جدّد الأدب ولم تمنحه بلاده أي مكافأة
الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي
يفوز بجائزة "غونكور" للشعر 2009
توّج الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي مسيرته الأدبية بجائزة رفيعة، حظي بها قبله الروائي المغربي الطاهر بن جلون عام 1987، فقد أعلنت أكاديمية "غونكور" أن اللعبي فاز بـ"جائزة غونكور 2009" للشعر، وأوضح البيان الصادر عن المؤسسة يوم الثلثاء الأول من كانون الأول الحالي أن الشاعر فاز بهذا التقدير الأدبي الكبير "عن مجموع أعماله" التي صدرت عن منشورات "لاديفيرانس "، مضيفا أنه "سيتسلم هذه الجائزة خلال حفل ينظم يوم 12 كانون الثاني 2010". وقد ضمت اللجنة التحكيمية الطاهر بن جلون، فرنسواز شاردينرناغور، باتريك رامبو، ميشال تورنييه، إدمون شارل رو، روبير ساباتييه، خورخي سامبران، وفرنسواز مالي جوريس، برنار بيفو، وديدييه دوكوان.
وكان سبق للعبي، الذي لم تمنحه بلاده أي جائزة، أن فاز قبل ثلاث سنوات بجائزة الشاعر الفرنسي آلان بوسكيه، وأعرب صاحب "تجاعيد الأسد" عن تأثره البالغ بالتفاتة مؤسسة "غونكور"، وعن عدم توقعه الفوز بجائزتها.
تعود حكاية هذه الجائزة العالمية إلى أواخر القرن التاسع عشر حيث قرر الأخوان إدمون وجون غونكور إنشاء مشروع أدبي كبير اعتمادا على الأرباح المتحققة من مهنة المحاماة، وقد جاء في يوميّات ادمون غونكور التي كتبها عام 1884: "بودي خلق مجمع يضمن العيش الكريم لعشرة أدباء، أجبرهم فقرهم على إضاعة مواهبهم الأدبية والعمل في مكاتب الوزارات والمهن التافهة".
إنها فكرة نبيلة هدفها توفير جو ملائم للشعراء وإعفاؤهم من مزاولة مهمات لا يرغبون فيها من أجل الحصول على قليل من المال، ذلك أن الوظيفة تحد من طموحات الكاتب وتضعف تركيزه وتشغله عن أدبه. لكن ادمون غونكور تخلّى في ما بعد عن هذه الوصيّة، وحرّر وصيّة أخرى يهب فيها جميع أمواله وعقاراته وممتلكاته لألفونس دودي وليون هانيك من أجل أن يؤسسا مجمعاً أدبياً تحت اسم "مؤسسة غونكور"، على أساس ألا يعهد بهذه المؤسسة إلى رجال السياسة، وأن يقوم الوصيّان بتنفيذ الخطة التي رسمها لهما في وصيته الثانية.
إلا أن عراقيل كثيرة ستنشأ أمام أمنية الأخوين غونكور، فقد توفى جول وهو في عز شبابه، مما جعل إدمون يطوف وحيدا بحلمه الكبير، ثم إن أقرباءه رفضوا تطبيق وصيته، إذ رأوا في ذلك تبذيرا للمال على أمور لا طائل منها، ولجأوا إلى القضاء الذي سيحسم لمصلحة إدمون، وبذلك تأسست الجمعية الأدبية لجائزة غونكور عام 1902، وكان أول فائز بها الروائي جان أنطوان عن روايته "قوة عدوة"، في الحادي والعشرين من كانون الأول 1903.
تعتبر هذه الجائزة هي الأرفع في فرنسا، ولا تكتسب هذه الأهمية من قيمتها المادية، بل من القيمة الرمزية لها في المجتمع الفرنسي، إضافة إلى كونها ترفع سقف مبيعات الفائز بها إلى أرقام كبيرة، وكان فاز بها من العرب، الى الطاهر بن جلون عن رواية "الليلة المقدّسة"، أمين معلوف عن رواية "صخرة طانيوس" (1993)، إضافة إلى العديد من الكتاب آخرهم الأفغاني عتيق رحيمي والفرنسي جيل لوروا، والسنغالية الأصل ماري ندياي، والأميركي جوناثان ليتل.
كتب عبد اللطيف اللعبي الرواية والنقد الأدبي والمسرح والترجمة وأدب الأطفال، وله أكثر من 30 إصدارا في هذه الحقول، إلا أنه اشتهر في الأوساط الثقافية كشاعر مشغول بالكشف عن المسافات الفاصلة بين الإنسان وأبعاده الوجودية، لذلك فإن معظم نصوصه تولدت من تجارب شخصية بدأت بالحلم اليساري وترعرت في ظلام الزنازين والسجون المغربية التي كانت مهيأة لإقامة حفلات سوريالية خاصة بمعتقلي الرأي، وقد وجد الشاعر نفسه في فترة لاحقة معنيا بالتأمل في العديد من الأسئلة الملتبسة والحارقة.
ولد اللعبي عام 1942 في مدينة فاس، وبدأ يكتب مبكرا منذ عامه الرابع عشر فور اطلاعه على روايات الروسي دوستويفسكي، وحصل على الإجازة في الأدب الفرنسي عام 1964 من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، وقد اشتغل بالتعليم الثانوي في العاصمة إلى أن تم اعتقاله عام 1972، وحكمت عليه محكمة الدار البيضاء بعد عام ونصف عام من الاعتقال بعشر سنين سجنا بتهمة المس بأمن الدولة، نفّذ منها ثماني سنوات ثم غادر مباشرة فور خروجه من السجن إلى فرنسا. يقول عن تلك التجربة: "ما الذي يمكن أسيراً أن يقول عن أغلاله عن أسفار التكوين الزائفة هذه التي يجد نفسه في منتهاها في السفينة نفسها ذات الثقوب صحبة الرفاق أنفسهم الذين يقاسمونه الحظ العاثر مخدرين متطلعين بلا جدوى إلى الأرض الموعودة؟".
في فرنسا حصل على ديبلوم الدراسات المعمقة عام 1985 من جامعة بوردو، وحين قرر الرجوع إلى المغرب من أجل تجديد إقامته خاب أمله فعاد إلى فرنسا، ليمضي السنين مثل طائر مهاجر يتنقل بحسب الفصول بين باريس وبلاده التي قال عنها: "ليست بلادا تلك التي تسمّن الأوغاد وتهبهم السيف والميزان معا".
أسس اللعبي رفقة محمد خير الدين والنيسابوري عام 1966 مجلة "أنفاس" التي قال عنها زعيم السورياليين أندره بروتون حين تصفحها: "من هنا ستبدأ الثورة"، إلا أن هذه المجلة توقف بعد ست سنوات من صدورها، كما أسس في 1968 مع ابراهام السرفاتي "جمعية البحث الثقافي"، إضافة إلى إشرافه في الفترة نفسها على منشورات "أطلانطا".
كان اللعبي أول من ترجم الشعر الفلسطيني إلى الفرنسية بدءا بمحمود درويش وسميح القاسم، كما قدم أكبر الأدباء العرب إلى القارئ الفرنسي مثل محمد الماغوط، عبد الوهاب البياتي، حنا مينة، غسان كنفاني وغيرهم، وأعدّ في ما مضى أنطولوجيا عن شعر المقاومة، وأصدر قبل سنوات أنطولوجيا للشعر المغربي المعاصر بالعربية والفرنسية والأمازيغية، أثارت الكثير من الجدال.
من أعماله الروائية: "العين والليل" (1969)، "طريق المحاكمات" (1982)، "تجاعيد الأسد" (1989)، ومن مسرحياته: "قاضي الظل" (1994)، "تمارين على التسامح" (1993).
أما أعماله الشعرية فعديدة من بينها: "سلالة" (1974)،" أزهرت شجرة الحديد" (1974)، "عهد البربرية" (1980)، "قصة مصلوبي الأمل السبعة" (1980) "خطاب فوق الهضبة العربية" (1985)، "جميع التمزقات" (1990)، "الشمس تحتضر" (1992)، "احتضان العالم" (1993)، "شجون الدار البيضاء" (1996)، "شذرات من سفر تكوين منسي" (1998).
على رغم شهرته الواسعة وخصوصا في أوروبا و الدول الفرنكوفونية إلا أن صاحب "مجنون الأمل" يعتبر نفسه شاعر هامش، لا شاعر مركز: "سأبقى دائماً أطرح اقتناعاتي في كل قضية من القضايا السياسية والثقافية من داخل الهامش الذي أعيش فيه، لم أنخرط لا في الدولة ولا في الأحزاب، بقيت في الهامش الخصب، وربما يكون هذا الهامش هو المركز، لأنه مجال الحرية، والحرية هي مركز القيم". نجد هذه الفكرة تتحرك شعريا في ديوانه "شذرات من سفر تكوين منسي" إذ يقول: "إنني هنا في الهامش الذي اختارني ماسكا الزهرة التي نمت في الاسمنت".
لعل هذا الاقتناع هو ما يفسر بقاء اللعبي بعيدا من المناصب السياسية الكبيرة في الدولة، تلك التي منحت كتعويض عن سنوات الاعتقال الجائر لرفاقه في السجن. لقد فضل الرجل أن يبقى شاعرا ربما وفاءً، من حيث يدري أو لا يدري، لحلم إدمون غونكور وخصوصاً أنه حاز هذه السنة، الجائزة التي تحمل اسمه.
الرباط - من عبد الرحيم الخصار
http://www.annahar.com/content.php?priority=7&table=madaniat&type=madaniat&day=Fri