غالباً ما يقول الفرنكفونيون اللبنانيون أن الفرنسية لم تأت مع الغزو ولا مع الاستعمار. لقد كانت من لغات لبنان قبل الانتداب لذا لا يتشاطر الكاتب الفرنكفوني اللبناني مع كاتب ياسين ومحمد ديب وسواهما عقدة الذنب التي طالما أرقتهم، من تبنّي لغة الغالب والاقتلاع من الثقافة الأم واللغة الأم. اللبنانيون أحرار متصالحون مع أنفسهم حين يتكلمون ويكتبون الفرنسية، لكن واحدة من ميزات لبنان هي الجمع بلا تضارب، بين العربية والفرنسية. ثنائية اللغة ميزة وستكون ثلاثية اللغة، بإضافة الانكليزية بعد ذلك، ميزة أكبر. كثير من الذين امتلكوا ناصية الفرنسية امتلكوا ناصية العربية ايضا والأمثلة كثيرة. يحضرني، بلا بحث، اسم انطون غطاس كرم والياس أبو شبكة قبله. يمكن الكلام، بلا حرج، عن وسط ثقافي ثنائي اللغة أو نخبة بهذه الصفة.
السؤال اليوم عما اذا كان الوضع لم يزل كذلك فلا زال لبنان معتدا بمقامه في اللغتين، أم ان الفرنكفونية تنحو، بسبب ظروف سياسية واجتماعية، إلى أحادية لغوية. لنا أن نتساءل اذا كانت الفرنكفونية تسهم بعد، بفعالية في ثقافة جامعة أم انها تتحول إلى أقلية ثقافية ولغوية. وفي غمرة الانقسامات اللبنانية، لا تجد دافعا قويا لكي تتخطى أقلويتها، فهي، كما نعلم، أقلية نشطة وحيوية وفعاليتها الثقافية لا تقاس بحجمها العددي، اذ قد تتساوى من هذه الناحية، كما وحجما، بالأكثرية مجتمعة.
هل تتحول الأقلية الثقافية إلى ارستقراطية ثقافية. بل إلى أقلية اجتماعية. هل تتحول، كما يسمونها اليوم وتسمي أحيانا نفسها، إلى غيتو. هكذا يتحول الازدواج اللغوي الذي طبع الثقافة في لبنان إلى انقسام لغوي. سيكون ذلك جزءا من التردي اللبناني المتفاقم على هذا الصعيد. لكن ذلك، إذا، حدث، سيدين إلى الضعف لا إلى القوة.
تحدث الجميع في هذا المحور عن تراجع الفرنكفونية، وترديها كلغة وكأدب في لبنان، فليس الانكماش إذا من سمات القوة ولا النمو. لم يتطرق باحث إلى ما جرته الحرب اللبنانية على الفرنكفونية من هذه الناحية. لكن كثيرين يقارنون بين فرنكفونية اليوم والفرنكفونية في عهدها الذهبي الأول. يتحسرون على أمثال جورج شحاده وغبريال نفلاع وصلاح ستيتية على الرغم من انه لا يزال نشطاً. يقارنون في الغالب بين الانكليزية والفرنسية ويقيسون تراجع الثانية على تقدم الأولى. لكن لا تخطر لأحد المقارنة نفسها بين الفرنسية والعربية، أدبياً على الأقل، والنتيجة حينذاك قد تكذب الظن. رغم أمين معلوف، الذي يتردد ذكره غير مرة في تضاعيف هذا المحور، نمت العربية نسبيا في لبنان بمقدار لم تستطعه الفرنسية. لقد أثرت الحرب فيها، إذا كانت الحرب هي السبب، أكثر مما أثرت في العربية وأصابها منها أكثر مما أصاب العربية. يمكننا ان نتكلم عن ازدهار أدبي على مستوى العربية وربما لا يصح القول نفسه على مستوى الفرنسية. لقد غدت العربية أكثر لغة الثقافة في لبنان فيما لم يعد الحال هو نفسه بالنسبة للفرنسية. دخلت العربية بالقياس الى نفسها، حيزا من التجريب والتجديد لا يبدو أن الفرنسية دخلته بالمقياس نفسه. مع ذلك قد لا يكون ذلك سوى الظاهر وحده. قد يكون مفهوم الانتاج الثقافي نفسه قد تغير ولم يعد الأدب او البحث المكتوب هما المقياس بالفرنسية. كيف دار الأمر، تبقى معاصرة أكثر، وما يطرأ عليها قد لا يكون، في جانب منه، سوى آثار العصر.
تتراجع الفرنسية امام الانكليزية لكن الانكليزية او الاميركية اللبنانية لم تنتج إلى الآن فيما نعلم أديباً معروفا داخل لبنان، رغم المقدمة الهائلة التي تمثلت بجبران والريحاني وأدباء المهجر الأميركي. الآن يتكلمون عن انكليزية للاتصال أكثر منها للثقافة. لا تزال الفرنسية هي ما نعنيه اكثر حين نتكلم عن ازدواج ثقافي. لكن هل علينا أن نجدد السؤال عمن هو الفرنكفوني. هل هو الذي تشكل الفرنسية لغته الأم فهي لغة الكلام والقراءة والكتابة، أم انه، بالاضافة إلى ذلك، قد يكون الذي يعرف الفرنسية ويقرأ فيها، وربما كتب، لكن العربية تبقى لغته الأم. إذا كانت واحدة من ميزات لبنان ازدواجه الثقافي واللغوي، فلماذا لا يكون هذا الازدواج بين مكونات الفرنكفونية. اذا قبلنا ذلك وقبله الفرنكفونيون بدا لنا أن الفرنكفونية ليست في حال التراجع التي يتكلمون عنها. لقد استُبطنت في الثقافة اللبنانية، فضلا عن أن جل الكتاب اللبنانيين يقرأون بالفرنسية، وغالبا أكثر مما يقرأون بالعربية، وحتى الذين لا يقرأونها يكتبون في بيئة ثقافية الفرنسية والقراءة بالفرنسية عمود فيها. لنقل أن الفرنسية، بهذا المقياس، تتوسع ثقافيا بقدر ما تتخطى الحلقة الفرنكفونية، انها حاضرة في المكتوب بالعربية حضورها في المكتوب بالفرنسية، وقد لا تكون آفاقها في الثانية أوسع من آفاقها في الأولى. لقد تشكلت العربية في لبنان على أيدي متملكين للفرنسية ولا بد أن تفاعلها مع الفرنسية، لغة وثقافة وخيالاً، شكل أساساً في جمالياتها وفنها. الآن لم يغير الانكفاء الفرنكفوني من هذا المبدأ، لا تزال القراءة بلغة أجنبية وخاصة بالفرنسية منهلاً شبه اجباري لكتاب العربية، ولا يزال الازدواج الثقافي، بهذا المعـــنى، طابعاً لأدب ولمـــمارسة ثقافــية استمدت من توسطها وانفتاحهــا وازدواجــها، اكــثر ما استــمدت، طبيعتها المجددة والحرة والنقدية.
يغيب عن الفرنكفونيين أحيانا أن الدور «الفرنكفوني» الذي لعبه كتاب العربية باللبنانيين في الثقافة العربية لا يجارى، ولا بد أنه خدم الفرنسية فوق ما تحلم وتستطيع. لقد نقل هؤلاء الثقافة الفرنسية الى ضفاف ومناطق لم تكن لتبلغها لولاهم. إذا عدنا إلى مجلة الآداب ومجلة شعر على سبيل المثال فهمنا أن الدور اللبناني الثقافي الضارب في الثقافة العربية، كان في الوقت نفسه حاملا رئيسيا للثقافة الفرنسية وبأدوات عربية ولسان عربي. في «الآداب» و«شعر» وهما مجلتان مركزيتان في الثقافة العربية وصلت الوجودية الفرنسية والرواية الفرنسية والشعر الفرنسي والفكر الفرنسي إلى عالم يجهل الفرنسية. بل بفضل الكتابة اللبنانية تم تعميم مفاهيم في الأدب والثقافة هي في أساسها فرنسية. تم تعميم أسماء فرنسية ورؤى فرنسية في الفلسفة والرواية والشعر. بل عن طريق اللبنانيين انتشرت مدرسة باريس التشكيلية في أصقاع بعيدة من العالم العربي لم تشافه بالفرنسية وما وصلتها. لقد سادت الثقافة الفرنسية والآداب الفرنسية حيث لم يكن لها موطئ ولا موقع بفضل عربية اللبنانيين مزدوجة الثقافة التي تشربت واستبطنت الفرنسية. هذه واقعة لا نعرف اذا أحسنت أم أساءت، لكن لبنان كان بوابة العرب على العالم وصدف ان هذه البوابة كانت مفتوحة على الفرنسية ودخلت منها الفرنسية إلى عالم جله غريبة عنه، ودخلت بلسان عربي وأدوات عربية. واقعة كهذه تعنينا على تجديد سؤالنا عن الفرنكفونية وتعريفنا لها. لقد دخلت الفرنسية في أساسنا الثقافي ولا نبتعد إذا قلنا أن للثقافة في لبنان وجها فرنكفونيا. ان هذا الوجه يستمر لا كميزة لبنانية فحسب ولكن كعنصر تعددي في الثقافة العربية، وقيام لبنان به انما يستمر في اطارها، وكجزء من حيويتها وتفاعلها.
عباس بيضون
الملحق الثقافي لجريدة السفير
16 أكتوبر 2009