سرديات عودة
بلا جدران (الإثنين 22 شباط 2010)
كتبت الدكتورة إبتهال عبد العزيز الخطيب:
يبدو لي أننا نستمرئ تعذيب الذات، نعيش حالة مقاومة مستمرة للفكرة التي قد تخفف العبء، وللنهج الذي قد يحرر من العذاب. نعيش صراعا مستمرا مع الآخرين، فنحاكمهم في محاولة لقولبتهم فكرياً وأيديولوجياً وثيولوجياً، دون أن نعي التركيبة الشديدة التعقيد للعقل الإنساني الذي لا يتجاوب دوماً بالخضوع للتخويف، والذي لا يتشكل، كما السائل الطيع، في القوالب الدكتاتورية الصلبة التي «يصب» فيها صباً رغماً عن إرادته.
ليس لنا من سبيل للخلاص من حالة الصراع المستمر التي نعيشها في العالم الشرق أوسطي اليوم، سوى أن نتقبل فكرة استحالة الاستمرار في تصنيع قوالب ذات شكل واحد لتحتوي كل العقول، وكل الأفكار، وكل التعابير اللفظية والجسدية، كل الإنتاجات الفنية وكل المناحي العلمية، فالثابت أننا متغيرون، والواضح أننا غامضون، نحن البشر بمختلف تكويناتنا العقلية والروحانية، لا يمكن الاستمرار في صبنا في ذات القالب، وإذا ما دفع بهذه العملية قسراً، فلن ينتج عنها سوى قوالب منسوخة مشوهة لا تظهر أي درجة من درجات الاستقلال المظهري أو الفكري، ولا تتمكن من أي نوع من أنواع الإبداع الذي لا يستطيع أن يتقولب مطلقاً، ولكنه يحتاج لمسارات حرة طليقة ليجري كما يشاء ووفق ما يأخذه انطلاقه الإنساني الإعجازي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
الخلاص في تحرير المجتمع، في التحرر من السلطة الفكرية، والاستبداد السياسي، والهيمنة الاقتصادية، وهذه المفاهيم الثلاثة هي الركائز الرئيسة للفكر الليبرالي المضطهد في عالمنا العربي. والظاهرة فريدة وغريبة ومخيفة في الوقت ذاته. فالفكر الليبرالي مضطهد بسبب حالة القمع الوحشية التي ترزح أسفلها شعوب المنطقة، والتي لا خلاص لها منها إلا بالليبرالية، فتبدو لي أحياناً الحالة وكأنها متلاحقة تلاحق الدجاجة والبيضة.
الرفض العربي والإسلامي الصارخ لليبرالية يتأتى بسبب من حالة استمراء الظلم والوصاية التي لم نعد نثق بأنفسنا وتصرفاتنا إلا من خلالها.
اعتدنا سجانينا حتى أصبحنا نخشى اختفاءهم ونترجى وقوفهم على أبواب أسوارنا الحديدية الصدئة. نحن شعوب تعايشت والقمع الفكري والديني قروناً طويلة، لم نعرف سوى سلطة الحاكم المطلقة، وهيمنة رجال الدين الأبدية، وتحكم أغنياء السوق الفاحش، فباتت المناداة بالحرية والانعتاق الفكري ضربا من ضروب الخروج عن «الطبيعي» الذي هو مخالف لأبجديات الطبيعة «الشرق أوسطية» البشرية. لن يحدث في يوم من الأيام أن يستقر البشر جميعاً على نهج موحد، لن يجمع دين أو فكر أو سلطة سياسية أو منهجية اقتصادية بشر الكرة الأرضية في يوم، فالاختلاف هو أحد أسس تكويننا البيولوجي والروحاني، وجوهنا مختلفة، وكذا عقولنا وأرواحنا، والمنطق الوحيد الذي يمكن أن يجمعنا هو القبول بهذا الاختلاف والتعايش تحت مظلة احترامه. وكلما كان المجتمع أكثر تحرراً من منطق الحق الواحد، والرأي الواحد، والحاكم الواحد، والتاجر الواحد، انتعش الناس وانتعشت معهم مؤسسات البلد كافة، فيدور الحوار، ويدور الاقتصاد وتدور السياسة، وهذا الدوران المتوائم وحركة الأرض بكاملها فيه كل الحياة، فالحياة حركة، والسكون موت ونهاية.
من أجل خلاصنا، علينا اليوم أن نتغلب على مخاوفنا، أن نستقبل الليبرالية «بغفيرية» استقبال المصريين للبرادعي، ونناهض الأصولية مناهضة الفلسطينيين للجدار العنصري البغيض. إنها قضية بقاء واستمرار نوع، فتمرسنا قتل بعضنا البعض من أجل فكرة ستقضي علينا جميعاً، حيث تتعدد أفكارنا بتعدد أنفاسنا.
أما تدربنا على القبول بالرأي الآخر، وتعزيز مبادئ الحكم العادل الديمقراطي، ودور مؤسسات المجتمع المدني، وتجذير الاحترام للحريات، وأولها حرية البحث العلمي والعقائدي والفلسفي وتحرير العقل البشري من الخوف والتهديد بالغيبيات وعقدة الذنب والتأكيد على فردية الإنسان وأهميته، بل وقدسية هذه الفردية أمام جماعية منطقنا الحالي الذي يذوب الفرد حتى يعود لا يكون، كل ذلك من شأنه أن يخفف من احتقان القلوب والعقول، ويجذر للأمن ويمهد للتعايش، وبغير هذه المنهجية الليبرالية سنظل نقتات بعضنا بعضا أحياء ونتصارع إلى أن نفنى، فلا يبقى منا إلا ذكرى لشعوب مازوشية أفنت نفسها باستعذاب مريض للألم والصراع والتناحر المستمر.
لا يمكن اليوم العودة لملوحة الاستعباد الفكري والسياسي بعدما ذاق «بعض» البشر عذوبة الحرية، فهي القالب الوحيد الذي ليس له جدران.
كاتبة من الكويت
التعليق
كتبت الدكتورة إبتهال عبد العزيز الخطيب:
يبدو لي أننا نستمرئ تعذيب الذات، نعيش حالة مقاومة مستمرة للفكرة التي قد تخفف العبء، وللنهج الذي قد يحرر من العذاب. نعيش صراعا مستمرا مع الآخرين، فنحاكمهم في محاولة لقولبتهم فكرياً وأيديولوجياً وثيولوجياً، دون أن نعي التركيبة الشديدة التعقيد للعقل الإنساني الذي لا يتجاوب دوماً بالخضوع للتخويف، والذي لا يتشكل، كما السائل الطيع، في القوالب الدكتاتورية الصلبة التي «يصب» فيها صباً رغماً عن إرادته.
ليس لنا من سبيل للخلاص من حالة الصراع المستمر التي نعيشها في العالم الشرق أوسطي اليوم، سوى أن نتقبل فكرة استحالة الاستمرار في تصنيع قوالب ذات شكل واحد لتحتوي كل العقول، وكل الأفكار، وكل التعابير اللفظية والجسدية، كل الإنتاجات الفنية وكل المناحي العلمية، فالثابت أننا متغيرون، والواضح أننا غامضون، نحن البشر بمختلف تكويناتنا العقلية والروحانية، لا يمكن الاستمرار في صبنا في ذات القالب، وإذا ما دفع بهذه العملية قسراً، فلن ينتج عنها سوى قوالب منسوخة مشوهة لا تظهر أي درجة من درجات الاستقلال المظهري أو الفكري، ولا تتمكن من أي نوع من أنواع الإبداع الذي لا يستطيع أن يتقولب مطلقاً، ولكنه يحتاج لمسارات حرة طليقة ليجري كما يشاء ووفق ما يأخذه انطلاقه الإنساني الإعجازي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
الخلاص في تحرير المجتمع، في التحرر من السلطة الفكرية، والاستبداد السياسي، والهيمنة الاقتصادية، وهذه المفاهيم الثلاثة هي الركائز الرئيسة للفكر الليبرالي المضطهد في عالمنا العربي. والظاهرة فريدة وغريبة ومخيفة في الوقت ذاته. فالفكر الليبرالي مضطهد بسبب حالة القمع الوحشية التي ترزح أسفلها شعوب المنطقة، والتي لا خلاص لها منها إلا بالليبرالية، فتبدو لي أحياناً الحالة وكأنها متلاحقة تلاحق الدجاجة والبيضة.
الرفض العربي والإسلامي الصارخ لليبرالية يتأتى بسبب من حالة استمراء الظلم والوصاية التي لم نعد نثق بأنفسنا وتصرفاتنا إلا من خلالها.
اعتدنا سجانينا حتى أصبحنا نخشى اختفاءهم ونترجى وقوفهم على أبواب أسوارنا الحديدية الصدئة. نحن شعوب تعايشت والقمع الفكري والديني قروناً طويلة، لم نعرف سوى سلطة الحاكم المطلقة، وهيمنة رجال الدين الأبدية، وتحكم أغنياء السوق الفاحش، فباتت المناداة بالحرية والانعتاق الفكري ضربا من ضروب الخروج عن «الطبيعي» الذي هو مخالف لأبجديات الطبيعة «الشرق أوسطية» البشرية. لن يحدث في يوم من الأيام أن يستقر البشر جميعاً على نهج موحد، لن يجمع دين أو فكر أو سلطة سياسية أو منهجية اقتصادية بشر الكرة الأرضية في يوم، فالاختلاف هو أحد أسس تكويننا البيولوجي والروحاني، وجوهنا مختلفة، وكذا عقولنا وأرواحنا، والمنطق الوحيد الذي يمكن أن يجمعنا هو القبول بهذا الاختلاف والتعايش تحت مظلة احترامه. وكلما كان المجتمع أكثر تحرراً من منطق الحق الواحد، والرأي الواحد، والحاكم الواحد، والتاجر الواحد، انتعش الناس وانتعشت معهم مؤسسات البلد كافة، فيدور الحوار، ويدور الاقتصاد وتدور السياسة، وهذا الدوران المتوائم وحركة الأرض بكاملها فيه كل الحياة، فالحياة حركة، والسكون موت ونهاية.
من أجل خلاصنا، علينا اليوم أن نتغلب على مخاوفنا، أن نستقبل الليبرالية «بغفيرية» استقبال المصريين للبرادعي، ونناهض الأصولية مناهضة الفلسطينيين للجدار العنصري البغيض. إنها قضية بقاء واستمرار نوع، فتمرسنا قتل بعضنا البعض من أجل فكرة ستقضي علينا جميعاً، حيث تتعدد أفكارنا بتعدد أنفاسنا.
أما تدربنا على القبول بالرأي الآخر، وتعزيز مبادئ الحكم العادل الديمقراطي، ودور مؤسسات المجتمع المدني، وتجذير الاحترام للحريات، وأولها حرية البحث العلمي والعقائدي والفلسفي وتحرير العقل البشري من الخوف والتهديد بالغيبيات وعقدة الذنب والتأكيد على فردية الإنسان وأهميته، بل وقدسية هذه الفردية أمام جماعية منطقنا الحالي الذي يذوب الفرد حتى يعود لا يكون، كل ذلك من شأنه أن يخفف من احتقان القلوب والعقول، ويجذر للأمن ويمهد للتعايش، وبغير هذه المنهجية الليبرالية سنظل نقتات بعضنا بعضا أحياء ونتصارع إلى أن نفنى، فلا يبقى منا إلا ذكرى لشعوب مازوشية أفنت نفسها باستعذاب مريض للألم والصراع والتناحر المستمر.
لا يمكن اليوم العودة لملوحة الاستعباد الفكري والسياسي بعدما ذاق «بعض» البشر عذوبة الحرية، فهي القالب الوحيد الذي ليس له جدران.
كاتبة من الكويت
التعليق
نشر المقال في جريدة أوان الكويتية
و بعد قراءته يخطر ببالنا هذا السؤال:
من يريد أن يبقى في سجنه فليبق، لكن لماذا يحب أن يفرض سجنه على الآخرين؟؟؟؟
و بعد قراءته يخطر ببالنا هذا السؤال:
من يريد أن يبقى في سجنه فليبق، لكن لماذا يحب أن يفرض سجنه على الآخرين؟؟؟؟