سرديات عودة
ستر المغتصبات.. وقفات مع فقه ابن الخطاب (الإثنين 8 شباط 2010)
كتبت: صفية الجفري
"زينب دياب" فتاة في مقتبل العمر، تتدفق حيوية وتألقاً، ذلك الألق الذي خلقه جمال الصورة ولمعان العقل.. يحدثنا الأستاذ الكبير نجيب محفوظ عنها في روايته "الكرنك" عن شبابها وإقبالها على الحياة، ويصف لنا وصفاً عميقاً وذكياً الصراع الذي يموج في نفسها، الصراع بين الدهشة الغضة بالفكر الجديد وبين القيم الأصيلة.. لا تملك إلا أن تحب شبابها وتتأمله، لكن زينب تنهار.. وينهار معها كل ذلك "الألق" بعد اعتداء زبانية رجل المخابرات "خالد صفوان"عليها.
حياة الشرفاء
للوهلة الأولى قد يظن القارئ أن السبب في الانهيار هو اغتصابها، وجدير أن يظن-بادي الرأي- أن جريمة كهذه يمكن أن تدمّر فتاة عفيفة، وتقضي على بكارة وجدانها، ونقاوته، لكن الأستاذ نجيب محفوظ يلفت نظرنا من خلال كلمات "زينب" إلى معنى مهم، وهو أن السبب البعيد والأصيل في الدمار الذي حل بنفسيتها هو أنه لم يكن لديها حصانة معرفية تحمي بها نفسها من التردي في ظلمات احتقار الذات، الذي أدى بها إلى السقوط.
تقول زينب: "رفضت التظاهر بحياة الشرفاء وقررت أن أعيش كما ينبغي لامرأة بلا كرامة.. ثم اضطرب تفكيري فضل ضلالاً بعيداً." (رواية الكرنك. نجيب محفوظ. ص70. دار الشروق.مصر).
لقد اضطرب تفكيرها فضل ضلالاً بعيداً.. لم يكن لديها بناء معرفيا يحميها من المشاعر السلبية، واضطراب التفكير.. وهكذا كان حال بعض من دمرهن الاغتصاب، ولم يسهم المجتمع في حمايتهن أولاً من جريمة الاغتصاب، ولم يسهم ثانيا في حمايتهن من تدمير أنفسهن.
إنهن لا يستحققن ذلك.. العقل المنصف يشهد بذلك.. والشرع الحكيم يحميهن من هذه المشاعر ومن اضطراب التفكير، ونجد في فقه سيدنا عمر ما يدل دلالة واضحة على حق الفتاة المغتصبة في حياة كريمة، وحقها في أن يكون أهلها هم أول الناس حماية لها ودعماً.
"فقه الستر" في فقه الفاروق عمر رضي الله عنه تتجلى فيه معاني رحمة الإسلام بالناس، رحمة بمن ارتكبت جريمة الزنا ثم تابت توبة نصوحاً، ورحمة بالمغتصبة المعتدى عليها.. تلك الرحمة الحكيمة التي جاء الإسلام ليجعلها أساساً في حياة الناس وتعاملاتهم.. وقراءة هذه الرحمة تحتاج إلى صبر، وتأمل، وتجديد نية طلب الحق.. والله المستعان.
ما لَك وللخبر؟
قديماً في زمن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. يروي لنا الإمام مالك في الموطأ عن واقعة حصلت في ذلك الزمان : "أن رجلاً خطب إلى رجل أخته فذكر أنها قد كانت أحدثت– قال الإمام الطاهر بن عاشور في كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ كتاب النكاح/ جامع النكاح: أي زنت -فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه أو كاد يضربه.. ثم قال: ما لك وللخبر؟".
قال الإمام ابن عبد البر (في الاستذكار /كتاب النكاح / باب جامع النكاح): قد روي هذا المعنى عن عمر من وجوه، ومعناه عندي - والله أعلم - في من تابت وأقلعت عن غيها، فإذا كان ذلك حرم الخبر بالسوء عنها، وحرم رميها بالزنا، ووجب الحد على من قذفها إذا لم يقم البينة عليها.
ثم روى الإمام ابن عبد البر( في الاستذكار/كتاب النكاح/ باب جامع النكاح) بسنده عن الشعبي أن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال: إن ابنة لي ولدت في الجاهلية، وأسلمت، فأصابت حدا، وعمدت إلى الشفرة، فذبحت نفسها، فأدركتها، وقد قطعت بعض أوداجها بزاويتها، فبرئت، ثم مسكت، وأقبلت على القرآن، وهي تُخطب، فأخبر من شأنها بالذي كان؟، فقال عمر: أتعمد إلى ستر ستره الله، فتكشفه، لئن بلغني أنك ذكرت شيئاً من أمرها لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار، بل أنكحها نكاح العفيفة المسلمة.
القضية التي وقف فيها سيدنا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- هذا الموقف القوي الذي يرقى إلى العقوبة أو التهديد بها في حق من يفضح ستر من زنت ثم تابت إذا ما خطبها خاطب، هي قضية تلتبس على العقول، وتتداخل فيها الحقوق ظاهراً، فهناك حق الستر لمن تابت، وهناك حق الخاطب في أن لا يخدع بالزواج ممن يظنها لم يمسها غيره، لكن الملهم سيدنا عمر –رضي الله عنه- يجعل الستر حقا لا يعارضه حق غيره، بل ويسقط ما قد يُتوهم من حق للخاطب في إعلامه بحال مخطوبته قبل توبتها.
الستر والعدل
ويشرح لنا الإمام الطاهر ابن عاشور ذلك –في كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ كتاب النكاح/ جامع النكاح- فيقول: "ووجه الفقه في ذلك كله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بستر المسلم فيما زل فيه من المعاصي فقال في الحديث الصحيح: "من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة".. فحَصُل العلم بأن من مقاصد الشريعة الستر في المعاصي ما لم يخش ضر على الأمة، لأن في الستر مصالح كثيرة، منها: إبعاد المقترف عن استخفاف الناس به وكراهيتهم له، ومنها أن من حصلت منه المعصية على وجه الفلتة إذا ستر أمره بقي له وقاية من مروءته فلعله لا يعاود تلك المعصية فإذا افتضح زال ذلك الاتقاء، فقال: أنا الغريق فما خوفي من البلل، فلأجل ذلك كله وغيره أدّب عمر –رضي الله عنه- من شهر بأخته، لأن تلك المقاصد التي ذكرناها هي أقوى وآكد في جانب الأقارب بله الأخوة، وليس هنالك ما يعارض، إذ لا منفعة للخاطب في إعلامه بما أحدثته مخطوبته، فإنه ذنب مضى، وليس هو عيبا في الخلقة يجب الإعلام به لتجنب الغرور بالخاطب، كعيوب الأبدان والأخلاق من مرض أو جنون أو حماقة قوية تمنع حسن المعاشرة، على أن الإخبار بمثل ذلك يوجب انكفاف الرجال عن تزوج المرأة، ولذلك قال له عمر: "مالك وللخبر"، يعني لا داعي إلى ذلك الخبر ولا فائدة، فإن الاستفهام في قوله "مالك" استفهام إنكاري هو في معنى النفي، أي : ليس لك مع هذا الخبر اتصال واختصاص". اهـ النقل مختصراً.
فالإسلام يؤكد على أن العفة منبعها طهر القلب، واستقامة السلوك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "التائب عن الذنب كمن لا ذنب له" ( سنن ابن ماجه/ كتاب الزهد / باب ذكر التوبة)، قال ابن حجر الهيتمي في مجمع الزوائد : "رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم. قلت: وقد تقدمت أحاديث في باب "الإسلام يجب ما كان قبله" في كتاب الإيمان. ونقله الإمام ابن عبد البر في الاستذكار في كتاب النكاح/ باب جامع النكاح.
وإذا كان الخاطب إذا زنا ثم تاب، فليس غشاً ولا خداعاً أن يستر على نفسه، وأن لا يفضحها أمام من يخطب عندهم، بل يحرم عليه أن يفضح نفسه، والستر واجب عليه، فكذلك المرأة إذا تابت، واستقامت ليس لها أن تفضح نفسها، وليس لأهلها أن يهتكوا ستر الله عليها. يروي الإمام ابن عبد البر (في الاستذكار / كتاب النكاح/ باب جامع النكاح ) أن رجلا أراد أن يزوج ابنته، فقالت: إني أخشى أن أفضحك، إني قد بغيت. فأتى عمر، فذكر ذلك له، فقال: أليست قد تابت؟ قال: نعم، قال: فزوجها.
ونجد في فروع الفقه المالكي مزيد تفصيل في هذه المسألة، فيذكر المالكية أن من زالت عذريتها بزنا لم يتكرر منها هي في حكم البكر، وكذلك من اغتصبت، وينصون أن من لم يتكرر منها الزنا لم يرتفع حياؤها، فتعامل معاملة الفتاة البكر في أن أباها له أن يجبرها على الزواج.
والأمر ليس من جهة القهر للمرأة كما قد يتبادر، لكن هم ينظرون لهذه المسألة في ضوء الوضع الاجتماعي الذي كانوا يعيشونه، وفي هذا الوضع تستحي الفتاة البكر من إبداء الموافقة على الزواج، وقد تصرّح بالرفض وهي راغبة، فنظراً لهذه الطبيعة النفسية الخاصة للبكر في ذلك المجتمع، ذهب المالكية إلى أن والد الفتاة البكر له أن يجبرها على الزواج الذي تمتنع عن قبوله حياء، ومن هنا كان تعبيرهم الفقهي: أن علة إجبار البكر هي الحياء.
وأن التي زنت ولم يتكرر ذلك منها في حكم البكر لأنها لم يرتفع حياؤها. ( التاج والإكليل / كتاب النكاح/ ج3/ ص 327/ الناشر: دار الفكر. وهذا هو مشهور مذهب المالكية كما نقل الشيخ البناني في حاشيته على مختصر خليل/ مج3-4/ج3/ص172. دار النشر: دار الفكر).
يبدو هذا الكلام عجيبا في عصر كعصرنا، فالغالب أن الفتيات – في عصرنا- لا يمتنعن عن قبول الخاطب حياء من أن يفهم أنهن راغبات في الزواج، لكن فلنحلل عزيزي القارىء كلام المالكية في ضوء تكييفهم للمسألة.
ينظر المالكية إلى الفتاة التي وقعت في الزنا ولم يتكرر هذا الفعل منها نظرة تستوقف المرء حقاً، فهم لا يجعلون سقوطها هذا رغم شناعته سبباً للحكم عليها بارتفاع الحياء عنها، فالسقوط لمرة لا يعني أنها صارت في حكم الفاجرات اللاتي لا حياء عندهن، وهذه النظرة تجعلنا نتأمل في العدل الفقهي الذي نتج عنه هذا الحكم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة8، وهي نظرة تتسق مع ما يؤكد عليه الإسلام من أن الذنب ينبغي أن لا يكبل المرء، وأن التوبة باب مفتوح في كل لحظة، ليبدأ المسلم من جديد مع رب يقبل عليه بفرح، ويعده بالعون والتأييد إن أخلص الإنابة.
عزة التوبة.. تصحيح معرفي
وأجدني أتأمل كيف أن نشر هذه الثقافة، وتأصيلها في نفوس الناس، سيحمي كثيرات ممن اغتصبن أو زللن من كراهية الذات التي قد تقودهن إلى ظلمة العزلة أو التردي في مهاوي الفساد والعياذ بالله.
هي ثقافة تكسب المرء قوة نفسية، واعتزاز بالله عز وجل فالله هو العزيز، وهو يريد للمسلم العزة، واحترام الذات، ويمنعه من أن يدخل بينه وبين ربه العزيز نفس أمارة بالسوء والكراهية والاحتقار، أو بشر ليس من حقه أن يطلع على ذنب خفي مهما كان قربه من صاحب الذنب، فالله وحده هو القريب حقاً، العزيز حقاً، يغار على عبده المؤمن، وليس للمؤمن أن يهتك ستراً ستره الله عليه.
وفي ضوء النصوص القرآنية والنبوية العامة التي تحث على الستر، وتأمر به، وفي ضوء فقه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والتحليل النفسي والاجتماعي لهذا الفقه، جاءت الفتاوى المجيزة لعملية إعادة الغشاء في حق من زنت فتابت وحسنت توبتها.
ففي فتوى لفضيلة الدكتور علي جمعة محمد بشأن حكم عملية إعادة غشاء البكارة (الفتوى بتاريخ 28/12/2003 موقع دار الإفتاء المصرية/ فتاوى فضيلة المفتي/ الطب والتداوي) يقول فضيلته بعد أن أكد على الحض على العفاف وتحريم الزنا، وذكر أن الأصل في الشريعة هو الستر على الأعراض وأيد قوله بالنصوص الشرعية: "لقد نص السادة الأحناف أن العذرة لو زالت بزنا خفي وهو الذي لم يصل إلى الحاكم فلم يقم عليها الحد، ولم تشتغل به حتى صار الزنا لها عادة، أنها بكر حكماً، وإن لم تكن بكرا حقيقة، وتُزوج كالأبكار، حتى إنها لا تُستَنطق، إنزالاً لها منزلة البكر التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :" البكر تستأذن وإذنها صمتها"، وعلل الحنفية ذلك بقولهم: وفي استنطاقها إظهار لفاحشتها، وقد ندب الشارع الستر. ( مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر/ كتاب النكاح / باب الأولياء والأكفاء)، ثم قال فضيلته: "... ومما سبق فيجوز لها رتق ذلك الغشاء بالطب درءاً للمفسدة التي تترتب ولو في المآل على عدم ذلك الرتق، ويجوز للطبيب فعل ذلك ولو بالأجر، أما إذا اشتهرت بالزنا والعياذ بالله، أو حدت فيه فلا يجوز ذلك لانتفاء العلة." اهـ كلام فضيلته .
وسئل فضيلة الدكتور البوطي: "أليس الإفتاء برتق غشاء البكارة واحداً من الأسباب التي تهوّن الوقوع في الخطأ؟" فأجاب فضيلته: "أرأيت لو أن فتاة مستقيمة خطبت إلى شاب مثلها، وكانت قد انزلقت يوماً ما إلى ارتكاب فاحشة، ثم تابت إلى الله توبة نصوحا، أفيجب عليها أن تكشف سترها لهذا الشاب.. الجواب أنه كما لا يجب على الشاب أن يتحدث عن انحرافاته الماضية التي تاب عنها، فكذلك الفتاة لا يجب عليها ذلك، لأن معصية الرجل والمرأة في ميزان الله تعالى سواء.
فإذا كان هذا واضحاً، فإن ترميم الفتاة التائبة بصدق بكارتها سترا لنفسها، داخل في الحكم ذاته، هذا بقطع النظر عن أن هذا الترميم فيه عون كبير على استقامتها، في حين أن منعها من ذلك وإلجائها إلى طريق الفضيحة، من أخطر أسباب الانحراف إلى الرذيلة والموبقات." اهـ باختصار يسير.( مع الناس مشورات وفتاوى . د. محمد سعيد رمضان البوطي. ص 134).
آلام المغتصبة أشد
وإذا كان الشرع – في فقه سيدنا عمر رضي الله عنه- قد ألغى ما قد يتوهم من غش الخاطب فيما إذا لم يُخبر بأن من يخطبها قد سبق لها أن زنت، ويعد هذا الذنب هو أمر خاص بالفتاة متى تابت عنه، واستقامت، فقد يقال إن من اغتصبت فزالت بكارتها هي أولى بأن تستر على نفسها، فهي ضحية ومعتدى عليها، لكن ماذا عن الأثر النفسي الذي يتركه الاغتصاب في نفس المغتصبة، والذي يؤثر على قدرتها على القيام بحق الزوج الخاص؟، هل يجعل من الواجب عليها أن تخبر الخاطب بما حصل لها ليعينها على تجاوزه نفسياً؟.
لست من أهل الإفتاء إنما أطرح المسألة للمناقشة لا التقرير، هذا الأثر النفسي هل يمكن معالجته بسرية تامة، وبدون حاجة إلى معونة الزوج؟، هذا ما ينبغي أن يجيب عنه الأطباء، فإذا كان ذلك ممكناً فينبغي أن يكون القول بالستر واجباً، لكن إذا لم يكن من الممكن معالجته، فما هو الحكم؟، وهل يقال إن الزوجة ليس لها أن تخبر الزوج بما جرى لها، ويعالج الأمر على أنه عرض نفسي طارىء، لكن لماذا نحمّل الزوج العبء النفسي والمادي لعلاج الزوجة، أليس هذا ضرر يلحق به لا ذنب له فيه؟.
اجتهادات مغايرة
لقد اقتصرت في السطور السابقة على طرح المسألة من حيث اتصالها بفقه سيدنا عمر- رضي الله عنه-، وإلا فإن لبعض المعاصرين أقوالاً واجتهادات بعضها يختلف مع فقه سيدنا عمر –رضي الله عنه- في التأصيل ويتفق في النتيجة، وبعضها يختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل والنتيجة.
من القسم الأول: أي من الفتاوى التي تختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل وتتفق في النتيجة الفتوى التي صدرت عن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الـ 18 من 9 إلى 14 تموز 2007م، ونصها: «يجوز رتق غشاء البكارة الذي تمزق بسبب حادث أو اغتصاب أو إكراه، ولا يجوز شرعاً رتق الغشاء المتمزق بسبب الفاحشة، سدا لذريعة الفساد والتدليس، ويستثنى من هذا الحكم ما إذا غلب على الظن أن عدم الرتق يؤدي إلى مفسدة عظمى، فإنه يجوز إجراء عملية الترقيع، كما هو الحال في أعرافنا، فإن الفتاة إذا اكتشف ليلة زفافها أنها فاقدة للعذرية تطلق، وفي طلاقها مفسدة لها وعار لأهلها، وقد يؤدي الأمر إلى قتلها من قبل ذويها، وفي حال وجود مفسدتين ترتكب الأخف دفعا للعظمى. ( جريدة عكاظ / 29 أكتوبر 2009) .
وتتفق فتوى الدكتور سلمان العودة مع فتوى مجمع الفقه الإسلامي في إجازة مثل هذه العملية درءا لمفسدة ما يسمى جرائم الشرف، وهي مفسدة عظيمة، يقول: «عملية ترميم غشاء البكارة فيها خلاف بين الفقهاء، والذي أميل إليه أنه إذا وجدت التوبة عند الفتاة، فإنه يجوز لها أن تفعل ذلك حفاظاً على نفسها، وعلى حياتها، وعلى مستقبلها؛ لأنه من النساء من تقتل، وأنا أعرف منظمة عالمية ذكرت أن خمسة آلاف امرأة تقتل سنويا بسبب هذا الأمر، أو ما يسمى بجرائم الشرف". (موقع الإسلام اليوم http://islamtoday.net/salman/artshow-78-121971.htm)
ومن القسم الثاني: أي من الفتاوى التي تختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل والنتيجة: ما ذهب إليه أ. د حسين حامد حسان رئيس مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عضو المجامع الفقهية من منع مثل هذه العملية، قال: إن فتح الباب في هذه العمليات يؤدي إلى فساد عظيم بل إنها تجر إلى مفاسد أكبر من منفعة الستر، ومن ذلك الغش والتدليس على الزوج، مشيراً إلى ضرورة أن يبين ولي الأمر للخاطب ما حصل لابنته في حال إجراء عملية الترقيع، وأضاف: ولقد سبق وصادفتني عدة حالات لفتيات أخفين على خطبائهن حقيقة بكارتهن فاكتشف الزوج ذلك فحدث الطلاق وتبعت ذلك آثار سلبية عظمى.
وعلل فضيلته سبب رفضه لتلك العمليات لأنه لا يبرر الستر على الجريمة بارتكاب جريمة أخرى فسد الذرائع ومنع المفاسد مقدم على كل ما سواه، وأضاف: أعتقد أن مثل هذه الفتاوى تقلل من قيمة العفاف والطهر رغم قيمتهما الكبيرة ( جريدة عكاظ /29 أكتوبر 2009).اهـ النقل باختصار.
وكلام فضيلته قد سبقت مناقشته في ثنايا المقال، فالكلام على الغش والتدليس على الزوج تعارضه النصوص التي تأمر بالستر، وتجعل الذنب أمراً خاصاً بين العبد وربه، ليس من حق أقرب الناس الاطلاع عليه، والكلام على أن هذا الباب يجر الفساد، ويقلل من أهمية العفاف والستر يرده أن قفل هذا الباب يشجع على الإعراض عن التوبة، ويحرم من أرادت الاستقامة من بداية جديدة في حياتها طاهرة، عزيزة، بستر الله ومغفرته وتوبته.
لقد جعل الإسلام مساحة كبيرة للفرد المسلم للإصلاح، وبنى أحكامه على التعامل مع المسلم تعاملاً يؤكد على احترام المسؤولية الفردية، ويشدد على ثقافة الستر، ويعزز ثقة المسلم بنفسه، وبقدرته على أن يكون فردا صالحا مهما ارتكب من خطايا، وسد الباب أمام ذلك هو مجافاة لروح الإسلام، وميزة عظمى من مزاياه كما أفهم. والله أعلم.
كاتبة وباحثة شرعية بالمملكة العربية السعودية، ويمكنك مطالعة مدونتها http://www.mudawala.blogspot.com
Read more: http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1264250016742&pagename=Zone-Arabic-AdamEve%2FAEALayout#ixzz0evcpPBus
التعليق
كتبت: صفية الجفري
"زينب دياب" فتاة في مقتبل العمر، تتدفق حيوية وتألقاً، ذلك الألق الذي خلقه جمال الصورة ولمعان العقل.. يحدثنا الأستاذ الكبير نجيب محفوظ عنها في روايته "الكرنك" عن شبابها وإقبالها على الحياة، ويصف لنا وصفاً عميقاً وذكياً الصراع الذي يموج في نفسها، الصراع بين الدهشة الغضة بالفكر الجديد وبين القيم الأصيلة.. لا تملك إلا أن تحب شبابها وتتأمله، لكن زينب تنهار.. وينهار معها كل ذلك "الألق" بعد اعتداء زبانية رجل المخابرات "خالد صفوان"عليها.
حياة الشرفاء
للوهلة الأولى قد يظن القارئ أن السبب في الانهيار هو اغتصابها، وجدير أن يظن-بادي الرأي- أن جريمة كهذه يمكن أن تدمّر فتاة عفيفة، وتقضي على بكارة وجدانها، ونقاوته، لكن الأستاذ نجيب محفوظ يلفت نظرنا من خلال كلمات "زينب" إلى معنى مهم، وهو أن السبب البعيد والأصيل في الدمار الذي حل بنفسيتها هو أنه لم يكن لديها حصانة معرفية تحمي بها نفسها من التردي في ظلمات احتقار الذات، الذي أدى بها إلى السقوط.
تقول زينب: "رفضت التظاهر بحياة الشرفاء وقررت أن أعيش كما ينبغي لامرأة بلا كرامة.. ثم اضطرب تفكيري فضل ضلالاً بعيداً." (رواية الكرنك. نجيب محفوظ. ص70. دار الشروق.مصر).
لقد اضطرب تفكيرها فضل ضلالاً بعيداً.. لم يكن لديها بناء معرفيا يحميها من المشاعر السلبية، واضطراب التفكير.. وهكذا كان حال بعض من دمرهن الاغتصاب، ولم يسهم المجتمع في حمايتهن أولاً من جريمة الاغتصاب، ولم يسهم ثانيا في حمايتهن من تدمير أنفسهن.
إنهن لا يستحققن ذلك.. العقل المنصف يشهد بذلك.. والشرع الحكيم يحميهن من هذه المشاعر ومن اضطراب التفكير، ونجد في فقه سيدنا عمر ما يدل دلالة واضحة على حق الفتاة المغتصبة في حياة كريمة، وحقها في أن يكون أهلها هم أول الناس حماية لها ودعماً.
"فقه الستر" في فقه الفاروق عمر رضي الله عنه تتجلى فيه معاني رحمة الإسلام بالناس، رحمة بمن ارتكبت جريمة الزنا ثم تابت توبة نصوحاً، ورحمة بالمغتصبة المعتدى عليها.. تلك الرحمة الحكيمة التي جاء الإسلام ليجعلها أساساً في حياة الناس وتعاملاتهم.. وقراءة هذه الرحمة تحتاج إلى صبر، وتأمل، وتجديد نية طلب الحق.. والله المستعان.
ما لَك وللخبر؟
قديماً في زمن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. يروي لنا الإمام مالك في الموطأ عن واقعة حصلت في ذلك الزمان : "أن رجلاً خطب إلى رجل أخته فذكر أنها قد كانت أحدثت– قال الإمام الطاهر بن عاشور في كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ كتاب النكاح/ جامع النكاح: أي زنت -فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه أو كاد يضربه.. ثم قال: ما لك وللخبر؟".
قال الإمام ابن عبد البر (في الاستذكار /كتاب النكاح / باب جامع النكاح): قد روي هذا المعنى عن عمر من وجوه، ومعناه عندي - والله أعلم - في من تابت وأقلعت عن غيها، فإذا كان ذلك حرم الخبر بالسوء عنها، وحرم رميها بالزنا، ووجب الحد على من قذفها إذا لم يقم البينة عليها.
ثم روى الإمام ابن عبد البر( في الاستذكار/كتاب النكاح/ باب جامع النكاح) بسنده عن الشعبي أن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال: إن ابنة لي ولدت في الجاهلية، وأسلمت، فأصابت حدا، وعمدت إلى الشفرة، فذبحت نفسها، فأدركتها، وقد قطعت بعض أوداجها بزاويتها، فبرئت، ثم مسكت، وأقبلت على القرآن، وهي تُخطب، فأخبر من شأنها بالذي كان؟، فقال عمر: أتعمد إلى ستر ستره الله، فتكشفه، لئن بلغني أنك ذكرت شيئاً من أمرها لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار، بل أنكحها نكاح العفيفة المسلمة.
القضية التي وقف فيها سيدنا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- هذا الموقف القوي الذي يرقى إلى العقوبة أو التهديد بها في حق من يفضح ستر من زنت ثم تابت إذا ما خطبها خاطب، هي قضية تلتبس على العقول، وتتداخل فيها الحقوق ظاهراً، فهناك حق الستر لمن تابت، وهناك حق الخاطب في أن لا يخدع بالزواج ممن يظنها لم يمسها غيره، لكن الملهم سيدنا عمر –رضي الله عنه- يجعل الستر حقا لا يعارضه حق غيره، بل ويسقط ما قد يُتوهم من حق للخاطب في إعلامه بحال مخطوبته قبل توبتها.
الستر والعدل
ويشرح لنا الإمام الطاهر ابن عاشور ذلك –في كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ كتاب النكاح/ جامع النكاح- فيقول: "ووجه الفقه في ذلك كله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بستر المسلم فيما زل فيه من المعاصي فقال في الحديث الصحيح: "من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة".. فحَصُل العلم بأن من مقاصد الشريعة الستر في المعاصي ما لم يخش ضر على الأمة، لأن في الستر مصالح كثيرة، منها: إبعاد المقترف عن استخفاف الناس به وكراهيتهم له، ومنها أن من حصلت منه المعصية على وجه الفلتة إذا ستر أمره بقي له وقاية من مروءته فلعله لا يعاود تلك المعصية فإذا افتضح زال ذلك الاتقاء، فقال: أنا الغريق فما خوفي من البلل، فلأجل ذلك كله وغيره أدّب عمر –رضي الله عنه- من شهر بأخته، لأن تلك المقاصد التي ذكرناها هي أقوى وآكد في جانب الأقارب بله الأخوة، وليس هنالك ما يعارض، إذ لا منفعة للخاطب في إعلامه بما أحدثته مخطوبته، فإنه ذنب مضى، وليس هو عيبا في الخلقة يجب الإعلام به لتجنب الغرور بالخاطب، كعيوب الأبدان والأخلاق من مرض أو جنون أو حماقة قوية تمنع حسن المعاشرة، على أن الإخبار بمثل ذلك يوجب انكفاف الرجال عن تزوج المرأة، ولذلك قال له عمر: "مالك وللخبر"، يعني لا داعي إلى ذلك الخبر ولا فائدة، فإن الاستفهام في قوله "مالك" استفهام إنكاري هو في معنى النفي، أي : ليس لك مع هذا الخبر اتصال واختصاص". اهـ النقل مختصراً.
فالإسلام يؤكد على أن العفة منبعها طهر القلب، واستقامة السلوك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "التائب عن الذنب كمن لا ذنب له" ( سنن ابن ماجه/ كتاب الزهد / باب ذكر التوبة)، قال ابن حجر الهيتمي في مجمع الزوائد : "رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم. قلت: وقد تقدمت أحاديث في باب "الإسلام يجب ما كان قبله" في كتاب الإيمان. ونقله الإمام ابن عبد البر في الاستذكار في كتاب النكاح/ باب جامع النكاح.
وإذا كان الخاطب إذا زنا ثم تاب، فليس غشاً ولا خداعاً أن يستر على نفسه، وأن لا يفضحها أمام من يخطب عندهم، بل يحرم عليه أن يفضح نفسه، والستر واجب عليه، فكذلك المرأة إذا تابت، واستقامت ليس لها أن تفضح نفسها، وليس لأهلها أن يهتكوا ستر الله عليها. يروي الإمام ابن عبد البر (في الاستذكار / كتاب النكاح/ باب جامع النكاح ) أن رجلا أراد أن يزوج ابنته، فقالت: إني أخشى أن أفضحك، إني قد بغيت. فأتى عمر، فذكر ذلك له، فقال: أليست قد تابت؟ قال: نعم، قال: فزوجها.
ونجد في فروع الفقه المالكي مزيد تفصيل في هذه المسألة، فيذكر المالكية أن من زالت عذريتها بزنا لم يتكرر منها هي في حكم البكر، وكذلك من اغتصبت، وينصون أن من لم يتكرر منها الزنا لم يرتفع حياؤها، فتعامل معاملة الفتاة البكر في أن أباها له أن يجبرها على الزواج.
والأمر ليس من جهة القهر للمرأة كما قد يتبادر، لكن هم ينظرون لهذه المسألة في ضوء الوضع الاجتماعي الذي كانوا يعيشونه، وفي هذا الوضع تستحي الفتاة البكر من إبداء الموافقة على الزواج، وقد تصرّح بالرفض وهي راغبة، فنظراً لهذه الطبيعة النفسية الخاصة للبكر في ذلك المجتمع، ذهب المالكية إلى أن والد الفتاة البكر له أن يجبرها على الزواج الذي تمتنع عن قبوله حياء، ومن هنا كان تعبيرهم الفقهي: أن علة إجبار البكر هي الحياء.
وأن التي زنت ولم يتكرر ذلك منها في حكم البكر لأنها لم يرتفع حياؤها. ( التاج والإكليل / كتاب النكاح/ ج3/ ص 327/ الناشر: دار الفكر. وهذا هو مشهور مذهب المالكية كما نقل الشيخ البناني في حاشيته على مختصر خليل/ مج3-4/ج3/ص172. دار النشر: دار الفكر).
يبدو هذا الكلام عجيبا في عصر كعصرنا، فالغالب أن الفتيات – في عصرنا- لا يمتنعن عن قبول الخاطب حياء من أن يفهم أنهن راغبات في الزواج، لكن فلنحلل عزيزي القارىء كلام المالكية في ضوء تكييفهم للمسألة.
ينظر المالكية إلى الفتاة التي وقعت في الزنا ولم يتكرر هذا الفعل منها نظرة تستوقف المرء حقاً، فهم لا يجعلون سقوطها هذا رغم شناعته سبباً للحكم عليها بارتفاع الحياء عنها، فالسقوط لمرة لا يعني أنها صارت في حكم الفاجرات اللاتي لا حياء عندهن، وهذه النظرة تجعلنا نتأمل في العدل الفقهي الذي نتج عنه هذا الحكم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة8، وهي نظرة تتسق مع ما يؤكد عليه الإسلام من أن الذنب ينبغي أن لا يكبل المرء، وأن التوبة باب مفتوح في كل لحظة، ليبدأ المسلم من جديد مع رب يقبل عليه بفرح، ويعده بالعون والتأييد إن أخلص الإنابة.
عزة التوبة.. تصحيح معرفي
وأجدني أتأمل كيف أن نشر هذه الثقافة، وتأصيلها في نفوس الناس، سيحمي كثيرات ممن اغتصبن أو زللن من كراهية الذات التي قد تقودهن إلى ظلمة العزلة أو التردي في مهاوي الفساد والعياذ بالله.
هي ثقافة تكسب المرء قوة نفسية، واعتزاز بالله عز وجل فالله هو العزيز، وهو يريد للمسلم العزة، واحترام الذات، ويمنعه من أن يدخل بينه وبين ربه العزيز نفس أمارة بالسوء والكراهية والاحتقار، أو بشر ليس من حقه أن يطلع على ذنب خفي مهما كان قربه من صاحب الذنب، فالله وحده هو القريب حقاً، العزيز حقاً، يغار على عبده المؤمن، وليس للمؤمن أن يهتك ستراً ستره الله عليه.
وفي ضوء النصوص القرآنية والنبوية العامة التي تحث على الستر، وتأمر به، وفي ضوء فقه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والتحليل النفسي والاجتماعي لهذا الفقه، جاءت الفتاوى المجيزة لعملية إعادة الغشاء في حق من زنت فتابت وحسنت توبتها.
ففي فتوى لفضيلة الدكتور علي جمعة محمد بشأن حكم عملية إعادة غشاء البكارة (الفتوى بتاريخ 28/12/2003 موقع دار الإفتاء المصرية/ فتاوى فضيلة المفتي/ الطب والتداوي) يقول فضيلته بعد أن أكد على الحض على العفاف وتحريم الزنا، وذكر أن الأصل في الشريعة هو الستر على الأعراض وأيد قوله بالنصوص الشرعية: "لقد نص السادة الأحناف أن العذرة لو زالت بزنا خفي وهو الذي لم يصل إلى الحاكم فلم يقم عليها الحد، ولم تشتغل به حتى صار الزنا لها عادة، أنها بكر حكماً، وإن لم تكن بكرا حقيقة، وتُزوج كالأبكار، حتى إنها لا تُستَنطق، إنزالاً لها منزلة البكر التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :" البكر تستأذن وإذنها صمتها"، وعلل الحنفية ذلك بقولهم: وفي استنطاقها إظهار لفاحشتها، وقد ندب الشارع الستر. ( مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر/ كتاب النكاح / باب الأولياء والأكفاء)، ثم قال فضيلته: "... ومما سبق فيجوز لها رتق ذلك الغشاء بالطب درءاً للمفسدة التي تترتب ولو في المآل على عدم ذلك الرتق، ويجوز للطبيب فعل ذلك ولو بالأجر، أما إذا اشتهرت بالزنا والعياذ بالله، أو حدت فيه فلا يجوز ذلك لانتفاء العلة." اهـ كلام فضيلته .
وسئل فضيلة الدكتور البوطي: "أليس الإفتاء برتق غشاء البكارة واحداً من الأسباب التي تهوّن الوقوع في الخطأ؟" فأجاب فضيلته: "أرأيت لو أن فتاة مستقيمة خطبت إلى شاب مثلها، وكانت قد انزلقت يوماً ما إلى ارتكاب فاحشة، ثم تابت إلى الله توبة نصوحا، أفيجب عليها أن تكشف سترها لهذا الشاب.. الجواب أنه كما لا يجب على الشاب أن يتحدث عن انحرافاته الماضية التي تاب عنها، فكذلك الفتاة لا يجب عليها ذلك، لأن معصية الرجل والمرأة في ميزان الله تعالى سواء.
فإذا كان هذا واضحاً، فإن ترميم الفتاة التائبة بصدق بكارتها سترا لنفسها، داخل في الحكم ذاته، هذا بقطع النظر عن أن هذا الترميم فيه عون كبير على استقامتها، في حين أن منعها من ذلك وإلجائها إلى طريق الفضيحة، من أخطر أسباب الانحراف إلى الرذيلة والموبقات." اهـ باختصار يسير.( مع الناس مشورات وفتاوى . د. محمد سعيد رمضان البوطي. ص 134).
آلام المغتصبة أشد
وإذا كان الشرع – في فقه سيدنا عمر رضي الله عنه- قد ألغى ما قد يتوهم من غش الخاطب فيما إذا لم يُخبر بأن من يخطبها قد سبق لها أن زنت، ويعد هذا الذنب هو أمر خاص بالفتاة متى تابت عنه، واستقامت، فقد يقال إن من اغتصبت فزالت بكارتها هي أولى بأن تستر على نفسها، فهي ضحية ومعتدى عليها، لكن ماذا عن الأثر النفسي الذي يتركه الاغتصاب في نفس المغتصبة، والذي يؤثر على قدرتها على القيام بحق الزوج الخاص؟، هل يجعل من الواجب عليها أن تخبر الخاطب بما حصل لها ليعينها على تجاوزه نفسياً؟.
لست من أهل الإفتاء إنما أطرح المسألة للمناقشة لا التقرير، هذا الأثر النفسي هل يمكن معالجته بسرية تامة، وبدون حاجة إلى معونة الزوج؟، هذا ما ينبغي أن يجيب عنه الأطباء، فإذا كان ذلك ممكناً فينبغي أن يكون القول بالستر واجباً، لكن إذا لم يكن من الممكن معالجته، فما هو الحكم؟، وهل يقال إن الزوجة ليس لها أن تخبر الزوج بما جرى لها، ويعالج الأمر على أنه عرض نفسي طارىء، لكن لماذا نحمّل الزوج العبء النفسي والمادي لعلاج الزوجة، أليس هذا ضرر يلحق به لا ذنب له فيه؟.
اجتهادات مغايرة
لقد اقتصرت في السطور السابقة على طرح المسألة من حيث اتصالها بفقه سيدنا عمر- رضي الله عنه-، وإلا فإن لبعض المعاصرين أقوالاً واجتهادات بعضها يختلف مع فقه سيدنا عمر –رضي الله عنه- في التأصيل ويتفق في النتيجة، وبعضها يختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل والنتيجة.
من القسم الأول: أي من الفتاوى التي تختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل وتتفق في النتيجة الفتوى التي صدرت عن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الـ 18 من 9 إلى 14 تموز 2007م، ونصها: «يجوز رتق غشاء البكارة الذي تمزق بسبب حادث أو اغتصاب أو إكراه، ولا يجوز شرعاً رتق الغشاء المتمزق بسبب الفاحشة، سدا لذريعة الفساد والتدليس، ويستثنى من هذا الحكم ما إذا غلب على الظن أن عدم الرتق يؤدي إلى مفسدة عظمى، فإنه يجوز إجراء عملية الترقيع، كما هو الحال في أعرافنا، فإن الفتاة إذا اكتشف ليلة زفافها أنها فاقدة للعذرية تطلق، وفي طلاقها مفسدة لها وعار لأهلها، وقد يؤدي الأمر إلى قتلها من قبل ذويها، وفي حال وجود مفسدتين ترتكب الأخف دفعا للعظمى. ( جريدة عكاظ / 29 أكتوبر 2009) .
وتتفق فتوى الدكتور سلمان العودة مع فتوى مجمع الفقه الإسلامي في إجازة مثل هذه العملية درءا لمفسدة ما يسمى جرائم الشرف، وهي مفسدة عظيمة، يقول: «عملية ترميم غشاء البكارة فيها خلاف بين الفقهاء، والذي أميل إليه أنه إذا وجدت التوبة عند الفتاة، فإنه يجوز لها أن تفعل ذلك حفاظاً على نفسها، وعلى حياتها، وعلى مستقبلها؛ لأنه من النساء من تقتل، وأنا أعرف منظمة عالمية ذكرت أن خمسة آلاف امرأة تقتل سنويا بسبب هذا الأمر، أو ما يسمى بجرائم الشرف". (موقع الإسلام اليوم http://islamtoday.net/salman/artshow-78-121971.htm)
ومن القسم الثاني: أي من الفتاوى التي تختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل والنتيجة: ما ذهب إليه أ. د حسين حامد حسان رئيس مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عضو المجامع الفقهية من منع مثل هذه العملية، قال: إن فتح الباب في هذه العمليات يؤدي إلى فساد عظيم بل إنها تجر إلى مفاسد أكبر من منفعة الستر، ومن ذلك الغش والتدليس على الزوج، مشيراً إلى ضرورة أن يبين ولي الأمر للخاطب ما حصل لابنته في حال إجراء عملية الترقيع، وأضاف: ولقد سبق وصادفتني عدة حالات لفتيات أخفين على خطبائهن حقيقة بكارتهن فاكتشف الزوج ذلك فحدث الطلاق وتبعت ذلك آثار سلبية عظمى.
وعلل فضيلته سبب رفضه لتلك العمليات لأنه لا يبرر الستر على الجريمة بارتكاب جريمة أخرى فسد الذرائع ومنع المفاسد مقدم على كل ما سواه، وأضاف: أعتقد أن مثل هذه الفتاوى تقلل من قيمة العفاف والطهر رغم قيمتهما الكبيرة ( جريدة عكاظ /29 أكتوبر 2009).اهـ النقل باختصار.
وكلام فضيلته قد سبقت مناقشته في ثنايا المقال، فالكلام على الغش والتدليس على الزوج تعارضه النصوص التي تأمر بالستر، وتجعل الذنب أمراً خاصاً بين العبد وربه، ليس من حق أقرب الناس الاطلاع عليه، والكلام على أن هذا الباب يجر الفساد، ويقلل من أهمية العفاف والستر يرده أن قفل هذا الباب يشجع على الإعراض عن التوبة، ويحرم من أرادت الاستقامة من بداية جديدة في حياتها طاهرة، عزيزة، بستر الله ومغفرته وتوبته.
لقد جعل الإسلام مساحة كبيرة للفرد المسلم للإصلاح، وبنى أحكامه على التعامل مع المسلم تعاملاً يؤكد على احترام المسؤولية الفردية، ويشدد على ثقافة الستر، ويعزز ثقة المسلم بنفسه، وبقدرته على أن يكون فردا صالحا مهما ارتكب من خطايا، وسد الباب أمام ذلك هو مجافاة لروح الإسلام، وميزة عظمى من مزاياه كما أفهم. والله أعلم.
كاتبة وباحثة شرعية بالمملكة العربية السعودية، ويمكنك مطالعة مدونتها http://www.mudawala.blogspot.com
Read more: http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1264250016742&pagename=Zone-Arabic-AdamEve%2FAEALayout#ixzz0evcpPBus
التعليق
أعتبر هذا البحث رسالة لبناتنا اللواتي يتخبطن بين ثقافات تسيئ لفهمهن و تضع رقابهن دوما تحت المقصلة ، فالثقافة الغربية تدعوهن للإعتراف بماضيهن ، و كأن ذلك سيخلصهن من رواسب نفسية خطيرة ، فيما الإعتراف في الغالب يقودهن إلى أحد الموتين، إما القتل الجسدي، أو المعنوي و الشعور الدائم بالذنب. أما ثقافة المجتمع الظالمة فهي تجعل المرأة في مصاف بائعات الهوى إن زلت أو أغتصبت و كانت ضحية، نرى هنا الكاتبة و قد أخرجت درر الإسلام الإنسانية التي يرفض " إسلاميو" اليوم الإعتراف بها... فليت بناتنا يتعظن و يتصرفن بالحكمة التي يجب الإلتزام بها، و ليت الأهل ايضا يسلكون سلوكا راقيا مع بناتهم سواء كن ضحايا إغتصاب أو ضحايا رجال بلا ضمير....
و للحديث بقية .....
و للحديث بقية .....