سرديات عودة
فصل من رواية - مطالع سيرة متخيّلة لبديعة مصابني للكاتب رامي زيدان (الخميس 12 حزيران 2014)
كان من الممكن أن تغدو الأمور أفضل، لو بقي أبي على قيد الحياة. كان من الممكن أن تخفف رائحة حنانه بعض تصدعاتي، وبعضاً من لحظات استدرار الشفقة في الحياة. على مدى سنوات كنت أشعر بأن جسدي مثقل بأزمات ماضٍ طويل، بل أني مجرد أبريق زجاجي سقط من على برج شاهق. حدث أن توفى أبي وأنا صغيرة طرية العود، وأنفي لا يفقه تمييز روائح الرياح العاتية، ولا أعرف معنى أن يكون غائباً عني. مع ذلك شعرتُ برائحة غيابه من اليوم الأول. غاب ولم يعد يطرق باب البيت مساءً، ولم يعد يجلس على الكنبة العتيقة ويشرب الشاي الأسود الثقيل ويخلّصني من حيرتي. بدا كأن كل شيء تغيّر في غيابه. هو الذي كان يحضر في كل واحد منا في البيت، صار غيابه خيانة لنا. لم أكن أعلم أن أمي ترتدي الأسود حزناً عليه. مذ غاب، خيّم عليها السكون وصارت تكلم نفسها كثيراً كأن شطراً من حياتها قد سقط. هذا ما يقوله شرود عينيها عندما تجلس في بهو البيت. لم تعد تنعم بوقتها، ولم تعد تدلق الماء على الورود التي زرعتها في الأحواض، هي التي لا تجيد عملاً غير موهبة الطبخ.
حين فقدتُ أبي، لم أنتبه الى أني خسرت كل علامة على درب حياتي. خسرت من يدافع عني وينقذني من براثن الخوف والمشقّة. كل ما حدث لي من سيئات وآلام لم يكن من صنعي، وعلق في ذاكرة الناس أكثر من ذاكرتي. لقد حفظ الناس كيف أني كنت ضحية، أو أن الذئب نهشني. كل ما حدث لي يتسرب من ذاكرتي مثل رائحة روث الأبقار.
كانت أمي وحدها تبكي بصمت، ولا تريد لأحد منا أن يتأثر ببكائها. على مدى أسابيع لم تمسح الغبار في البيت، وزادت من حجم مناكدتي. أنا لم أدرك حجم غيابه إلا حين كبرتُ وتذكرتُ أني تعرضتُ للأذى، بل لم أنس أني تعرضت للأذى. صرت أبحث عن الانتقام من الماضي بطرق متعددة لم أعد أذكرها. ربما كان الهرب من الحي الذي نشأتُ فيه، الوسيلة الفضلى للتخلص من ذلك الكابوس.
أكتب الآن لأن لديَّ القدرة على الإنتقام من الماضي، لأتخلص من رائحة توابله التي علقت في أنفي. ذلك الماضي الذي يبقى يُحدث فيَّ توتراً داخلياً. لم أنج منه على رغم مجدي الذي وصل إلى السماء، وعلى رغم أني أصبحت حرة. أقول هذا لأني حين فكرتُ في أن أكتب مسار حياتي، تدافع الى ذاكرتي ذلك الماضي الآثم الذي حطّم أنفاسي طوال سنوات. عندما أكتب، أكتب بالضرورة عن شيء أكرهه. أكتب عن الخيانات التي لا أصدّقها، بل عشتها ولم أصدّق أنها حصلت معي.
لا، لستُ من يكتب فعلاً، بل هناك من يكتب عني سيرتي.
نقلا عن النهار .
التعليق
كان من الممكن أن تغدو الأمور أفضل، لو بقي أبي على قيد الحياة. كان من الممكن أن تخفف رائحة حنانه بعض تصدعاتي، وبعضاً من لحظات استدرار الشفقة في الحياة. على مدى سنوات كنت أشعر بأن جسدي مثقل بأزمات ماضٍ طويل، بل أني مجرد أبريق زجاجي سقط من على برج شاهق. حدث أن توفى أبي وأنا صغيرة طرية العود، وأنفي لا يفقه تمييز روائح الرياح العاتية، ولا أعرف معنى أن يكون غائباً عني. مع ذلك شعرتُ برائحة غيابه من اليوم الأول. غاب ولم يعد يطرق باب البيت مساءً، ولم يعد يجلس على الكنبة العتيقة ويشرب الشاي الأسود الثقيل ويخلّصني من حيرتي. بدا كأن كل شيء تغيّر في غيابه. هو الذي كان يحضر في كل واحد منا في البيت، صار غيابه خيانة لنا. لم أكن أعلم أن أمي ترتدي الأسود حزناً عليه. مذ غاب، خيّم عليها السكون وصارت تكلم نفسها كثيراً كأن شطراً من حياتها قد سقط. هذا ما يقوله شرود عينيها عندما تجلس في بهو البيت. لم تعد تنعم بوقتها، ولم تعد تدلق الماء على الورود التي زرعتها في الأحواض، هي التي لا تجيد عملاً غير موهبة الطبخ.
حين فقدتُ أبي، لم أنتبه الى أني خسرت كل علامة على درب حياتي. خسرت من يدافع عني وينقذني من براثن الخوف والمشقّة. كل ما حدث لي من سيئات وآلام لم يكن من صنعي، وعلق في ذاكرة الناس أكثر من ذاكرتي. لقد حفظ الناس كيف أني كنت ضحية، أو أن الذئب نهشني. كل ما حدث لي يتسرب من ذاكرتي مثل رائحة روث الأبقار.
كانت أمي وحدها تبكي بصمت، ولا تريد لأحد منا أن يتأثر ببكائها. على مدى أسابيع لم تمسح الغبار في البيت، وزادت من حجم مناكدتي. أنا لم أدرك حجم غيابه إلا حين كبرتُ وتذكرتُ أني تعرضتُ للأذى، بل لم أنس أني تعرضت للأذى. صرت أبحث عن الانتقام من الماضي بطرق متعددة لم أعد أذكرها. ربما كان الهرب من الحي الذي نشأتُ فيه، الوسيلة الفضلى للتخلص من ذلك الكابوس.
أكتب الآن لأن لديَّ القدرة على الإنتقام من الماضي، لأتخلص من رائحة توابله التي علقت في أنفي. ذلك الماضي الذي يبقى يُحدث فيَّ توتراً داخلياً. لم أنج منه على رغم مجدي الذي وصل إلى السماء، وعلى رغم أني أصبحت حرة. أقول هذا لأني حين فكرتُ في أن أكتب مسار حياتي، تدافع الى ذاكرتي ذلك الماضي الآثم الذي حطّم أنفاسي طوال سنوات. عندما أكتب، أكتب بالضرورة عن شيء أكرهه. أكتب عن الخيانات التي لا أصدّقها، بل عشتها ولم أصدّق أنها حصلت معي.
لا، لستُ من يكتب فعلاً، بل هناك من يكتب عني سيرتي.
نقلا عن النهار .
التعليق