سرديات عودة
فصل من رواية " بناية الرئيس" للكاتب المغربي مصطفى الحمداوي ( خاص فامو) (الخميس 12 حزيران 2014)
تساقط في ذلك الضحى الكئيب، ضباب رمادي كثيف على بيوت بلدة دريو الطينية الصغيرة المتناثرة على سفوح التلال الصخرية شمالا والغابة الكثيفة جنوبا. وتصادف في ذلك الضحى، كما العادة، تَجوال كوكبة من الحرس المشاة وسط السوق، وملأت أنوفَهم رائحةُ ثمار كستناء تضوع في الأجواء بشذا فواح ... وَجَّه رئيسُ الحرس فورا وجهة رفقائه ناحية باب السوق، ورأوا إسْمَسِيهْ مغمورا بدخان يتصاعد من مِجْمَر يشوي فيه الثمار الناضجة المشهية، وتجمع حوله بضعة رجال من أعمار مختلفة، تفرقوا بمجرد رؤيتهم للحرس، وواصل إسْمَسيهْ شي ثمرات الكستناء وهو يترنم بأغنية شعبية مفعمة بالحماس. تحلق الحراس حول العربة، ثم شرعوا في تناول الثمار اللذيذة بنهم، وظل إسْمَسِيهْ يشوي الكستناء بإتقانه ومهارته المشهورة، غير مكترث بزواره الثُقُلِ الذين انهمكوا في الأكل وهم صامتون. وبعد أن انتهى رئيس الحرس من التهام آخر ثمرة كستناء، نظر إلى إسْمَسِيهْ ثم خاطبه بنبرة حادة:
_ لطالما حذرناك من الاجتماع بتلك الفئة من بُلْهِ الناس
ارتسمت ابتسامة هادئة على تقاطيع وجه اسمسيه الملفوح بوسامة شرقية أصيلة:
_ إنهم شرفاء ومسالمين..وحكماء أيضا.
فتل قائد الحرس، بإصبعي سبابته وإبهامه، شاربه الرث الملطخ بلون الصدأ وقال:
_ حسنا، يبدو أنك شخص عنيد كجحش.
نظر إليه إسْمَسِيهْ، وحافظ على هدوئه الكامل:
_ لن أتورط معك في ملاسنات غير لائقة..وسوف أعتبر كلامك مجرد مزحة ظريفة
ثم أضاف باسما:
_ ...مزحة ظريفة من شخص ظريف ولطيف.
تراجع قائد الحرس إلى الخلف بخطوة، وبدا أنه اسْتُفِزَّ على نحو مثير، ثم ركل العربة، بوقاحة صادمة. فتناثر الكستناء النيئ والمشوي، وتشتت على الأرض، وسقط المجمر، وانكفأت العربة الخشبية العتيقة، وكاد الجمر يلامس قدمي إسْمَسِيهْ لولا أنه تراجع قليلا إلى الوراء، ووقعَ على الجمر أحدُ المخطوطات التي جلبها معه من المنزل ليقرأها خلال عمله، واحترق المخطوط بهدوء أمام أنظاره المدهوشة. كان الضباب قد بدأ ينجلي شيئا فشيئا عن الأجواء، وبدت الحركة عادية داخل السوق، وأحدث سقوط العربة ضجة أثارت انتباه بعض المارة، فتوقفوا بفضول وهم يرون قائد الحرس سَانْوي يقهقه عاليا ثم يقول بصوت آمر:
_غَادِرْ فورا، .. لا أريد رؤيتك هنا مرة أخرى أيها الوغد... إنك تعلم جيدا بأنك ستتعفن داخل السجن، وستدفن فيه... وستفعل خيرا بنفسك لو هجرت دريو إلى الأبد..
برِح اسمسيه مكانه، وانتشر خبر طرده بسرعة في السوق، ومن ثمة امتد إلى البلدة بأكملها. التفت للمرة الأخيرة إلى الباب العتيق المَبْنِيِّ بالطوب الأحمر المشوي، والى عش اللقلق الذي نسج عشه بالقش فوق إحدى زوايا الباب العالي. وفكر في الأيام الحلوة والمرة التي قَضَّاها هنالك بائعاً ثمارَ الكستناء، وفكر في الفتيات اللواتي طالما زرنه بأناقة وزينة لا تخطئها العين. تقاذفته أحاسيس فاضت بها نفسه المثقلة بوجع غامض، وجع ظل يجاهده لوقت طويل. هل آنَ أوان الرحيل الأبدي عن بلدة دريو؟..وهل سيقتفي آثار صورة ذلك الوجه الصبوح الذي طالما تمثله في نجمة فينوس؟ خطا بين البيوت الطينية الحمراء خطواتٍ تائهةً مضطربةً دون أن يعرف وجهته ولا دواعيَ تجوله وسط البلدة التي شهدت شقاوة طفولته ومراهقته، وبداية شبابه النزق، قبل أن يستقر في باب السوق، يبيع الكستناء، ويحصل بعض النقود القليلة، نقود يشتري بأغلبها كتبا ومخطوطات نادرة كان يقرأها بشراهة ليلاً، أو في المواسم القليلة التي لا يشتغل فيها.
تنبه مذعورا لصوت فتاة جميلة، صوت فاتر لمس سمعَه همساً رخيماً شبيهاً بهبة نسمة عليلة لفحت روحه من الداخل:
_ إسْمَسِيهْ، هل حقا طردوك من السوق والبلدة؟
نظر إلى الفتاة نظرةً عميقةً، وشعر انه يودعها، وأنه لن يراها بعدُ تأتي إليه في باب سوق دريو لشراء الكستناء محملة ببعض المرح الذي يتبادلانه ببراءة أو بدونها كما كان يحدث أحيانا:
_ ليس بمقدور أحد أن يطردني يا ساروت، وإنما أنا راحل بمحض إرادتي
_عُدْ سريعا، ففي البلدة من سيفكر فيك، ومن سينتظرك دائما..
شرد ذهنه ورد بحيادية عجيبة:
لست أدري يا ساروت..لست أدري.
واصل المشي، وتابعته الفتاة بنظْرات تقطر حزنا والدموع تكاد تطفر من عينيها... تأملته جيدا، فإذا هو شاب في العشرينات من عمره، متوسط الطول، وعريض المنكبين، يرتدي قميصا أشهبَ من الكتان الخشن، ويسترسل شعره المجعد بفحولة حتى يكاد يلامس كتفيه...
_ هي لك يا اسمسيه.
رفع ناظريه إلى الأعلى، وفوجئ بالأرملة الثلاثينية الغنية رَاهْسَليتْ تلقي له بصُرة نقود من نافذة الطابق الثاني، فتلقفها بخفة، وقال:
_ لا أحتاج نقودا أيتها السيدة الطيبة، أشكرك.
_ستحتاجها في سفرك... أعرف بأنك كنت تنفق ما تكسب في شراء الكتب، بل وكنت تعطي الكستناء للجوعى والمتسولين دون مقابل.
_ أنتِ نبيلة الخلق، وسأحتفظ بودي واحترامي الشديدين لك، ولكني سأعيد نقودك إليك.
رمى صرة النقود بمهارة، فنفذت من النافذة إلى داخل حجرة رَاهْسَليتْ، وأضاف اسمسيه والأرملة الشابة تنظر إليه وكأنها ترغب في إرواء قلبها بأكبر كمية ممكنة من بهاء الشاب الباذخ في جمال روحه ووسامته اللافتة:
_ لا تنظري إلى الأسفل..انظري إلى السماء، وسترين أشياء جميلة.
صَحَا الجو، وأصبحت السماء صافية، فواصل إسمسيه السير وسط بيوت البلدة، ونظر إلى التلال الصخرية السوداء، وإلى أشجار الغابة، وفكر في نجمة فينوس، وفي فتاة استثنائية يشعر بها تناديه وترجوه المجيء إليها، وتنتظره بشغف.
سمع فتاة مراهقة تخاطبه بصوت نائح تعتصر فيه كل أحاسيسها الملتهبة، فتاة في حوالي الخامسة عشر من عمرها، تتمتع بفوران مراهقة دافئة، واندفاعا حييا يرسم حولها هالة مخلوقة ..فراشة، أو حمامة وديعة:
_ لا ترحل يا اسمسيه.. إننا نحبك أكثر من أي شيء في هذا الوجود.
وجد اسمسيه نفسه في حالة عجيبة من الحيرة، لقد اقتربت روحه من روح زهرة الجمر، وشعر بجسده يحترق بدموع الفتاة المراهقة الباهرة الجمال. كادت تقول:
_ إنني أحبك، إنني أحبك أكثر من أي شيء في هذا الوجود.
ولكنها لم تجرؤ، ووصلت رسالتها، بالوضوح الكامل، إلى أعماقه:
_ سأرحل يا زهرة الجمر، ولكنني سأُبقي الكثير مني هنا..
دخلت زهرة الجمر إلى منزلها وأغلقته بهدوء، ثم توجهت إلى حجرتها، وانخرطت في نحيب كئيب تردد صداه في أنحاء الحجرة كلها، وتسلل بعضه من النوافذ، ليتشتت عطرَ مسك حزين فوق التلال والغابة والأنحاء البعيدة...
اِنعطف إسمسيه يمينا، ورأى صانعَ الأحذية العجوزَ طافي يهرول نحوه بأنفاس متقطعة، ويتوقف مرهقا في ملابسَ من القنب مترهلة، وترتسم على وجهه تجاعيدُ عميقة تشبه بقايا طين متشقق في بركة جافة:
_أحقا طردوك من البلدة؟!
وضع اسمسيه يده على كتف العجوز الطيب الذي أضحت وجنته اليمنى ترتجف بوتيرة سريعة، ابتسم في وجهه، وخاطبه بنبرة محملة بود كبير:
_ العم طافي، بالفعل، لقد طردوني..ولكن لم يكن بوسعهم ذلك لو لم أرغب في الرحيل بمحض إرادتي.
لَفَّت الدهشة ملامح وجه طافي العريض المنكمش، وبدت عيناه الحادتان تبعثان بريقا واهنا، وقال وهو يصارع موجة حزن رهيبة:
_ لماذا تريد الرحيل يا بني؟!
_إنها مشيئة القلب أيها العم الطيب.
لم يفهم طافي شيئا، ولكنه أدرك أن إسمسيه مُصِرٌّ على الرحيل، وأن هناك سبباً غامضاً يدفعه دفعاً نحو هذا الهدف:
_خُذْ هذه الأيقونة الصغيرة، إنها مدهشة، لقد ورثتها عن أسلافي، وليس لدي أبناء يرثونها عني... وإنني لأشعر بدنو أجلي... خذها، وعلقها على عنقك، فستحميك من عثْرات الطريق، وستبعد الأشرار عنك، وستفتح الأبوابَ المغلقة كلَّها أمامك.
ضحك إسمسيه بحنو، وربت مرة أخرى على كتف العجوز طافي، وتأمل الأيقونة طويلا... إنها أيقونةٌ بحجم الإبهام عتيقةٌ من الذهب الخالص، تمثل مجسم إلهة لا يعرفها:
_هل هي أيقونة تمثل إلهة الرياح...؟!
_ لا يا ولدي، إنها الإلهة تفوشت إلهة الشمس، وسترى أن نورها سوف يرافقك في أحلك لياليك، ويغمر روحك بفيض من الطمأنينة الدائمة.
وبما أن اسمسيه لا يؤمن بالآلهة ولا ببركاتها، فانه وضع الأيقونة في يد العجوز، وقال بلباقة متناهية مخاطبا طافي الذي ظلت عيناه معلقتين على وجه اسمسيه:
_ أيها العم الطيب، اِحتفظ بها لنفسك، أنت كبير في بصرك وبصيرتك، وستعيش عمرا طويلا بقدرة الآلهة،..ولكن قد تنفعك إلهة الشمس لتنير عينيك يوم تحتاجهما
بقي العجوز يتأمل الأيقونة في يده بغرابة ممزوجة بحزن مر، واتجه إسمسيه نحو منزله، ولاحظ زهرة الجمر تمشي بعيدا بخطْوات رشيقة كحَمَل صغير، يحتويها ألقٌ ساحر، وتغمر وجهَها المدورَ الشبيهَ بالبدر خصلاتُ شعرها البني المائل إلى حمرة خفيفة، فلم يستطع إبعاد نظره عنها. اِستمرت تسير بأناقة كنسمة رقيقة تهب على أزهار أقحوان، وشعر برهبة كبيرة، وخاف خوفا عجيبا من أنوثتها المتفجرة... تتبع أثرها بدون إرادته، ورآها تجلس قرب نبع صغير، فدنا منها، ووجدها شاردة الذهن تعبث في الماء بغصنٍ أخضرَ رفيعٍ مجردٍ من أوراقه:
_طاب يومك يا زهرة الجمر.
نظرت إليه الفتاة بعيون عريضة، وبرموش نثرت دلالا ساحرا، وبفم مدور مبلل على الدوام بريق مشهي. جلس اسمسيه بجانبها، ونظر إلى الصخور، والى العصافير التي تتطاير حول جدول الماء الصغير، والى الشمس المتهادية برتابة باتجاه العَشِيَّة.
_من الأفضل أن تغادر دريو رُغم الآلام التي سأعانيها بغيابك.
صمت إسمسيه، وشعر بأنه يتورط في قصة غير واضحة المعالم، فأخرجت زهرة الجمر الغصن الأخضر الصغير من الماء، وعلقت عينيها على كرمة تين قديمة نابتة بجنب الجدول في صدع صخرة رمادية، وأصدرت تنهيدة عميقة، ثم واصلت حديثها كالحالمة:
_ لقد كنتَ لنفسك في آخر الأمر.
شعر اسمسيه بحريق يضطرم داخله، تأمل من جديد الفتاة البديعة التي تجلس بجانبه، كل شيء كان ينبت فيها كالبراعم الطرية، حتى مشاعرها الجميلة الفوارة، كل شيء فيها كان قابلا للتكسر أو الاحتراق بمجرد لمسة حانية:
_ زهرة الجمر، لا أغادر البلدة لأنني لا أحب هذه البلدة، وليس لأنني لا أجد نفسي قريبا من أجمل فتاة فيها، ولكنني أغادر تلبية لنداء غامض يأتيني من بعيد، لقد جاهدت هذا النداء لوقت طويل، ولكن حادث اليوم يعجل رحيلي.
قالت باهتمام بالغ:
_ هل أنت جائع؟
_ نعم،..لم آكل شيئا منذ الصباح.
_ حسنا لدي رغيف خبز محشو بسمك مملح..تفضل، ... تَنَاوَلْه، كنت أعرف بأنك ستكون جائعا.
_ شكرا..أحب أن آخذ في جسدي شيئا ..من هنا..قبل سفري.
غرقت زهرة الجمر في ذهول عجيب، لم تكن تعيش زمانها ومكانها، تاهت في عوالم مجهولة. أتم اسمسيه الأكل، ثم نظر من جديد إلى زهرة الجمر، وشعر برجفة تسري في أوصاله، ردد في نفسه: هل تكون هذه الفتاة هي تلك التي ظلت تتمثل لي في نجمة فينوس دون أن أدري...؟! لا، تلك الفتاة كانت دائما بعيدة ونائية، وكان ينبغي أن أسافر إليها، ولكن هل السفر إلى قلب فتاة بمثل هذا الجمال المدهش لا يعد سفرا شاقا ومضنيا؟..
ظلت عدة أفكار تتصارع في خيال إسمسيه، و أيقن في آخر الأمر بأن هذه الفتاة جزءٌ من حياته الماضية في دريو، وبأنها لن تكون مستقبله البعيد أبدا، ردد في نفسه: هناك دائما لكل زمان شخص أو أشخاص في أنفسنا، وقد تتوقف أدوار هؤلاء الأشخاص عند زمن معين، زمن غير متوقع.
_ سأودعك الآن يا اسمسيه.
_وبهذه السرعة...؟! رجوت لو استمر مكوثك معي أكثر.
_هذا السؤال كان يمكن أن يكون سؤالي الملح لك، ولكنني أدرك الآن بأن لكل مسافة نهاية، مثلما أدركت أنت ذلك قبلي بوقت طويل.
_حسنا يا زهرة الجمر، تأكدي بأنني كنت سأحاول أن تكوني لي لو أنني لم أقرر...
قاطعته زهرة الجمر بلطف:
_ لا، لقد تجاوزتُ هذا الإحساس بمساحات شاسعة، وأعرف بأننا فوتنا، على بعضنا، فرصة التلاقي في لحظة خاطفة، حين مر كل واحد منا جنب الآخر دون أن يشعره بوجوده... ألست أنت يا اسمسيه من قال هذه العبارة ذات مرة؟!
_ ولكن...
قاطعته زهرة الجمر مرة أخرى بلطف، وبنبرة كئيبة كنُواح يمامة بعيدة في غروب بعيد:
_ أرجوك، لقد انتهى كل شيء الآن، وإذا كان لا بد من وداع لطيف، فإنني أرغب في قبلة سريعة غير عميقة،.. قبلة لا تأخذني دون رجعة.
التقت شفتا اسمسيه وزهرة الجمر على نحو خاطف، وشعر اسمسيه بصعقة رجت جسده بقوة. غادرت زهرة الجمر وكأنها تفر من المكان، وتتبعها إسمسيه بعيون تسيل بالحيرة والإعجاب، فشاهد شعرها البني المائل إلى حمرة خفيفة تتلاعب به نَسْمات عشية رطبة، ورأى ردفيها يرتجان بأنوثة ناشئة مذهلة، ثم غابت عن ناظريه. شعر بدموع حارة تنساب بحرقة في أعماقه البعيدة، ووخزه إحساس بذنب تجاه فتاة كانت استثنائية في كل شيء... تأمل الشمس وهي تتهادى نحو الغروب، وانتابه شعور بأن يومه الأخير في بلدته دريو يمر سريعا على غير العادة، وبدت طيورٌ بيضاءُ تحوم فوقها، وتتطاير على علو منخفض محاذية الدور المشيدة بقوالب الطين المخلوط بالتبن، ووصل إلى أذنه خريرُ المياه المنسابة بين أحجار الجدول الصغير، وشعر بسعادة ممزوجة بحزن غامض يكتنفه، وشعر برهبة غريبة، وتساءل في حيرة:
_هل هي رهبة السفر؟ أم رهبة لقاء الفتاة التي أتمثلها دائما في نجمة فينوس...؟
قام من مكانه، وجلس في مكان زهرة الجمر، فاهتز شيءٌ ما بداخله، وشعر كأن المكان مسكون بروح الفتاة العبقة برحيق فردوسي غريب... نظر إلى البلدة من الأعلى، فشاهدها تغرق في لون الشفق البرتقالي المتوهج، وتكسر الصمت بشدو عصافيرَ صغيرة بدأت تبحث لنفسها عن مكان آمن للمبيت، ورأى قرص الشمس الأحمر يحاذي التلال، وفكر في تفوشت أيقونة العجوز طافي، فرأى الشمس أجمل من أي وقت مضى، ورأى ضوءَها القليل مبهجا وممتعا للنظر...
أخذ الغصنَ الأخضرَ الصغيرَ المجردَ الذي كانت تعبث به زهرة الجمر في مياه الجدول، وقام من مكانه، وشعر بوخز يحرقه كحرارة مجمر ملتهب...قطع التلال الصخرية الوعرة باتجاه منزله الموجود على أطراف البلدة، فرأى السيد كيفا يتوجه نحوه بخطوات عرجاء، والتقيا فوق تل صغير:
_إسمسيه، هذا الكتاب، كنت قد استعرته منك، خذه، فلقد علمت أنك لن تعود إلى البلدة أبدا.
ضحك إسمسيه برقة، ونظر إلى تاجر الملح السيد كيفا، الرجل الكهل الأعرج الذي يقرأ الكتب، وينطق كلاما حكيما، ويجادل في الفلسفة وعلوم الطبيعة والحياة... وشعر بالامتنان نحوه، لأنه تعلم الكثير منه:
_السيد كيفا، هذا الكتاب لك، أنا راحل، ولن أصطحب معي أي كتاب في رحلتي.
تهلل وجه السيد كيفا بفرح غامر، وقال:
_الشكر لك يا إسمسيه، الشكر لك... فأنا لم أتمم قراءة هذا الكتاب بعد، إنه قيم جدا.
_لدي في المنزل مكتبة عامرة بالكتب، وسأوصي لك ببعضها...
اِنصرف إسمسيه دون أن ينظر خلفه، وودع بلدة دريو نهائيا، وستكون هذه الليلة ليلته الأخيرة فيها، فغمره إحساس ممزوج بالإحباط: لماذا لم يجد نفسه مرتبطا بها وبالعناصر التي تشكل تكوينها كبلدة ليست فقيرة تماما، ولكنها ليست مزدهرة أيضا؟..لماذا يجد زهرة الجمر قريبة جدا من قلبه، ولكن قلبه يبتعد عنها بطريقة عجيبة؟..ولماذا يخاف هذه الفتاة الجهنمية في جمالها وفتنتها، ولكنه يحب أن يراها وأن تكون أمامه دائما؟..فوق التل كان السيد كيفا يتابع بنظْراته الحزينة اسمسيه، ويردد في نفسه بشجن: سألتحق بك..وسوف أعرف كيف أجدك في الأخير أيها الصديق النبيل...إنما الحياة سفر..والسفر قد لا ينتهي، ..أو قد ينتهي عند نقطة غير متوقعة.
دخل اسمسيه باب المنزل، وأوصده، ثم ولج بيته الخاص. نظر إلى الكتب الصفراء الكثيرة، والى المخطوطات النادرة، هذه الكتب، وهذه المخطوطات هي التي جعلت مكوثه في مدينة جائرة ممكنا، ولكنه الآن سيرحل، وربما إلى الأبد.
التعليق
تساقط في ذلك الضحى الكئيب، ضباب رمادي كثيف على بيوت بلدة دريو الطينية الصغيرة المتناثرة على سفوح التلال الصخرية شمالا والغابة الكثيفة جنوبا. وتصادف في ذلك الضحى، كما العادة، تَجوال كوكبة من الحرس المشاة وسط السوق، وملأت أنوفَهم رائحةُ ثمار كستناء تضوع في الأجواء بشذا فواح ... وَجَّه رئيسُ الحرس فورا وجهة رفقائه ناحية باب السوق، ورأوا إسْمَسِيهْ مغمورا بدخان يتصاعد من مِجْمَر يشوي فيه الثمار الناضجة المشهية، وتجمع حوله بضعة رجال من أعمار مختلفة، تفرقوا بمجرد رؤيتهم للحرس، وواصل إسْمَسيهْ شي ثمرات الكستناء وهو يترنم بأغنية شعبية مفعمة بالحماس. تحلق الحراس حول العربة، ثم شرعوا في تناول الثمار اللذيذة بنهم، وظل إسْمَسِيهْ يشوي الكستناء بإتقانه ومهارته المشهورة، غير مكترث بزواره الثُقُلِ الذين انهمكوا في الأكل وهم صامتون. وبعد أن انتهى رئيس الحرس من التهام آخر ثمرة كستناء، نظر إلى إسْمَسِيهْ ثم خاطبه بنبرة حادة:
_ لطالما حذرناك من الاجتماع بتلك الفئة من بُلْهِ الناس
ارتسمت ابتسامة هادئة على تقاطيع وجه اسمسيه الملفوح بوسامة شرقية أصيلة:
_ إنهم شرفاء ومسالمين..وحكماء أيضا.
فتل قائد الحرس، بإصبعي سبابته وإبهامه، شاربه الرث الملطخ بلون الصدأ وقال:
_ حسنا، يبدو أنك شخص عنيد كجحش.
نظر إليه إسْمَسِيهْ، وحافظ على هدوئه الكامل:
_ لن أتورط معك في ملاسنات غير لائقة..وسوف أعتبر كلامك مجرد مزحة ظريفة
ثم أضاف باسما:
_ ...مزحة ظريفة من شخص ظريف ولطيف.
تراجع قائد الحرس إلى الخلف بخطوة، وبدا أنه اسْتُفِزَّ على نحو مثير، ثم ركل العربة، بوقاحة صادمة. فتناثر الكستناء النيئ والمشوي، وتشتت على الأرض، وسقط المجمر، وانكفأت العربة الخشبية العتيقة، وكاد الجمر يلامس قدمي إسْمَسِيهْ لولا أنه تراجع قليلا إلى الوراء، ووقعَ على الجمر أحدُ المخطوطات التي جلبها معه من المنزل ليقرأها خلال عمله، واحترق المخطوط بهدوء أمام أنظاره المدهوشة. كان الضباب قد بدأ ينجلي شيئا فشيئا عن الأجواء، وبدت الحركة عادية داخل السوق، وأحدث سقوط العربة ضجة أثارت انتباه بعض المارة، فتوقفوا بفضول وهم يرون قائد الحرس سَانْوي يقهقه عاليا ثم يقول بصوت آمر:
_غَادِرْ فورا، .. لا أريد رؤيتك هنا مرة أخرى أيها الوغد... إنك تعلم جيدا بأنك ستتعفن داخل السجن، وستدفن فيه... وستفعل خيرا بنفسك لو هجرت دريو إلى الأبد..
برِح اسمسيه مكانه، وانتشر خبر طرده بسرعة في السوق، ومن ثمة امتد إلى البلدة بأكملها. التفت للمرة الأخيرة إلى الباب العتيق المَبْنِيِّ بالطوب الأحمر المشوي، والى عش اللقلق الذي نسج عشه بالقش فوق إحدى زوايا الباب العالي. وفكر في الأيام الحلوة والمرة التي قَضَّاها هنالك بائعاً ثمارَ الكستناء، وفكر في الفتيات اللواتي طالما زرنه بأناقة وزينة لا تخطئها العين. تقاذفته أحاسيس فاضت بها نفسه المثقلة بوجع غامض، وجع ظل يجاهده لوقت طويل. هل آنَ أوان الرحيل الأبدي عن بلدة دريو؟..وهل سيقتفي آثار صورة ذلك الوجه الصبوح الذي طالما تمثله في نجمة فينوس؟ خطا بين البيوت الطينية الحمراء خطواتٍ تائهةً مضطربةً دون أن يعرف وجهته ولا دواعيَ تجوله وسط البلدة التي شهدت شقاوة طفولته ومراهقته، وبداية شبابه النزق، قبل أن يستقر في باب السوق، يبيع الكستناء، ويحصل بعض النقود القليلة، نقود يشتري بأغلبها كتبا ومخطوطات نادرة كان يقرأها بشراهة ليلاً، أو في المواسم القليلة التي لا يشتغل فيها.
تنبه مذعورا لصوت فتاة جميلة، صوت فاتر لمس سمعَه همساً رخيماً شبيهاً بهبة نسمة عليلة لفحت روحه من الداخل:
_ إسْمَسِيهْ، هل حقا طردوك من السوق والبلدة؟
نظر إلى الفتاة نظرةً عميقةً، وشعر انه يودعها، وأنه لن يراها بعدُ تأتي إليه في باب سوق دريو لشراء الكستناء محملة ببعض المرح الذي يتبادلانه ببراءة أو بدونها كما كان يحدث أحيانا:
_ ليس بمقدور أحد أن يطردني يا ساروت، وإنما أنا راحل بمحض إرادتي
_عُدْ سريعا، ففي البلدة من سيفكر فيك، ومن سينتظرك دائما..
شرد ذهنه ورد بحيادية عجيبة:
لست أدري يا ساروت..لست أدري.
واصل المشي، وتابعته الفتاة بنظْرات تقطر حزنا والدموع تكاد تطفر من عينيها... تأملته جيدا، فإذا هو شاب في العشرينات من عمره، متوسط الطول، وعريض المنكبين، يرتدي قميصا أشهبَ من الكتان الخشن، ويسترسل شعره المجعد بفحولة حتى يكاد يلامس كتفيه...
_ هي لك يا اسمسيه.
رفع ناظريه إلى الأعلى، وفوجئ بالأرملة الثلاثينية الغنية رَاهْسَليتْ تلقي له بصُرة نقود من نافذة الطابق الثاني، فتلقفها بخفة، وقال:
_ لا أحتاج نقودا أيتها السيدة الطيبة، أشكرك.
_ستحتاجها في سفرك... أعرف بأنك كنت تنفق ما تكسب في شراء الكتب، بل وكنت تعطي الكستناء للجوعى والمتسولين دون مقابل.
_ أنتِ نبيلة الخلق، وسأحتفظ بودي واحترامي الشديدين لك، ولكني سأعيد نقودك إليك.
رمى صرة النقود بمهارة، فنفذت من النافذة إلى داخل حجرة رَاهْسَليتْ، وأضاف اسمسيه والأرملة الشابة تنظر إليه وكأنها ترغب في إرواء قلبها بأكبر كمية ممكنة من بهاء الشاب الباذخ في جمال روحه ووسامته اللافتة:
_ لا تنظري إلى الأسفل..انظري إلى السماء، وسترين أشياء جميلة.
صَحَا الجو، وأصبحت السماء صافية، فواصل إسمسيه السير وسط بيوت البلدة، ونظر إلى التلال الصخرية السوداء، وإلى أشجار الغابة، وفكر في نجمة فينوس، وفي فتاة استثنائية يشعر بها تناديه وترجوه المجيء إليها، وتنتظره بشغف.
سمع فتاة مراهقة تخاطبه بصوت نائح تعتصر فيه كل أحاسيسها الملتهبة، فتاة في حوالي الخامسة عشر من عمرها، تتمتع بفوران مراهقة دافئة، واندفاعا حييا يرسم حولها هالة مخلوقة ..فراشة، أو حمامة وديعة:
_ لا ترحل يا اسمسيه.. إننا نحبك أكثر من أي شيء في هذا الوجود.
وجد اسمسيه نفسه في حالة عجيبة من الحيرة، لقد اقتربت روحه من روح زهرة الجمر، وشعر بجسده يحترق بدموع الفتاة المراهقة الباهرة الجمال. كادت تقول:
_ إنني أحبك، إنني أحبك أكثر من أي شيء في هذا الوجود.
ولكنها لم تجرؤ، ووصلت رسالتها، بالوضوح الكامل، إلى أعماقه:
_ سأرحل يا زهرة الجمر، ولكنني سأُبقي الكثير مني هنا..
دخلت زهرة الجمر إلى منزلها وأغلقته بهدوء، ثم توجهت إلى حجرتها، وانخرطت في نحيب كئيب تردد صداه في أنحاء الحجرة كلها، وتسلل بعضه من النوافذ، ليتشتت عطرَ مسك حزين فوق التلال والغابة والأنحاء البعيدة...
اِنعطف إسمسيه يمينا، ورأى صانعَ الأحذية العجوزَ طافي يهرول نحوه بأنفاس متقطعة، ويتوقف مرهقا في ملابسَ من القنب مترهلة، وترتسم على وجهه تجاعيدُ عميقة تشبه بقايا طين متشقق في بركة جافة:
_أحقا طردوك من البلدة؟!
وضع اسمسيه يده على كتف العجوز الطيب الذي أضحت وجنته اليمنى ترتجف بوتيرة سريعة، ابتسم في وجهه، وخاطبه بنبرة محملة بود كبير:
_ العم طافي، بالفعل، لقد طردوني..ولكن لم يكن بوسعهم ذلك لو لم أرغب في الرحيل بمحض إرادتي.
لَفَّت الدهشة ملامح وجه طافي العريض المنكمش، وبدت عيناه الحادتان تبعثان بريقا واهنا، وقال وهو يصارع موجة حزن رهيبة:
_ لماذا تريد الرحيل يا بني؟!
_إنها مشيئة القلب أيها العم الطيب.
لم يفهم طافي شيئا، ولكنه أدرك أن إسمسيه مُصِرٌّ على الرحيل، وأن هناك سبباً غامضاً يدفعه دفعاً نحو هذا الهدف:
_خُذْ هذه الأيقونة الصغيرة، إنها مدهشة، لقد ورثتها عن أسلافي، وليس لدي أبناء يرثونها عني... وإنني لأشعر بدنو أجلي... خذها، وعلقها على عنقك، فستحميك من عثْرات الطريق، وستبعد الأشرار عنك، وستفتح الأبوابَ المغلقة كلَّها أمامك.
ضحك إسمسيه بحنو، وربت مرة أخرى على كتف العجوز طافي، وتأمل الأيقونة طويلا... إنها أيقونةٌ بحجم الإبهام عتيقةٌ من الذهب الخالص، تمثل مجسم إلهة لا يعرفها:
_هل هي أيقونة تمثل إلهة الرياح...؟!
_ لا يا ولدي، إنها الإلهة تفوشت إلهة الشمس، وسترى أن نورها سوف يرافقك في أحلك لياليك، ويغمر روحك بفيض من الطمأنينة الدائمة.
وبما أن اسمسيه لا يؤمن بالآلهة ولا ببركاتها، فانه وضع الأيقونة في يد العجوز، وقال بلباقة متناهية مخاطبا طافي الذي ظلت عيناه معلقتين على وجه اسمسيه:
_ أيها العم الطيب، اِحتفظ بها لنفسك، أنت كبير في بصرك وبصيرتك، وستعيش عمرا طويلا بقدرة الآلهة،..ولكن قد تنفعك إلهة الشمس لتنير عينيك يوم تحتاجهما
بقي العجوز يتأمل الأيقونة في يده بغرابة ممزوجة بحزن مر، واتجه إسمسيه نحو منزله، ولاحظ زهرة الجمر تمشي بعيدا بخطْوات رشيقة كحَمَل صغير، يحتويها ألقٌ ساحر، وتغمر وجهَها المدورَ الشبيهَ بالبدر خصلاتُ شعرها البني المائل إلى حمرة خفيفة، فلم يستطع إبعاد نظره عنها. اِستمرت تسير بأناقة كنسمة رقيقة تهب على أزهار أقحوان، وشعر برهبة كبيرة، وخاف خوفا عجيبا من أنوثتها المتفجرة... تتبع أثرها بدون إرادته، ورآها تجلس قرب نبع صغير، فدنا منها، ووجدها شاردة الذهن تعبث في الماء بغصنٍ أخضرَ رفيعٍ مجردٍ من أوراقه:
_طاب يومك يا زهرة الجمر.
نظرت إليه الفتاة بعيون عريضة، وبرموش نثرت دلالا ساحرا، وبفم مدور مبلل على الدوام بريق مشهي. جلس اسمسيه بجانبها، ونظر إلى الصخور، والى العصافير التي تتطاير حول جدول الماء الصغير، والى الشمس المتهادية برتابة باتجاه العَشِيَّة.
_من الأفضل أن تغادر دريو رُغم الآلام التي سأعانيها بغيابك.
صمت إسمسيه، وشعر بأنه يتورط في قصة غير واضحة المعالم، فأخرجت زهرة الجمر الغصن الأخضر الصغير من الماء، وعلقت عينيها على كرمة تين قديمة نابتة بجنب الجدول في صدع صخرة رمادية، وأصدرت تنهيدة عميقة، ثم واصلت حديثها كالحالمة:
_ لقد كنتَ لنفسك في آخر الأمر.
شعر اسمسيه بحريق يضطرم داخله، تأمل من جديد الفتاة البديعة التي تجلس بجانبه، كل شيء كان ينبت فيها كالبراعم الطرية، حتى مشاعرها الجميلة الفوارة، كل شيء فيها كان قابلا للتكسر أو الاحتراق بمجرد لمسة حانية:
_ زهرة الجمر، لا أغادر البلدة لأنني لا أحب هذه البلدة، وليس لأنني لا أجد نفسي قريبا من أجمل فتاة فيها، ولكنني أغادر تلبية لنداء غامض يأتيني من بعيد، لقد جاهدت هذا النداء لوقت طويل، ولكن حادث اليوم يعجل رحيلي.
قالت باهتمام بالغ:
_ هل أنت جائع؟
_ نعم،..لم آكل شيئا منذ الصباح.
_ حسنا لدي رغيف خبز محشو بسمك مملح..تفضل، ... تَنَاوَلْه، كنت أعرف بأنك ستكون جائعا.
_ شكرا..أحب أن آخذ في جسدي شيئا ..من هنا..قبل سفري.
غرقت زهرة الجمر في ذهول عجيب، لم تكن تعيش زمانها ومكانها، تاهت في عوالم مجهولة. أتم اسمسيه الأكل، ثم نظر من جديد إلى زهرة الجمر، وشعر برجفة تسري في أوصاله، ردد في نفسه: هل تكون هذه الفتاة هي تلك التي ظلت تتمثل لي في نجمة فينوس دون أن أدري...؟! لا، تلك الفتاة كانت دائما بعيدة ونائية، وكان ينبغي أن أسافر إليها، ولكن هل السفر إلى قلب فتاة بمثل هذا الجمال المدهش لا يعد سفرا شاقا ومضنيا؟..
ظلت عدة أفكار تتصارع في خيال إسمسيه، و أيقن في آخر الأمر بأن هذه الفتاة جزءٌ من حياته الماضية في دريو، وبأنها لن تكون مستقبله البعيد أبدا، ردد في نفسه: هناك دائما لكل زمان شخص أو أشخاص في أنفسنا، وقد تتوقف أدوار هؤلاء الأشخاص عند زمن معين، زمن غير متوقع.
_ سأودعك الآن يا اسمسيه.
_وبهذه السرعة...؟! رجوت لو استمر مكوثك معي أكثر.
_هذا السؤال كان يمكن أن يكون سؤالي الملح لك، ولكنني أدرك الآن بأن لكل مسافة نهاية، مثلما أدركت أنت ذلك قبلي بوقت طويل.
_حسنا يا زهرة الجمر، تأكدي بأنني كنت سأحاول أن تكوني لي لو أنني لم أقرر...
قاطعته زهرة الجمر بلطف:
_ لا، لقد تجاوزتُ هذا الإحساس بمساحات شاسعة، وأعرف بأننا فوتنا، على بعضنا، فرصة التلاقي في لحظة خاطفة، حين مر كل واحد منا جنب الآخر دون أن يشعره بوجوده... ألست أنت يا اسمسيه من قال هذه العبارة ذات مرة؟!
_ ولكن...
قاطعته زهرة الجمر مرة أخرى بلطف، وبنبرة كئيبة كنُواح يمامة بعيدة في غروب بعيد:
_ أرجوك، لقد انتهى كل شيء الآن، وإذا كان لا بد من وداع لطيف، فإنني أرغب في قبلة سريعة غير عميقة،.. قبلة لا تأخذني دون رجعة.
التقت شفتا اسمسيه وزهرة الجمر على نحو خاطف، وشعر اسمسيه بصعقة رجت جسده بقوة. غادرت زهرة الجمر وكأنها تفر من المكان، وتتبعها إسمسيه بعيون تسيل بالحيرة والإعجاب، فشاهد شعرها البني المائل إلى حمرة خفيفة تتلاعب به نَسْمات عشية رطبة، ورأى ردفيها يرتجان بأنوثة ناشئة مذهلة، ثم غابت عن ناظريه. شعر بدموع حارة تنساب بحرقة في أعماقه البعيدة، ووخزه إحساس بذنب تجاه فتاة كانت استثنائية في كل شيء... تأمل الشمس وهي تتهادى نحو الغروب، وانتابه شعور بأن يومه الأخير في بلدته دريو يمر سريعا على غير العادة، وبدت طيورٌ بيضاءُ تحوم فوقها، وتتطاير على علو منخفض محاذية الدور المشيدة بقوالب الطين المخلوط بالتبن، ووصل إلى أذنه خريرُ المياه المنسابة بين أحجار الجدول الصغير، وشعر بسعادة ممزوجة بحزن غامض يكتنفه، وشعر برهبة غريبة، وتساءل في حيرة:
_هل هي رهبة السفر؟ أم رهبة لقاء الفتاة التي أتمثلها دائما في نجمة فينوس...؟
قام من مكانه، وجلس في مكان زهرة الجمر، فاهتز شيءٌ ما بداخله، وشعر كأن المكان مسكون بروح الفتاة العبقة برحيق فردوسي غريب... نظر إلى البلدة من الأعلى، فشاهدها تغرق في لون الشفق البرتقالي المتوهج، وتكسر الصمت بشدو عصافيرَ صغيرة بدأت تبحث لنفسها عن مكان آمن للمبيت، ورأى قرص الشمس الأحمر يحاذي التلال، وفكر في تفوشت أيقونة العجوز طافي، فرأى الشمس أجمل من أي وقت مضى، ورأى ضوءَها القليل مبهجا وممتعا للنظر...
أخذ الغصنَ الأخضرَ الصغيرَ المجردَ الذي كانت تعبث به زهرة الجمر في مياه الجدول، وقام من مكانه، وشعر بوخز يحرقه كحرارة مجمر ملتهب...قطع التلال الصخرية الوعرة باتجاه منزله الموجود على أطراف البلدة، فرأى السيد كيفا يتوجه نحوه بخطوات عرجاء، والتقيا فوق تل صغير:
_إسمسيه، هذا الكتاب، كنت قد استعرته منك، خذه، فلقد علمت أنك لن تعود إلى البلدة أبدا.
ضحك إسمسيه برقة، ونظر إلى تاجر الملح السيد كيفا، الرجل الكهل الأعرج الذي يقرأ الكتب، وينطق كلاما حكيما، ويجادل في الفلسفة وعلوم الطبيعة والحياة... وشعر بالامتنان نحوه، لأنه تعلم الكثير منه:
_السيد كيفا، هذا الكتاب لك، أنا راحل، ولن أصطحب معي أي كتاب في رحلتي.
تهلل وجه السيد كيفا بفرح غامر، وقال:
_الشكر لك يا إسمسيه، الشكر لك... فأنا لم أتمم قراءة هذا الكتاب بعد، إنه قيم جدا.
_لدي في المنزل مكتبة عامرة بالكتب، وسأوصي لك ببعضها...
اِنصرف إسمسيه دون أن ينظر خلفه، وودع بلدة دريو نهائيا، وستكون هذه الليلة ليلته الأخيرة فيها، فغمره إحساس ممزوج بالإحباط: لماذا لم يجد نفسه مرتبطا بها وبالعناصر التي تشكل تكوينها كبلدة ليست فقيرة تماما، ولكنها ليست مزدهرة أيضا؟..لماذا يجد زهرة الجمر قريبة جدا من قلبه، ولكن قلبه يبتعد عنها بطريقة عجيبة؟..ولماذا يخاف هذه الفتاة الجهنمية في جمالها وفتنتها، ولكنه يحب أن يراها وأن تكون أمامه دائما؟..فوق التل كان السيد كيفا يتابع بنظْراته الحزينة اسمسيه، ويردد في نفسه بشجن: سألتحق بك..وسوف أعرف كيف أجدك في الأخير أيها الصديق النبيل...إنما الحياة سفر..والسفر قد لا ينتهي، ..أو قد ينتهي عند نقطة غير متوقعة.
دخل اسمسيه باب المنزل، وأوصده، ثم ولج بيته الخاص. نظر إلى الكتب الصفراء الكثيرة، والى المخطوطات النادرة، هذه الكتب، وهذه المخطوطات هي التي جعلت مكوثه في مدينة جائرة ممكنا، ولكنه الآن سيرحل، وربما إلى الأبد.
التعليق