كتب الإعلامي الشاعر إسكندر حبش:
ربما كانت تستحق مصيراً أفضل. لن أقول إنها عدم لياقة فقط، بل هو جهل حقيقي بالفنان الذي يقف أمامنا. صحيح أنه يحق للمرء أن يحبّ أو أن لا يحبّ نوع الفن الذي يسمعه، لكن تقتضي الأمور أحياناً أن يحافظ على نوع من احترام لا للشخص المقابل له بل للنفس وقبل أي شيء آخر. في التفاصيل: لم يمض فاصل زمني طويل على بداية حفل الفنانة مادلين بيرو، مساء الأربعاء الماضي، ضمن مهرجانات بيت الدين، حتى بدأ عدد غير قليل من الجمهور بالانصراف، بكل ما يحمله من عجقة وعدم ترتيب وإزعاج لدرجة تتمنى فعلاً أن تبيد هذه الكائنات إلى غير رجعة. ومع ذلك ثمة أمر يستوقف ولا بد أن يقود إلى سؤال أساسي: هل فعلاً جمهور مهرجاناتنا الفنية هو جمهور يعي ماذا يحضر، أو بعبارة بسيطة هل يعرف هذا الجمهور الفنان وما يقدمه قبل أن يذهب ليشاهد؟ أشكّ في ذلك. أن نذهب لحضور فني في هذا البلد هو وقبل أي شيء آخر «حالة اجتماعية»، هو مناسبة لكي تجد صباح اليوم التالي الفرصة كي تقول لمن تراه على طريقك (أو حتى في منزلك خلال «الصُبحية») إنك كنت ليلة أمس في بعلبك أو بيت الدين أو بيبلوس (أو في أي مكان آخر) وأنك شاهدت فلاناً، فقط للمشاهدة لا للاستماع.
تستحق اسقبالاً أفضل
هذا الأمر ذكرني بما قالته الشابة التي كانت تجلس إلى جانبي يوم حفل الفنانة البرتغالية ميزيا في جبيل منذ أيام، قبل بدء الحفل اتصلت هذه الشابة بصديقها، ربما لتطمئنه عليه، وتخبره أنها في بيبلوس لحضور «عرض اسباني». كيف تريد أن تصدق فعلاً «ثقافة» هذا الشعب، حين يأتي أحدهم إلى حفل فني ولا يعرف من سيقف أمامه على خشبة المسرح، وحين لا يعرف حتى ما جنسية هذا الفنان، وبأنه لا يقدم عرضاً بل حفلاً غنائياً. ولا تسل عندها إن كان يعرف «الفادو» التقليدي وما أدخلت عليه ميزيا من تنويعات موسيقية تنتمي إلى ثقافات مختلفة غير البرتغالية.
في أي حال، لا أظن بتاتاً أن مادلين بيرو كانت سيئة إلى هذه الدرجة التي تتطلب من الجمهور أن يغادر بكل هذه الطريقة المزعجة. كان بالإمكان تجنب ذلك لو كان الذين غادروا يعرفون ولو جزءاً قليلاً من أعمال هذه الفنانة «المتعددة الثقافات» التي تنحو نحو فن «البلوز» على الرغم من اعتمادها أيضا على «الفولك» و«الكاونتري»، تماما مثلما تجلى ذلك في ألبومها الأول «أرض الأحلام»، والتي استعادت منه بعض أغانيها في حفلتها اللبنانية.
لكن موسيقى مادلين بيرو ـ (من أصول كندية عاشت بين أميركا وباريس، واسمها الفرنسي هذا اختارته لها والدتها التي كانت أستاذة للغة الفرنسية وعاشقة لأعمال الكاتب مارسيل بروست) ـ لا تتوقف عند هذا الحيّز بل حاولت أن تقدم بطريقة «جازية» (من جاز) أعمال ليونارد كوهين وبيسي سميث وبوب ديلان وهانك وليامس، وإن دلّت هذه الأسماء على شيء فهي تدل على الدور الكبير الذي تفرده بيرو للشعر في خياراتها الغنائية لتلصقها بمتانة بطريقة أدائها، إذ عرفت عنها قوة الأداء لدرجة أن نقاداً موسيقيين عديدين شبّهوا طريقة تقديمها بطريقة بيلي هوليداي كما أنها ابنتها الروحية.
لكن الحفل لم يتوقف عند هذه الاستعادات، بل نحت الفنانة إلى تقديم عدد من الأغنيات المخالفة، التي تحمل مسحة فرح ما، إذا جاز التعبير، لكن من دون أن تنسى أن تروي شيئاً عن هذا العالم وعن شروط الكائن فيه كما عن حياته وتفاصيله. في أي حال، كان يمكن الاستماع إلى مادلين بيرو في شروط أفضل، لكن هذا هو لبنان الذي لا تفهم تحوّلاته وانشطاراته بين لحظة وأخرى.
جريدة السفير25- 07- 2009
التعليق
جيد أن نقرأ من حين لآخر مقالة مثل هذه قريبة من الناس
تضع الأصبع على الجرح
و تتوجه إلى العامة لا إلى النخبة
يعطيك ألف عافية ساندرو