سرديات عودة
فصل من رواية " الأسماك تضيء ليلا" لمحمد سامي البوهي (الثلاثاء 2 ك1 2014)
"ممرات الملح و الماء" نزع "الأزميل" المغروس فى رأس "نور"، وسحبنى من يدى إلى غابة من أشجار لم أرها من قبل، كانت كل شجرة تحمل وجه "نور" بدقة متناهية، وكأن يدًا واحدة هى من صنعت كل هذا فى وقت واحد، وفى لحظة واحدة، كانت الغابة كلها تضمخ برائحة دخان الحشيش، و بوجه نور، ووجه آخر صغير لم يكتمل بعد. صعدت إلى الفنار لأجهزه لاستقبال الليل المقبل بعد زوال الشمس، كانت الرياح تصارع " الراية" على السارى ، حتى تخلى عنها وثاقها وطارت بعيدًا، ثم سقطت فى الماء، لم أسقط أبدًا فى الماء رغمًا عني، فقد كنت أمخر بـ"سمبكي" الصغير(24) بين ممرات الملح وكأننى حلم يمد ذراعيه ليحتضن البحيرة بكل ما فيها، أرتدى مريولى الرمادى وأضع حقيبة كتبى بين كتفيّ، وأخرج من كوخنا أقبل يد أبى الجالس على "المصطبة" يغزل شباك "الدّورة"(25) و "اللقافات"(26)، و"الجوابي"، تفتح أمى النافذة لتزفنى بدعواتها، و نصائحها، و تعليماتها المعتادة، قبل أن أقف على رأس قاربي، لأدفعه ببوصتى الطويلة إلى الأمام، تجاه المدرسة، أصف قاربى فى ممر الماء جوار عشرات القوارب التى أتت من كل الجزر المجاورة، وأصطف أنا جوار عشرات التلاميذ، نضرب أقدامنا فى الأرض، و نسمع الموسيقى، ونردد النشيد الوطني، ونُحيى "العَلّم" ثم ننتشر فى الفصول، يجلس كل منا جوار الآخر، تجمعنا لغة واحدة، و مهنة واحدة، ورزق واحد، ورائحة واحدة تنفذ من أفواهنا وملابسنا، وملامح عقدها الماء بين قسماتنا و مآقينا، وأناملنا النحيفة، التى تنتهى بأظافر تراكمت تحتها بقايا الطين و الملح، أرسم بحارًا فوق سفينة، أكتب حرفًا، رقمًا، وأغني، ثم أعود من حيث أتيت. خلعت مريولى وعلقته على مسمار يبرز من الجدار، وارتديت الصديري، وقبعتى الدلو، ثم وضعت أمى فى جيبى قبضة سكر، لأغير بها طعم فمى كلما جف ريقى من هبو الملح، بينما ناولنى أبى "جوبيا" فارغة لأرقدها فى الماء فى مكان لا يعلمه إلا أنا، وهو يسألنى عن المدرسة، ودروسى الجديدة التى درستها، اطمأن لهندامى وشد على يدى بقوة، ثم عاد إلى مصطبته ليواصل غزل، وترقيع الشباك، انطلقت بقاربى متجهًا إلى حقول الملح، كنت قد رقدّت "الجوبيا" فى وجه التيار جوار حلقة من البوص الأخضر، لأعود إلى انتشالها بعد انتهائى من العمل فى الأرض البيضاء، كما يطلقون عليها هنا، فهى أرض ليست بالجليد، وليست بالحليب، بل هى أرض قاسية، تأكل الجلود، وتنخر الأنوف، و تذبح الصدور، لكنها فى النهاية تجود علينا بالرزق، كما يجود البحر. ماذا لو سقطت حبة سكر بين تلال الملح؟!. سؤال ظل يلح علىّ كلما باغتُ لسانى الجاف بحفنة سكر، فشرب الماء بين تلك الحقول يزيد العطش، والتوقف عن العمل قبل أن ننتهى من تعبئة كوم الملح الأخير يجلب النحس، لذلك كان يجب ألا أرحل قبل أن أطمئن بأن كل شيء على ما يرام، فتلال الملح حتمًا تطرد الشياطين أما إذا أهملت فإننا لن نسلم من لعنتها، أخبرنى أبى يوم أتى بى إلى هنا بأن التعساء وحدهم هم من منحوا تلك الأرض ملوحتها بعرقهم، ودموعهم، وأجسادهم التى تحللت عقب الموت، أما الأغنياء فقد خلقوا ليتذوقوا فقط..حلو ، مر، مالح، حامض، كل شيء، لذلك فالكل هنا اعتاد أن يخلع نعليه تقديسًا لأصحاب تلك الحقول البيضاء الممتدة. انتشلت "الجوبيا" من مرقدها، فأضاء "الشبار" الفضى الذى يتقافز داخلها حزنًا، فرحًا لا أعلم، خلصته من بين الشباك، ووضعته فى مقطفى الخوص المفروش بعيدان البردي، دون عدّ حصيلة الصيد، فإحصاء الرزق يُذهب البركة. وصلت إلى كوخنا، فرأيت أمى تجلس أمام الفرن البلدى تُخرج خبزًا ناضجًا، أما أختى و بنات الجيران، فجلسن خلفها يضربن العجين بأناملهن على "المطارح" الخشبية، وضعت مقطف "الشبار" و "الجوبيا" الفارغة جوار أبي، ووقفت أتفرج، فالجائع فى كوخنا لا يبوح بجوعه أبدًا لكن سرعان ما تكشفه عيناه، انتبهت لى أمى ودون أن تتكلم ناولتنى رغيفًا طازجًا_ أممممم!_ إذا أردت أن تدرك قيمة الحياة، فعليك أن تستنشق رائحة القمح المطبوخ، نثرت داخله ما تبقى فى جيبى من سكر، والتهمته عن آخره، سألنى أبى إن كنت قد أحصيت صيدى أم لا؟، فأجبته بأن إحصاء الرزق يُذهب البركة، فابتسم ومسح على شعري، ونهض من مكانه وألقاه فى "برميل" الثلج حتى يأتى الصباح وتحمله أمى على رأسها لبيعه إلى زبائن الطريق، فى هذا الوقت كان أقصى طموحاتى أن "أسرح" مع أبى إلى البحر، وأعود برزق يفوق ما يلتقطه هو، ثم صعد الحلم قليلًا فتمنيت أن أمتلك "لقافة" كبيرة، أجوب بشراعها البحيرة كلها، وأصطاد السمك من كل جنس ولون، وأصبح "ريسًا " يهابه الجميع، يوجه "الدفة" كيفما شاء، و يلقى بأوامره على صياديه، ويعدل قسمة أرزاقهم ، لكن الحلم ظل يكبر و يكبر و يكبر حتى وصل بى إلى أكثر مما ينبغي، فحينما تصل أحلامك إلى أكثر مما ينبغى تتحول ذنوبك الصغيرة إلى غول ضخم يتربص بك ليقتلك.
التعليق
"ممرات الملح و الماء" نزع "الأزميل" المغروس فى رأس "نور"، وسحبنى من يدى إلى غابة من أشجار لم أرها من قبل، كانت كل شجرة تحمل وجه "نور" بدقة متناهية، وكأن يدًا واحدة هى من صنعت كل هذا فى وقت واحد، وفى لحظة واحدة، كانت الغابة كلها تضمخ برائحة دخان الحشيش، و بوجه نور، ووجه آخر صغير لم يكتمل بعد. صعدت إلى الفنار لأجهزه لاستقبال الليل المقبل بعد زوال الشمس، كانت الرياح تصارع " الراية" على السارى ، حتى تخلى عنها وثاقها وطارت بعيدًا، ثم سقطت فى الماء، لم أسقط أبدًا فى الماء رغمًا عني، فقد كنت أمخر بـ"سمبكي" الصغير(24) بين ممرات الملح وكأننى حلم يمد ذراعيه ليحتضن البحيرة بكل ما فيها، أرتدى مريولى الرمادى وأضع حقيبة كتبى بين كتفيّ، وأخرج من كوخنا أقبل يد أبى الجالس على "المصطبة" يغزل شباك "الدّورة"(25) و "اللقافات"(26)، و"الجوابي"، تفتح أمى النافذة لتزفنى بدعواتها، و نصائحها، و تعليماتها المعتادة، قبل أن أقف على رأس قاربي، لأدفعه ببوصتى الطويلة إلى الأمام، تجاه المدرسة، أصف قاربى فى ممر الماء جوار عشرات القوارب التى أتت من كل الجزر المجاورة، وأصطف أنا جوار عشرات التلاميذ، نضرب أقدامنا فى الأرض، و نسمع الموسيقى، ونردد النشيد الوطني، ونُحيى "العَلّم" ثم ننتشر فى الفصول، يجلس كل منا جوار الآخر، تجمعنا لغة واحدة، و مهنة واحدة، ورزق واحد، ورائحة واحدة تنفذ من أفواهنا وملابسنا، وملامح عقدها الماء بين قسماتنا و مآقينا، وأناملنا النحيفة، التى تنتهى بأظافر تراكمت تحتها بقايا الطين و الملح، أرسم بحارًا فوق سفينة، أكتب حرفًا، رقمًا، وأغني، ثم أعود من حيث أتيت. خلعت مريولى وعلقته على مسمار يبرز من الجدار، وارتديت الصديري، وقبعتى الدلو، ثم وضعت أمى فى جيبى قبضة سكر، لأغير بها طعم فمى كلما جف ريقى من هبو الملح، بينما ناولنى أبى "جوبيا" فارغة لأرقدها فى الماء فى مكان لا يعلمه إلا أنا، وهو يسألنى عن المدرسة، ودروسى الجديدة التى درستها، اطمأن لهندامى وشد على يدى بقوة، ثم عاد إلى مصطبته ليواصل غزل، وترقيع الشباك، انطلقت بقاربى متجهًا إلى حقول الملح، كنت قد رقدّت "الجوبيا" فى وجه التيار جوار حلقة من البوص الأخضر، لأعود إلى انتشالها بعد انتهائى من العمل فى الأرض البيضاء، كما يطلقون عليها هنا، فهى أرض ليست بالجليد، وليست بالحليب، بل هى أرض قاسية، تأكل الجلود، وتنخر الأنوف، و تذبح الصدور، لكنها فى النهاية تجود علينا بالرزق، كما يجود البحر. ماذا لو سقطت حبة سكر بين تلال الملح؟!. سؤال ظل يلح علىّ كلما باغتُ لسانى الجاف بحفنة سكر، فشرب الماء بين تلك الحقول يزيد العطش، والتوقف عن العمل قبل أن ننتهى من تعبئة كوم الملح الأخير يجلب النحس، لذلك كان يجب ألا أرحل قبل أن أطمئن بأن كل شيء على ما يرام، فتلال الملح حتمًا تطرد الشياطين أما إذا أهملت فإننا لن نسلم من لعنتها، أخبرنى أبى يوم أتى بى إلى هنا بأن التعساء وحدهم هم من منحوا تلك الأرض ملوحتها بعرقهم، ودموعهم، وأجسادهم التى تحللت عقب الموت، أما الأغنياء فقد خلقوا ليتذوقوا فقط..حلو ، مر، مالح، حامض، كل شيء، لذلك فالكل هنا اعتاد أن يخلع نعليه تقديسًا لأصحاب تلك الحقول البيضاء الممتدة. انتشلت "الجوبيا" من مرقدها، فأضاء "الشبار" الفضى الذى يتقافز داخلها حزنًا، فرحًا لا أعلم، خلصته من بين الشباك، ووضعته فى مقطفى الخوص المفروش بعيدان البردي، دون عدّ حصيلة الصيد، فإحصاء الرزق يُذهب البركة. وصلت إلى كوخنا، فرأيت أمى تجلس أمام الفرن البلدى تُخرج خبزًا ناضجًا، أما أختى و بنات الجيران، فجلسن خلفها يضربن العجين بأناملهن على "المطارح" الخشبية، وضعت مقطف "الشبار" و "الجوبيا" الفارغة جوار أبي، ووقفت أتفرج، فالجائع فى كوخنا لا يبوح بجوعه أبدًا لكن سرعان ما تكشفه عيناه، انتبهت لى أمى ودون أن تتكلم ناولتنى رغيفًا طازجًا_ أممممم!_ إذا أردت أن تدرك قيمة الحياة، فعليك أن تستنشق رائحة القمح المطبوخ، نثرت داخله ما تبقى فى جيبى من سكر، والتهمته عن آخره، سألنى أبى إن كنت قد أحصيت صيدى أم لا؟، فأجبته بأن إحصاء الرزق يُذهب البركة، فابتسم ومسح على شعري، ونهض من مكانه وألقاه فى "برميل" الثلج حتى يأتى الصباح وتحمله أمى على رأسها لبيعه إلى زبائن الطريق، فى هذا الوقت كان أقصى طموحاتى أن "أسرح" مع أبى إلى البحر، وأعود برزق يفوق ما يلتقطه هو، ثم صعد الحلم قليلًا فتمنيت أن أمتلك "لقافة" كبيرة، أجوب بشراعها البحيرة كلها، وأصطاد السمك من كل جنس ولون، وأصبح "ريسًا " يهابه الجميع، يوجه "الدفة" كيفما شاء، و يلقى بأوامره على صياديه، ويعدل قسمة أرزاقهم ، لكن الحلم ظل يكبر و يكبر و يكبر حتى وصل بى إلى أكثر مما ينبغي، فحينما تصل أحلامك إلى أكثر مما ينبغى تتحول ذنوبك الصغيرة إلى غول ضخم يتربص بك ليقتلك.
التعليق