سرديات عودة
ص (الخميس 1 آذار 2012)
* "ص"
* زرياب بوكفة
-----------------
* فصل من رواية جديدة لم تنشر بعد، بعنوان "ص" للكاتب الجزائري زرياب بوكفة
* "ص"
* زرياب بوكفة
-----------------
أعلم وأنا ألامس وجهي بكف عجوز، أن لوني فقد غبطة الفجيعة حين تُرسم تجاعيد مبتسمة حول العيون، وأن الشفاه لم تعد صالحة للابتسام، جافة هي كل الوقت، منكمشة خجولة كضباب البحر.
وبحر عات ظل جبيني يساقط بياضا وكبرياء كاذبة على أنف إغريقي طويل ومستقيم لم يحمل يوما نظرات كان بإمكانها أن تجعله أقل استقامة، وأنف يستقبل الزكام في ليلة باردة حزينة كهذه الليلة من شهر سبتمبر في سنة كهذه، سنة المكاشفة والفجيعة، سنة أجبرتنا رغم موتنا القديم على أن نبعث للحظات لنتأمل قبورنا وأسوار مقابرنا وغبارًا مشت عليه أقدام لحظاتنا المجنونة.
ألف عام من الموت، طريق طويل سرت فيه أوجاعنا التي كنا نتصور كأطفال البلاهة أنها مهما ولدت أوجاعًا فستموت ابتساما، غير أننا في هذه السنة، في كل لحظة من هذه السنة يهزمنا الإدراك بأننا جئنا من أرحام هذه الأرض أوجاعا وسنرحل عنها أوجاعا.
» فنحن الوجع نفسه «، قال إسياخم ذات باريس محمومة وهو يتأبط وطنه رصيفًا داميا يعلو به إلى السماء.
والسماء الآن وراءَ نافذتي وقد حنطها الخريف ذات غفوة ودفنها في قلبي زرقاء ندية تدفئ خوفي من برد ألوانه المقرفة، مجبرا إياي أن أنتظر عبور سبعين ألف قطار من الحزن من على جسر يأسي لأنشر سمائي الزرقاء من جديد محنطا بألوان الليلك والياسمين خريفا قد مضى.
الخريف، هذا الذي ينظر إلي يريد كسر قلبي وأخذ زرقة السماء من قبرها، ينظر بعيون إله يسأل الثأر، عيون لم يمر يوم في حياتي إلا ولعنتها فيه.
وأنا طفل أمضي إلى مدرستي حبوا والنعاس والبرد وظلام تلك الأصابيح المرعب، غيوم في كل مكان وأرصفة مبتلة وقد سهرت كالبغايا يعبث بهن الليل، ثم مطر يطارد رؤوسنا الصغيرة وأنوف خجولة لا تتوقف عن السيلان وأجساد تحت أكمام الصوف تتذكر في خيبة لحسات شمس صيف كنا نعتقد عند بدايته أنه لن ينتهي.
كل صباح من أصابيح الخريف كان علينا أن ننسلخ من أفرشتنا وأن نتحايل على النعاس بترك الجفون نصف مغلقة مخزنة وراءها ما بقي من أطياف حلم لم يكتمل.
كنّا نملئ الشوارع للحظات عابرين صحراء من ألوان الرماد، قوافل من أقدام صغيرة وأصوات حادّة وجيوش من ابتسامات ظلت تضيق شيئا فشيئا وهي تسير في جنازة غدٍ آخر قد مضى.
ملايير الثواني ضاعت بين خريف وآخر. شاخت وجوه الذين نحبهم ولم تعد أياديهم توقظنا، فقط الخريف ظل كما هو عجوزًا بليدًا، أحمقاً لا يعرف الابتسام، تيتم من أصوات الذين نحبهم، افتقر بالأرصفة التي شاخت وتهلهلت ألوانها وما عاد الليل يشتهيها. ضاعت ملامحنا، كبرت أقدامنا وخفتت أصواتنا وانكسرت أحلام كنا نكسر بها جوع غدٍ آخر قد مضى.
اغتصب الخريف قلوبنا وسكن حدائقنا، افترش صوت أمي وعيون أبي وصار في لون القهوة ورائحة السيجارة وعفن الليل.
جبار هو الخريف حين يأتي وحين يرحل، جبار كشوقي لأن توقظني أمي بصوتها المستيقظ أبدًا وعجلتها العطرة ربيعا:
- قد تتأخر.
عمّ أتأخر يا أمي ولم تفدني أسفار ملايير الثواني في شيء!
عمّ أتأخر، وأنا في استعجالي تركتكم جميعًا ورائي لأعود بعد ملايير ثواني الخيبة والمرارة متأخرا فأجدكم جميعًا في السماء، كان قدري يا أمي أن أحمل كل الذين أحبهم وأجمعهم في قلبي، فلا أقسى من أن يصبح كل الذين نحبهم مجرد ذكرى..
يا خريف الخيبة والنهايات البليدة، يا دين....يا دين....يا دين....
خذوا كل الذكريات وأعيدوا لي رائحة أمي، صوت خطوات أمي، ماءً قد استحمت به أمي أو حناء قد خضبت كف أمي، خذوا كل الذكريات وكل الآت وأعيدوا لي ابتسامة من بين دموع أمي.... خذوا وطني... خذوا ما خبأت من ألوان وردوا لي حفنة من صوت أمي... قاسٍ أن يصبح الذين نحبهم مجرد ذكرى.. ذكرى تقفز عنيفة بلا رحمة تمزق ابتسامة لتغدو كزغاريد النساء وهن يشيعن الشهداء: صراخًا متبلا بألوان الفجيعة.
الشهداء!
كلهم ماتوا في الخريف، تمزقت أغاديهم فجأة في لحظة خريف، حتى الذين ماتوا في فصل آخر مصيرهم أن ينتظروا الخريف لنتذكرهم، شهداء نوفمبر وأكتوبر ونوفمبر آخر وأكتوبر آخر، وسماء كان لابد أن تركع لموت بوضياف خريفا في عز جوان ما.
أخي روى لي أنهم أمروا بالقتل في الخريف:
- الجندية علمتها كالخيانة والخيانة إما أن تولد وإما أن تموت في الخريف.
كان يقول لي عبر ليالي الثمالة التي كانت تجمعنا في عطله القليلة الذليلة.
- إنها الحرب.
يؤكد دائما،
- حرب يقودها أمثال الذين يموتون كل يوم، فقراء يأوون من هم أشد فقرًا، وأمثال هؤلاء لا أعلم من كتب عليهم قتالنا، حرب جبانة كل أحيائها وشهدائها جبناء، تلحظ في أعينهم وهم يموتون التسول، يصرخون كالبهائم كأنما يشجعونك على قتلهم بسرعة.. مقرف لون دمهم وهو يغرق الأرض.. ثم مقرف ذلك الصمت الذي يقضي على كل شيء. لحظة صمت تهديك إياها المهزلة لتتأمل صنيع يديك، لحظة جلست في عقرها أحاول البكاء، أحاول كالمجنون أن أبكي، اخترقتني عيون المكاشفة وأنا أدرك قلبي لا يملك بذرة ندم.. الموت يا أخي تحسها ثقيلة كالحب، كالكراهية، كالشوق، كاليأس، غير أني لم أشعر بثقل الموت وكأن ما أصنع بيدي أمر عادي، انبهرت، ابتسمت ثم انفجرت مقهقها أضرب بقدمي الرؤوس التي قطعت رافسا جنينا أو يد امرأة قابضة على حسرة.. حمت كالعقاب على كل صنيعي أتعثر، أسقط ليلوثني الدم الذي اختلط برائحة نتنة.
أصمت كما العادة، أرتشف دهشتي مع ما يبقى من صحوة سكري وأتغابى متسائلا:
- من تقتلون ؟
- لا أعلم، أناس أُمرنا بقتلهم وكفى.
- هكذا ؟
- أجل، هكذا
- حتى الأطفال ؟
- أجل حتى الأطفال،
- حتى الأطفال !
- مرةً لحقت بأحدهم وهو يحضن رضيعا ويصرخ "لم أفعل شيئا، لم أفعل شيئا" مسكت به وهممت بذبحه، قال لي أقتل الطفل ودعني.. ماذا كنت ستفعل مكاني وهو يفضل موت ابنه عن موته ؟ كيف يمكنك أن تكون طيبا؟
أحتار في الإجابة طبعا، فأصمت فيجيب نفسه:
- الطيبة شجاعة يا أخي، شجاعة لهذا فحربنا حرب جبانة، جبناء أولئك الذين يموتون أملا في الحياة، وجبناء القتلة وهم يغرقون الأرض دما هكذا مجانا.. نقتل الأطفال مجانا.. نمزق الأرحام مجانا ونمضي ما تبقى من أيامنا فارين من مسافات الأسئلة العقيمة، لماذا وكيف وإلى أين، ونذهل مثل الجميع ونحن نتفرج على صنيعنا في التلفزيون متسائلين فيما بيننا بجزع:
- هل فعلنا ذلك حقا؟
ولا تمهلنا الأوامر إلا طول المسافة لوجهة حرب أخرى لنرسم وجه الأحداث للأعين البليدة ونظل طيلة طريق العودة نأمل في متسع من الوجع لنسأل أيادينا: هل فعلنا ذلك حقا؟
- أجازوا لنا الإجابات وتركوا الأسئلة بريقًا في الأعين التي نغتال.
هكذا ينهي أخي أحاديثه دائما، وهكذا انتهت حياته، قُتل أخي برصاصة بين عينيه، وفي عينيه وجدت ذلك البريق.. بريق الأسئلة التي تحولت ببساطة دامية إلى إجابات.
مات أخي وتحول بسرعة حزينة إلى لوحة معلقة على جدارٍ مقابل لنافذتي، ونافذتي قبالتي وخلفها عيون الخريف التي لا تحمل سؤالا ولا جوابًا.. تحمل فقط نقطة نهاية.
هو يتحداني بأن أصرف له حلمًا أو أمنيـة في المضارع، أنه سوف ألتقي حبيبتي بعد هذا الخريف، سوف أجد أخي بعد هذا الخريف، سوف أقبل رأس أمي بعد هذا الخريف، سوف ألتقي بوجهي بمرآة ما بشارع ما، بعيون ما بعد هذا الخريف.
- حاول..
أنا فصل الذي انتهى وسوف ينتهي. أنا فصلك، مطر، ريح، ظلام، وتيه..
- حاول..
تجنب النظر إلي فسوف تراني
- حاول..
أليس السؤال احتمال... احتمل أن ما بعدي غيري، هل ما بعدي غيري؟ أنا كنت معك مذ كنت أنت.. فأنا لست مظلما بقدر ما أنت أعمى.. لست باردًا بقدر ما أنت عارٍ.. لست خريفا بقدر ما أنت أنت..
- حاول..
أليس السؤال احتمال... احتمل أن يدك ترسم الزهور وأنك تذر النور في ضبابي.. احتمل أنك ترسم الربيع.. أفلأنك لا تعرف رسم الزهور ولا ذر النور ولا احتمال الربيع، أم لأنني أنا الخريف وأن الربيع لا يُرسم..
- حاول..
فإن السؤال احتمال..
وأحاول مرة تلو الأخرى، ثم أيأس مثل كل مرة.. فأغض البصر عن نافذتي، أغلق عيني، أتمدد، أتسلق عيون أخي، أرسم ظلا لشرخ جبينه، أرسم لكفيه القاتلتين ابتسامة وأتحايل الكذب على نفسي:
أخي لم يكن جبانًا أتذكره فقط طفلا يكره الخريف مثلي.. أتذكر أماسينا وأصابيحنا، يده وهي ترقص مع الريح وعيونه المخبئة خلف دموع أمي..
هل أحب أحد أمي مثلما أحبها هو؟
يدخل البيت مناديا بأعلى صوته
- يمَّـا .. يمَّـا،
يتعثر صوته وينزوي عند رؤيتها منكمشة في إحدى زوايا خيبتها العتيقة خائفة، رائعة وهي تسند رأسها للذهول. يركض إليها بصوت ملّ صراخا بلا صدى:
- يمَّـا .. يمَّـا ..
يجلس مكاتفًا حزن أمي مطفأ العينين، منكمشًا وقد خنقه – مثلما يخنقني – صقيع الخوف.
أبي كان يضرب أمي كثيرًا، لسبب أو لآخر، يضربها بعنف، يهينها، يمزق ثوب ضعفها ويخيط لها ثوبا آخر أشد ضعفا، ثم يكسر كل ما وجد أمامـه ويخرج ليعود ليلاً سائلا إياها أن تحضر العشاء. وكان أخي يلعن أبي ويلعن ضعف أمي، أما أنا فكنت ألعن نفسي كلما التقيتها..
وكبر حقدي على نفسي يوم أن مرضت أمي بالقلب، ويوم قرر أخي أن يبدل المنزل بالثكنة ويوم جبنت أنا على اتخاذ أي قرار تاركا الخوف يفعل ما يشاء بأمي وأن يفعل الله بنا ما يشاء، والله أراد أن تموت أمي أيامًا بعد مقتل أخي وأن يلحق بهما أبي دون سبب يذكر.
ماتت أمي كما أراد لها الله أن تموت مريضة، معذبة، ماتت في فستان أهداه لها أخي وكفن في فجيعة خبر موته..
- إنه يزورني كل ليلة
كانت تروي لي قبل موته بأيام،
- يأتني متعبًا بلباس أخضر ووجه أسود، أحضنه يا ولدي كما كنت أحضنكما وأنتما صغيرين، أقبله على جبينه وأبكي. يسألني عن ما يبكيني فأجيبه بأنني اشتقت إليه كثيرا فيجيبني مبتسمًا أننا سنلتقي قريبا ولن نفترق أبدًا، ثم يسألني عنك فأجيبه بأنك بخير وأنك اشتقت إليه كذلك فينتفض ويجيبني أن لا، أنك كاذب، لأنك لم تتصل به يومًا ولم تسأل عن أخباره، فأجيبه أنه يكتب لك كل يوم رسالة فيصمت ثم ينكمش كما كان يفعل كلما أراد النوم، يمسك يدي يقبلها ينظر إلي بعيون دامعة، يبتسم ثم ينام.
- لماذا لا تتصل به يا ولدي؟
أنا نفسي لا أعلم لم لا أتصل به، أكتفي بأن لا أسمع عنه أي خبر لأعرف أنه بخير، هناك في بعده المنسي، هو أيضا لا يتصل بنا إلا عن طريق حوالات يرسلها لأمي وأحيانا أخرى لي، يزورنا نادرًا لأيام يغرق فيها أمي بالهدايا وبالدموع، ويغرق ليالي أنا بالخمر وحكايا الموت.
في أيام زياراته كنا ننام معًا، هو المخمور أبدًا وأنا المتعب ثملا بحكاياه.
- هل سمعت شيئا عن مجزرة الـ...
- لا
يضحك
- لم تضحك ؟
يتردد ثم يجيب،
- لا شيء
- كم مات في الـ...؟
أسأله
- لا أعلم..
ثم يضحك مرة أخرى، يستكين لسيجارة يشعلها ويحرق معها ما بقي من كلام.
- تصبح على خير
وأصبح على سفر عودته باكرًا مثل كل مرة، مصطبحا على آخر حقيقة يتقيؤها في جوف ذهولي: "لا إرهاب إلا إرهاب السلطة".
أتذكر صمته وهو يحتسي ذكرياته منتبذا ركن وحدته إقامة جبرية بين جدران الماضي.
- هنالك أشياء لا يمكن أن يشاركك فيها أحد،
أتذكر يد أخي وقد احترفت الصمت هي أيضا.. أتذكر أولئك الذين يلثم الليل بهم عيونه وصمته، وهم يسرون سكارى خلف أقدارهم، يقتلون بصمت وحزم وثقة، ثم يعودون إلى ثكنة تهديهم ألف طريق للنسيان.
- هنالك أشياء لا يمكن أن يشاركك فيها أحد..
ينظر أخي في وجه أمي، تدمع عيناه، ترتجف كلماته، يحضنها وقد أغلق عينيه بعنف.
- يمَّـا..
ويصمت.. كان قد قال كل شيء، أفرغ كل ما لديه من صمت.
- أمثالنا ليسوا بحاجة لمن يسمعهم.
يقول لي،
- نحن بحاجة إلى أن نحضن ذكرى دافئة، أن نحضن أشياء أضعناها ونحن نحضن الخوف والبرد، بحاجة إلى أن نحضن أشياء فرت منا إلى داخلنا هناك في الأغوار أين استكانت أرشيفا في انتظار أن نتقاعد وأن نشيخ،.. هذه يدي، لم تعد تذكر أنها كانت تمسك يد أمي في الشوارع الكبيرة المكتضة.
ثم يمسك يدي ويسألني في بله:
- لماذا ننسى أننا كنا أطفالا ذات يوم؟
مات أخي وأنا أحلم بمسك يده وانتهاج طريق المدرسة من جديد، مات دون أن يدرك أننا لم ننس أبدًا أننا كنا أطفالاً ذات يوم، خطأنا أنا وأنت أننا لم نكبر يومًا يا أخي لم نكبر.
---------------------------------------------------------------------------------------------وبحر عات ظل جبيني يساقط بياضا وكبرياء كاذبة على أنف إغريقي طويل ومستقيم لم يحمل يوما نظرات كان بإمكانها أن تجعله أقل استقامة، وأنف يستقبل الزكام في ليلة باردة حزينة كهذه الليلة من شهر سبتمبر في سنة كهذه، سنة المكاشفة والفجيعة، سنة أجبرتنا رغم موتنا القديم على أن نبعث للحظات لنتأمل قبورنا وأسوار مقابرنا وغبارًا مشت عليه أقدام لحظاتنا المجنونة.
ألف عام من الموت، طريق طويل سرت فيه أوجاعنا التي كنا نتصور كأطفال البلاهة أنها مهما ولدت أوجاعًا فستموت ابتساما، غير أننا في هذه السنة، في كل لحظة من هذه السنة يهزمنا الإدراك بأننا جئنا من أرحام هذه الأرض أوجاعا وسنرحل عنها أوجاعا.
» فنحن الوجع نفسه «، قال إسياخم ذات باريس محمومة وهو يتأبط وطنه رصيفًا داميا يعلو به إلى السماء.
والسماء الآن وراءَ نافذتي وقد حنطها الخريف ذات غفوة ودفنها في قلبي زرقاء ندية تدفئ خوفي من برد ألوانه المقرفة، مجبرا إياي أن أنتظر عبور سبعين ألف قطار من الحزن من على جسر يأسي لأنشر سمائي الزرقاء من جديد محنطا بألوان الليلك والياسمين خريفا قد مضى.
الخريف، هذا الذي ينظر إلي يريد كسر قلبي وأخذ زرقة السماء من قبرها، ينظر بعيون إله يسأل الثأر، عيون لم يمر يوم في حياتي إلا ولعنتها فيه.
وأنا طفل أمضي إلى مدرستي حبوا والنعاس والبرد وظلام تلك الأصابيح المرعب، غيوم في كل مكان وأرصفة مبتلة وقد سهرت كالبغايا يعبث بهن الليل، ثم مطر يطارد رؤوسنا الصغيرة وأنوف خجولة لا تتوقف عن السيلان وأجساد تحت أكمام الصوف تتذكر في خيبة لحسات شمس صيف كنا نعتقد عند بدايته أنه لن ينتهي.
كل صباح من أصابيح الخريف كان علينا أن ننسلخ من أفرشتنا وأن نتحايل على النعاس بترك الجفون نصف مغلقة مخزنة وراءها ما بقي من أطياف حلم لم يكتمل.
كنّا نملئ الشوارع للحظات عابرين صحراء من ألوان الرماد، قوافل من أقدام صغيرة وأصوات حادّة وجيوش من ابتسامات ظلت تضيق شيئا فشيئا وهي تسير في جنازة غدٍ آخر قد مضى.
ملايير الثواني ضاعت بين خريف وآخر. شاخت وجوه الذين نحبهم ولم تعد أياديهم توقظنا، فقط الخريف ظل كما هو عجوزًا بليدًا، أحمقاً لا يعرف الابتسام، تيتم من أصوات الذين نحبهم، افتقر بالأرصفة التي شاخت وتهلهلت ألوانها وما عاد الليل يشتهيها. ضاعت ملامحنا، كبرت أقدامنا وخفتت أصواتنا وانكسرت أحلام كنا نكسر بها جوع غدٍ آخر قد مضى.
اغتصب الخريف قلوبنا وسكن حدائقنا، افترش صوت أمي وعيون أبي وصار في لون القهوة ورائحة السيجارة وعفن الليل.
جبار هو الخريف حين يأتي وحين يرحل، جبار كشوقي لأن توقظني أمي بصوتها المستيقظ أبدًا وعجلتها العطرة ربيعا:
- قد تتأخر.
عمّ أتأخر يا أمي ولم تفدني أسفار ملايير الثواني في شيء!
عمّ أتأخر، وأنا في استعجالي تركتكم جميعًا ورائي لأعود بعد ملايير ثواني الخيبة والمرارة متأخرا فأجدكم جميعًا في السماء، كان قدري يا أمي أن أحمل كل الذين أحبهم وأجمعهم في قلبي، فلا أقسى من أن يصبح كل الذين نحبهم مجرد ذكرى..
يا خريف الخيبة والنهايات البليدة، يا دين....يا دين....يا دين....
خذوا كل الذكريات وأعيدوا لي رائحة أمي، صوت خطوات أمي، ماءً قد استحمت به أمي أو حناء قد خضبت كف أمي، خذوا كل الذكريات وكل الآت وأعيدوا لي ابتسامة من بين دموع أمي.... خذوا وطني... خذوا ما خبأت من ألوان وردوا لي حفنة من صوت أمي... قاسٍ أن يصبح الذين نحبهم مجرد ذكرى.. ذكرى تقفز عنيفة بلا رحمة تمزق ابتسامة لتغدو كزغاريد النساء وهن يشيعن الشهداء: صراخًا متبلا بألوان الفجيعة.
الشهداء!
كلهم ماتوا في الخريف، تمزقت أغاديهم فجأة في لحظة خريف، حتى الذين ماتوا في فصل آخر مصيرهم أن ينتظروا الخريف لنتذكرهم، شهداء نوفمبر وأكتوبر ونوفمبر آخر وأكتوبر آخر، وسماء كان لابد أن تركع لموت بوضياف خريفا في عز جوان ما.
أخي روى لي أنهم أمروا بالقتل في الخريف:
- الجندية علمتها كالخيانة والخيانة إما أن تولد وإما أن تموت في الخريف.
كان يقول لي عبر ليالي الثمالة التي كانت تجمعنا في عطله القليلة الذليلة.
- إنها الحرب.
يؤكد دائما،
- حرب يقودها أمثال الذين يموتون كل يوم، فقراء يأوون من هم أشد فقرًا، وأمثال هؤلاء لا أعلم من كتب عليهم قتالنا، حرب جبانة كل أحيائها وشهدائها جبناء، تلحظ في أعينهم وهم يموتون التسول، يصرخون كالبهائم كأنما يشجعونك على قتلهم بسرعة.. مقرف لون دمهم وهو يغرق الأرض.. ثم مقرف ذلك الصمت الذي يقضي على كل شيء. لحظة صمت تهديك إياها المهزلة لتتأمل صنيع يديك، لحظة جلست في عقرها أحاول البكاء، أحاول كالمجنون أن أبكي، اخترقتني عيون المكاشفة وأنا أدرك قلبي لا يملك بذرة ندم.. الموت يا أخي تحسها ثقيلة كالحب، كالكراهية، كالشوق، كاليأس، غير أني لم أشعر بثقل الموت وكأن ما أصنع بيدي أمر عادي، انبهرت، ابتسمت ثم انفجرت مقهقها أضرب بقدمي الرؤوس التي قطعت رافسا جنينا أو يد امرأة قابضة على حسرة.. حمت كالعقاب على كل صنيعي أتعثر، أسقط ليلوثني الدم الذي اختلط برائحة نتنة.
أصمت كما العادة، أرتشف دهشتي مع ما يبقى من صحوة سكري وأتغابى متسائلا:
- من تقتلون ؟
- لا أعلم، أناس أُمرنا بقتلهم وكفى.
- هكذا ؟
- أجل، هكذا
- حتى الأطفال ؟
- أجل حتى الأطفال،
- حتى الأطفال !
- مرةً لحقت بأحدهم وهو يحضن رضيعا ويصرخ "لم أفعل شيئا، لم أفعل شيئا" مسكت به وهممت بذبحه، قال لي أقتل الطفل ودعني.. ماذا كنت ستفعل مكاني وهو يفضل موت ابنه عن موته ؟ كيف يمكنك أن تكون طيبا؟
أحتار في الإجابة طبعا، فأصمت فيجيب نفسه:
- الطيبة شجاعة يا أخي، شجاعة لهذا فحربنا حرب جبانة، جبناء أولئك الذين يموتون أملا في الحياة، وجبناء القتلة وهم يغرقون الأرض دما هكذا مجانا.. نقتل الأطفال مجانا.. نمزق الأرحام مجانا ونمضي ما تبقى من أيامنا فارين من مسافات الأسئلة العقيمة، لماذا وكيف وإلى أين، ونذهل مثل الجميع ونحن نتفرج على صنيعنا في التلفزيون متسائلين فيما بيننا بجزع:
- هل فعلنا ذلك حقا؟
ولا تمهلنا الأوامر إلا طول المسافة لوجهة حرب أخرى لنرسم وجه الأحداث للأعين البليدة ونظل طيلة طريق العودة نأمل في متسع من الوجع لنسأل أيادينا: هل فعلنا ذلك حقا؟
- أجازوا لنا الإجابات وتركوا الأسئلة بريقًا في الأعين التي نغتال.
هكذا ينهي أخي أحاديثه دائما، وهكذا انتهت حياته، قُتل أخي برصاصة بين عينيه، وفي عينيه وجدت ذلك البريق.. بريق الأسئلة التي تحولت ببساطة دامية إلى إجابات.
مات أخي وتحول بسرعة حزينة إلى لوحة معلقة على جدارٍ مقابل لنافذتي، ونافذتي قبالتي وخلفها عيون الخريف التي لا تحمل سؤالا ولا جوابًا.. تحمل فقط نقطة نهاية.
هو يتحداني بأن أصرف له حلمًا أو أمنيـة في المضارع، أنه سوف ألتقي حبيبتي بعد هذا الخريف، سوف أجد أخي بعد هذا الخريف، سوف أقبل رأس أمي بعد هذا الخريف، سوف ألتقي بوجهي بمرآة ما بشارع ما، بعيون ما بعد هذا الخريف.
- حاول..
أنا فصل الذي انتهى وسوف ينتهي. أنا فصلك، مطر، ريح، ظلام، وتيه..
- حاول..
تجنب النظر إلي فسوف تراني
- حاول..
أليس السؤال احتمال... احتمل أن ما بعدي غيري، هل ما بعدي غيري؟ أنا كنت معك مذ كنت أنت.. فأنا لست مظلما بقدر ما أنت أعمى.. لست باردًا بقدر ما أنت عارٍ.. لست خريفا بقدر ما أنت أنت..
- حاول..
أليس السؤال احتمال... احتمل أن يدك ترسم الزهور وأنك تذر النور في ضبابي.. احتمل أنك ترسم الربيع.. أفلأنك لا تعرف رسم الزهور ولا ذر النور ولا احتمال الربيع، أم لأنني أنا الخريف وأن الربيع لا يُرسم..
- حاول..
فإن السؤال احتمال..
وأحاول مرة تلو الأخرى، ثم أيأس مثل كل مرة.. فأغض البصر عن نافذتي، أغلق عيني، أتمدد، أتسلق عيون أخي، أرسم ظلا لشرخ جبينه، أرسم لكفيه القاتلتين ابتسامة وأتحايل الكذب على نفسي:
أخي لم يكن جبانًا أتذكره فقط طفلا يكره الخريف مثلي.. أتذكر أماسينا وأصابيحنا، يده وهي ترقص مع الريح وعيونه المخبئة خلف دموع أمي..
هل أحب أحد أمي مثلما أحبها هو؟
يدخل البيت مناديا بأعلى صوته
- يمَّـا .. يمَّـا،
يتعثر صوته وينزوي عند رؤيتها منكمشة في إحدى زوايا خيبتها العتيقة خائفة، رائعة وهي تسند رأسها للذهول. يركض إليها بصوت ملّ صراخا بلا صدى:
- يمَّـا .. يمَّـا ..
يجلس مكاتفًا حزن أمي مطفأ العينين، منكمشًا وقد خنقه – مثلما يخنقني – صقيع الخوف.
أبي كان يضرب أمي كثيرًا، لسبب أو لآخر، يضربها بعنف، يهينها، يمزق ثوب ضعفها ويخيط لها ثوبا آخر أشد ضعفا، ثم يكسر كل ما وجد أمامـه ويخرج ليعود ليلاً سائلا إياها أن تحضر العشاء. وكان أخي يلعن أبي ويلعن ضعف أمي، أما أنا فكنت ألعن نفسي كلما التقيتها..
وكبر حقدي على نفسي يوم أن مرضت أمي بالقلب، ويوم قرر أخي أن يبدل المنزل بالثكنة ويوم جبنت أنا على اتخاذ أي قرار تاركا الخوف يفعل ما يشاء بأمي وأن يفعل الله بنا ما يشاء، والله أراد أن تموت أمي أيامًا بعد مقتل أخي وأن يلحق بهما أبي دون سبب يذكر.
ماتت أمي كما أراد لها الله أن تموت مريضة، معذبة، ماتت في فستان أهداه لها أخي وكفن في فجيعة خبر موته..
- إنه يزورني كل ليلة
كانت تروي لي قبل موته بأيام،
- يأتني متعبًا بلباس أخضر ووجه أسود، أحضنه يا ولدي كما كنت أحضنكما وأنتما صغيرين، أقبله على جبينه وأبكي. يسألني عن ما يبكيني فأجيبه بأنني اشتقت إليه كثيرا فيجيبني مبتسمًا أننا سنلتقي قريبا ولن نفترق أبدًا، ثم يسألني عنك فأجيبه بأنك بخير وأنك اشتقت إليه كذلك فينتفض ويجيبني أن لا، أنك كاذب، لأنك لم تتصل به يومًا ولم تسأل عن أخباره، فأجيبه أنه يكتب لك كل يوم رسالة فيصمت ثم ينكمش كما كان يفعل كلما أراد النوم، يمسك يدي يقبلها ينظر إلي بعيون دامعة، يبتسم ثم ينام.
- لماذا لا تتصل به يا ولدي؟
أنا نفسي لا أعلم لم لا أتصل به، أكتفي بأن لا أسمع عنه أي خبر لأعرف أنه بخير، هناك في بعده المنسي، هو أيضا لا يتصل بنا إلا عن طريق حوالات يرسلها لأمي وأحيانا أخرى لي، يزورنا نادرًا لأيام يغرق فيها أمي بالهدايا وبالدموع، ويغرق ليالي أنا بالخمر وحكايا الموت.
في أيام زياراته كنا ننام معًا، هو المخمور أبدًا وأنا المتعب ثملا بحكاياه.
- هل سمعت شيئا عن مجزرة الـ...
- لا
يضحك
- لم تضحك ؟
يتردد ثم يجيب،
- لا شيء
- كم مات في الـ...؟
أسأله
- لا أعلم..
ثم يضحك مرة أخرى، يستكين لسيجارة يشعلها ويحرق معها ما بقي من كلام.
- تصبح على خير
وأصبح على سفر عودته باكرًا مثل كل مرة، مصطبحا على آخر حقيقة يتقيؤها في جوف ذهولي: "لا إرهاب إلا إرهاب السلطة".
أتذكر صمته وهو يحتسي ذكرياته منتبذا ركن وحدته إقامة جبرية بين جدران الماضي.
- هنالك أشياء لا يمكن أن يشاركك فيها أحد،
أتذكر يد أخي وقد احترفت الصمت هي أيضا.. أتذكر أولئك الذين يلثم الليل بهم عيونه وصمته، وهم يسرون سكارى خلف أقدارهم، يقتلون بصمت وحزم وثقة، ثم يعودون إلى ثكنة تهديهم ألف طريق للنسيان.
- هنالك أشياء لا يمكن أن يشاركك فيها أحد..
ينظر أخي في وجه أمي، تدمع عيناه، ترتجف كلماته، يحضنها وقد أغلق عينيه بعنف.
- يمَّـا..
ويصمت.. كان قد قال كل شيء، أفرغ كل ما لديه من صمت.
- أمثالنا ليسوا بحاجة لمن يسمعهم.
يقول لي،
- نحن بحاجة إلى أن نحضن ذكرى دافئة، أن نحضن أشياء أضعناها ونحن نحضن الخوف والبرد، بحاجة إلى أن نحضن أشياء فرت منا إلى داخلنا هناك في الأغوار أين استكانت أرشيفا في انتظار أن نتقاعد وأن نشيخ،.. هذه يدي، لم تعد تذكر أنها كانت تمسك يد أمي في الشوارع الكبيرة المكتضة.
ثم يمسك يدي ويسألني في بله:
- لماذا ننسى أننا كنا أطفالا ذات يوم؟
مات أخي وأنا أحلم بمسك يده وانتهاج طريق المدرسة من جديد، مات دون أن يدرك أننا لم ننس أبدًا أننا كنا أطفالاً ذات يوم، خطأنا أنا وأنت أننا لم نكبر يومًا يا أخي لم نكبر.
* فصل من رواية جديدة لم تنشر بعد، بعنوان "ص" للكاتب الجزائري زرياب بوكفة