها تعرفها من قبل. بعد أن ينهي الأستاذ العجوز السمين، ثقيل الظل، مستر غريغوري دروسه اليومية لها، ويحرك يده مداعباً شعرها الأسود الكثيف وهو يودعها بكلمة "باي بيبي، سي يو تومورو"، كانت تتجول على هواها في شوارع مانهاتن. الشوارع المرقمة تقودها بيسر في المدينة إلى العمارة التي تستضيفها في مانهاتن.
مطاعم فاخرة ومتنوعة إيطالية، صينية، يابانية، فرنسية، وميدل إيستيرن. محلات الأكل السريع بيتزا، مكدونالز، آربيز، ويندي، كنتاكي. وعربات الهوت دوغ، الكستناء المشوية، الدونتتز، وباسكين روبينز.
المقاهي، المكتبات والديبارتمينت ستورز ومحلات الأزياء الراقية. غير أن أكثر ما لفت انتباتها فنانين الشوارع والشحاذين. موسيقى واسكتشات رسم وأولاد يرقصون على إيقاعات شبه إفريقية متفننين في تحريك أجسادهم.
- "هالو ... ها أوريو دوينغ؟"
تتكرر هذه التحية حيث ما ذهبت مهرة. كان مكانها المفضل ساحة تتحول إلى مربع للتزحلق – سكيتينغ في الصيف، ثم إلى آيسكيتينغ في الشتاء.
ارتاحت للزنوج من الأولاد والبنات. يذكرونها بأصدقاء الطفولة الذي كانت تلعب معهم. علموها السكيتينغ، ومضت معهم إلى هارليم التي لم تسمع من قبل. لم تشاهد الكثير من الأشخاص البيض هناك ، معظمهم من السود غير أنهم كانوا مألوفين جداً بالنسبة لها. كان بعضهم يسألها:
- "هل أنت تشيكانو؟"
لم تعرف معنى الكلمة، وأدركت فيما بعد أن تشيكانو تعني الأسبان الأمريكيين أو ذوي الأصول الأمريكية اللاتينية.
حيثما ذهبت مهرة لا أحد يسألها إن كانت عربية. يفترضون إنها من أمريكا اللاتينية، أسبانية، يونانية، هندية وحينما تجيبهم بأنها عربية لا يعرفون معنى ذلك ثم يختصرون المسألة بأنها من "الميدل إيست". أما حين تقول بأنها من الخليج العربي فإنهما يجهلون ذلك، ثم يتذكرون خليجاً آخر، الخليج الفارسي. وحين تقول مهرة إنها من الإمارات فهذه بالنسبة إليهم كلمة تشير إلى كوكب جديد تم اكتشافه وليس إلى بلد آخر.
يسألونها أسئلة غريبة.
- "هل أتيت إلى أمريكا على جمل؟"
- "هل تعرفون البيض والدجاج؟"
- "هل ترتدون ثياباً هناك أم أنكم عراة مثل أفريقيا؟
- "هل شاهدت تليفزيون من قبل، ألديكم ماء مثلج ودايت بيبسي هناك؟!"
بعد زياراتها المتكررة لهارليم، وتحرك استكشافها المطمئن لنيويورك قرر جاسم وآيرين أن يجلسا معها ويناقشا قلقهما عليها. جلسا يكررا أن هذه مدينة خطيرة، وأن الشوارع تعج بالمجرمين واللصوص، وأن عليها أن تتجنب الحديث مع الغرباء وأن لا تذهب إلى تلك الأحياء المخيفة مثل هارليم والبرونكس لأنها قد تتعرض لما لا تحمد عقباه. غير أن مهرة التي لم يسبق لها مقابلة "الخوف"، لم تبذل جهداً للإصغاء إليهما، وسخرت في داخلها من مخاوفهما المبالغ فيها. قرر جاسم وآيرين التعامل معها بطريقة أخرى سوف يذهبون معها إلى السينما. فرحت بالفكرة. في المرتين المتتاليتين أحضرا لها البوب كورن والشوكولاته والبيبسي كولا وجلست مهرة مستعدة للفيلم. في المرة الأولى كان فيلم "جوز: الفك المفترس"، وفي المرة الثانية كان "ديث ويش: أمنية الموت". انتابها الرعب من الفيلمين ولم تعد تجرؤ على الاقتراب من بحر نيويورك، ولا حديقة السينترال بارك. صارت ترمق الآخرين بحذر، ذلك أن هذين الفيلمين كانا أعنف ما قد رأته في حياتها حتى ذلك الوقت. أسماك متوحشة، عصابات، مسدسات، قتل.. يا إلهي المدرسة والبيت أكثر رحمة من ذلك.
في البيت محطات تليفزيونية كثيرة يمكن أن تشاهدها، مئات القنوات الأمريكية. غير أن صدمة أخرى كانت في انتظارها وهي تبحث عن محطة الكارتون. لقد شاهدت ولأول مرة في حياتها قنوات بورنو. لم تصدق عينيها: ستربتيز، جنس، عراة، وأسرعت بالعودة إلى البحث عن قناة الكارتون قبل عودة جاسم وآيرين من العمل.
-------------------------------------------------
"تحت سماء أخرى" فصل من رواية "الحياة كما هي" للشاعرة والكاتبة الإماراتية ظبية خميس الصادرة في 2011 عن دارالآداب/ بيروت
الكاتبة الاماراتية: ظبية خميس
---------------------------------
"حتى دودة طولها بوصة، لديها روح طولها نصف بوصة"/ مقولة بوذية
هذا هو الربيع. بالتأكيد. الهواء الذي يشبه حالة نشوة خفيفة من بداية السكر. درجة الإضاءة الساطعة دون ما ألم للعينين. تنشق روائح مبهمة تخلط ما بين طمي الأرض، زهور الأوركيد، وأريج الماء. البشرة في تفتحها، والذاكرة كذلك.
حملت بين يديها أغصان الخوخ والمشمش الطويلة، ذات الزهيرات الوردية والحبائب الحمراء، بالإضافة إلى بوكيه كبير من الورد الأحمر البلدي، زهور الليلم، عصفور الجنة، عباد الشمس، الزنبق، الجلاديوس، الكارنيشن، وضمة صغيرة من زهور البنفسج. واجتازت الشارع الذي يفصل ما بين محل "أركاديا للزهور"، وسيارتها اليابانية المركونة في ناصية من نواصي شارع 26 يوليو في الزمالك.
وضعت هدايا الربيع تلك على الكرسي الخلفي، برفق واستقلت سيارتها عبر شوارع الزمالك الملتفة حول نفسها متأملة" ذلك المعمار ذو الطراز الخاص، حركة الشارع في أول المساء، واتجهت نحو كوبري الزمالك في اتجاه ميدان سفنكس، شارع جامعة الدول العربية، ثم المهندسين.
في البيت ينفتح الباب على كوريدور صغير، يستقبلها تمثال سخمت، ثياب الشيفون المطرزة الزرقاء والبنفسجية الخليجية، قطع الحرير الهندي المطرزة بالأحجار الذهبية وخيوط الحرير البريسم وهي تهفهف على الحاجز الزجاجي الذي يفصل الكوريدور عن ردهة البيت، وصالوناته.
خلعت الفستان الأسود الشانيل، الإيشارب الصغير ذو الورود الحمراء والبيج الملفوف حول عنقها، وأزالت البروش الذهبي بقطته الحمراء عن الفستان وبقية أكسسوارات ووضعتهم على الكومدينو أمام مرآة الزينة. ثم ارتدت روب الكومينو المشجر والمعرق بألوانه الخضراء والبنفسجية وانتعلت الشبشب الماليزي المصنوع من قماش الباتيك الأخضر، واتجهت نحو المطبخ لترتب أزهارها في الفازات. كانت تحب الفازة الزرقاء الكبيرة بشكل خاص، وكذلك الفازة الشفافة الطولية التي تضعها في غرفة نومها مغيرةً أنواع الزهور فيها كل أسبوع بحسب الفصول وحالة الطقس.
إنسابت الموسيقى الخلفية على وقع سي. دي مشبعاً بصوت بيللي هاليدي ورائحة غناء الجاز القديمة.
ــ ــ ــ ــ
في البار على طاولة صغيرة كان يرج الثلج في كأس الويسكي الساك. أمامه زجاجة صغيرة من نوع تشيفاس ريغال، إناء الثلج، والمقبض المعدني. وفي مواجهته كرسي فارغ. درجة الإضاءة خافتة والديكور يوحي بمرحلة الأربعينات من القرن العشرين. بار واسع، أنيق، يتحرك الزمن فيه بمهل، ولوحات ماتيس، كليمنت، ودييغو ريفيرا تمنح بألوانها، نساءها، زهورها، وأشجارها براحاً رومانتيكيا خاصاً بهذا المكان.
تجرع كأسه ببطء، ثم أشعل سيغار هافانا وأخذ ينفث الهواء أمامه ليتحرك عبق السيغار في المكان صانعاً سحابات صغيرة زرقاء.
لن يمكث في نيويورك طويلاً هذه المرة، لقد فقد الصخب سحره فيها. لولا الطبعة الأمريكية لروايته الأخيرة لما كان هنا اليوم. إن نيويورك التي يحبها تقبع هناك، في البعيد، السبعينات والثمانينات، ربما. برودوي، أوف أوف برودوي، فيليج، البرونكس أتلانتك آفينيو، ليتل إيتالي، ذي فيفث آفينيو الشوارع المرقمة التي كان يجتازها في مانهاتين مقتفياً أثار هيزي ميللر، سوزان سونتاج، ووالت ويتمان.
أما اليوم، فهذه نيويورك أخرى. نيويورك لا يعرفها ولا يود أن يقابلها.
هكذا فكر حسن المأمون، وفكر، أيضاً، فيها. فكر فيها بعمق وشجن. ارتسمت على وجهه ابتسامة شاحبة صغيرة، وشاردة. يتوجب عليه أن يرسل إليها بنسخة من روايته بالطبعة الأمريكية. إنها كانت دائماً تفضل قراءة الرواية بالإنجليزية. سيرسل إليها الرواية بكافة اللغات التي ترجمت إليها. إنها تستحق ذلك. أليست تلك هي روايتها في آخر الأمر. إن ريتا ميسين التي ابتكرها بطلة للرواية.. هي نفسها مهرة بنت عبيد تلك التي تتنفس الآن، تحت سماء أخرى.
ــ ــ ــ ــ
كان شاباً وسيماً، ذو بشرة نحاسية ورشاقة حسية. معتدل الطول، له وجه ذو ملامح تمزج ما بين الهندي الأحمر، والعربي القديم. جبهة عالية، أنف مستقيم وحاجبين محددين تجمع بينهما شعيرات خفيفة. له وجنتين مرتفعتين وشفتين مرسومتين بعناية، دقيقتين بحدة خفيفة ولون عسلي غامق. وله شامة واضحة بنية اللون تحت أذنه اليسرى، وعينين برموش كثيفة سوداء ولون عسلي غامق. خصل شعره الأشهب تصل إلى ما قبل كتفيه بقليل. البنطلون، القميص ، الفيزت، وقبعة البيريه مع الغليون الذي يدخنه تنظر إليه النساء فتلتقي مدارات الجسد، القلب والعقل، معاً.
- " لن يستطيع رجل ما، أي رجل آخر، أن يحبك كما أحبك، أبداً ".
تذكرت كلماته تلك... تذكرتها بعد عشرين عاماً. هل كان محقاً؟
ــ ــ ــ ــ
أوشين بلو، يذكرها به. في لابواتيه تختار عطورها وترى تلك الزجاجة هناك بين العطور الرجالية. تذهب نحوها وترش قليلاً منها على ظاهر كفها .. لتشمه... تشم البحر، المحيط الأطلسي، وترحل إلى هناك، إلى نيويورك... وعبرها إلى إنديانا، إلى أن تصل إلى بلومنجتون المدينة الصغيرة التي أعادت تشكيل مصيرها.. المدينة التي تقبع في الميدويست الأمريكي. تعود بذاكرتها إلى عام 1975.
ــ ــ ــ ــ
تدور الكرة الأرضية تحتها. من مطار أبو ظبي إلى مطار بيروت، ثم لندن، ثم نيويورك.
نيويورك تلك التي استقبلتها ليلاً تلك الفتاة في الخامسة عشر من عمرها. ترتدي أوفيرأوول أزرق من الكتان، تي شيرت أبيض، وحذاء ذو كعب عالي مسطح وقلادة ذهبية تتدلى من عنقها آية الكرسي وخارطة ذهبية لفلسطين. بشعرها الطويل، والكثيف الفاحم وملامح وجهها التي تمازج ما بين الرقة الأنثوية، العنفوان، وبوادر التمرد تحركت تلك الفتاة حاملة حقيبة يدها المصنوعة من الخيش الهندي الملون ذو الطابع الهيبي، وكتاب سميك في يدها الأخرى بعنوان "الأعمال الكاملة لنزار قباني".
سمعت صوتاً يناديها:
- "مهرة، مس مهرة"، وعندما التفتت نحو ذلك النداء، رأت أمامها سيدة أمريكية بيضاء، ذات شعر قصير أشقر، ترتدي نظارة تخفي عينين زرقاواتين وتبتسم ابتسامة مرحبة بها. كانت تلك هي آيرين سميث.
في العمارة الشاهقة في مانهاتن، وفي فيفث آفينيو حيث الشرفة الواسعة التي تطل على غابة كثيفة من العمارات المشابهة وعلى منظر بعيد لحديقة السينترال بارك... كانت الشرفة تمتلئ بجرار الفخار ذات النباتات الصبارية، الزهور، والسرخس.
مكتب السيكيورتي في مدخل العمارة، ومحرقة الزبالة ذات الظرفة المعدنية في كل دور من الأدوار والسجاد الأحمر الذي يكسي أرضية كل ممرات تلك الأدوار والصالونات المتعجرفة في ركن الاستقبال أمام الأسانسيرات.. كل تلك كانت جديدة عليها. غير أنها ها هي هنا بكامل ثقتها وارتياحها لاستكشاف العالم الجديد وخوض حياة عصرية والدخول في صلب العقلية الغربية حيث لم تسبقها أي فتاة من عائلتها إلى ذلك. كل شيء كان مرحباً به، وكأنما هنالك موعد حتمي أدركته وضربته مع القدر.. قدرها ذلك والخطوات الأولى التي لم تعرف بعد أنها خطوات لن يكتب لها العودة إلى موطئ قدمها القديم أبداً من جديد.
كانت آيرين سميث أستاذة علم الأنثروبولوجيا في جامعة نيو يونفيرسيتي، هي صديقة قريبها الذي يعيش في نيويورك، ويعمل سفيراً في الأمم المتحدة ذي غيرل فيريند، والتي ستكون زوجته خلال عام من الآن. آيرين وجاسم أعدا لها وجبة سباغيتي بولونيز تلك الليلة، وضحكت مهرة كثيراً، وهي تتلقى تعليماتها الأمنية. باب الشقة المتوسطة الحجم كان يحمل عشرة أقفال مثبتة عليه: سلاسل، وزلاجات أقفال يتم استخدامها كلها قبل الذهاب إلى النوم. أما المجوهرات، والنقود فيتم حشوها داخل بطن سمك بلاستيكي يودع في فريزر الثلاجة.
سوف تنام في الصالون على الكرسي الذي يتحول إلى سرير في الليل، وفيما يذهب جاسم إلى الأمم المتحدة وتذهب آيرين إلى الجامعة خلال النهار فإنها سوف تقضي هذه الفترة في مدرسة لتحسين مستوى اللغة الإنجليزية إلى حين التحاقها بالجامعة في أواخر هذا الشهر حيث اختارت أن تدرس في جامعة ولاية إنديانا فرع مدينة بلومنجتون.
ــ ــ ــ ــ
أول انطباع راودها وهي تتجول في مدينة نيويورك، إنها مدينة أليفة وكأنها تعرفها من قبل. بعد أن ينهي الأستاذ العجوز السمين، ثقيل الظل، مستر غريغوري دروسه اليومية لها، ويحرك يده مداعباً شعرها الأسود الكثيف وهو يودعها بكلمة "باي بيبي، سي يو تومورو"، كانت تتجول على هواها في شوارع مانهاتن. الشوارع المرقمة تقودها بيسر في المدينة إلى العمارة التي تستضيفها في مانهاتن.
مطاعم فاخرة ومتنوعة إيطالية، صينية، يابانية، فرنسية، وميدل إيستيرن. محلات الأكل السريع بيتزا، مكدونالز، آربيز، ويندي، كنتاكي. وعربات الهوت دوغ، الكستناء المشوية، الدونتتز، وباسكين روبينز.
المقاهي، المكتبات والديبارتمينت ستورز ومحلات الأزياء الراقية. غير أن أكثر ما لفت انتباتها فنانين الشوارع والشحاذين. موسيقى واسكتشات رسم وأولاد يرقصون على إيقاعات شبه إفريقية متفننين في تحريك أجسادهم.
- "هالو ... ها أوريو دوينغ؟"
تتكرر هذه التحية حيث ما ذهبت مهرة. كان مكانها المفضل ساحة تتحول إلى مربع للتزحلق – سكيتينغ في الصيف، ثم إلى آيسكيتينغ في الشتاء.
ارتاحت للزنوج من الأولاد والبنات. يذكرونها بأصدقاء الطفولة الذي كانت تلعب معهم. علموها السكيتينغ، ومضت معهم إلى هارليم التي لم تسمع من قبل. لم تشاهد الكثير من الأشخاص البيض هناك ، معظمهم من السود غير أنهم كانوا مألوفين جداً بالنسبة لها. كان بعضهم يسألها:
- "هل أنت تشيكانو؟"
لم تعرف معنى الكلمة، وأدركت فيما بعد أن تشيكانو تعني الأسبان الأمريكيين أو ذوي الأصول الأمريكية اللاتينية.
حيثما ذهبت مهرة لا أحد يسألها إن كانت عربية. يفترضون إنها من أمريكا اللاتينية، أسبانية، يونانية، هندية وحينما تجيبهم بأنها عربية لا يعرفون معنى ذلك ثم يختصرون المسألة بأنها من "الميدل إيست". أما حين تقول بأنها من الخليج العربي فإنهما يجهلون ذلك، ثم يتذكرون خليجاً آخر، الخليج الفارسي. وحين تقول مهرة إنها من الإمارات فهذه بالنسبة إليهم كلمة تشير إلى كوكب جديد تم اكتشافه وليس إلى بلد آخر.
يسألونها أسئلة غريبة.
- "هل أتيت إلى أمريكا على جمل؟"
- "هل تعرفون البيض والدجاج؟"
- "هل ترتدون ثياباً هناك أم أنكم عراة مثل أفريقيا؟
- "هل شاهدت تليفزيون من قبل، ألديكم ماء مثلج ودايت بيبسي هناك؟!"
بعد زياراتها المتكررة لهارليم، وتحرك استكشافها المطمئن لنيويورك قرر جاسم وآيرين أن يجلسا معها ويناقشا قلقهما عليها. جلسا يكررا أن هذه مدينة خطيرة، وأن الشوارع تعج بالمجرمين واللصوص، وأن عليها أن تتجنب الحديث مع الغرباء وأن لا تذهب إلى تلك الأحياء المخيفة مثل هارليم والبرونكس لأنها قد تتعرض لما لا تحمد عقباه. غير أن مهرة التي لم يسبق لها مقابلة "الخوف"، لم تبذل جهداً للإصغاء إليهما، وسخرت في داخلها من مخاوفهما المبالغ فيها. قرر جاسم وآيرين التعامل معها بطريقة أخرى سوف يذهبون معها إلى السينما. فرحت بالفكرة. في المرتين المتتاليتين أحضرا لها البوب كورن والشوكولاته والبيبسي كولا وجلست مهرة مستعدة للفيلم. في المرة الأولى كان فيلم "جوز: الفك المفترس"، وفي المرة الثانية كان "ديث ويش: أمنية الموت". انتابها الرعب من الفيلمين ولم تعد تجرؤ على الاقتراب من بحر نيويورك، ولا حديقة السينترال بارك. صارت ترمق الآخرين بحذر، ذلك أن هذين الفيلمين كانا أعنف ما قد رأته في حياتها حتى ذلك الوقت. أسماك متوحشة، عصابات، مسدسات، قتل.. يا إلهي المدرسة والبيت أكثر رحمة من ذلك.
في البيت محطات تليفزيونية كثيرة يمكن أن تشاهدها، مئات القنوات الأمريكية. غير أن صدمة أخرى كانت في انتظارها وهي تبحث عن محطة الكارتون. لقد شاهدت ولأول مرة في حياتها قنوات بورنو. لم تصدق عينيها: ستربتيز، جنس، عراة، وأسرعت بالعودة إلى البحث عن قناة الكارتون قبل عودة جاسم وآيرين من العمل.
-------------------------------------------------
"تحت سماء أخرى" فصل من رواية "الحياة كما هي" للشاعرة والكاتبة الإماراتية ظبية خميس الصادرة في 2011 عن دارالآداب/ بيروت