سرديات عودة
فصل من رواية معلمّة البيانو للكاتبة النمساوية ألفريدة يلينيك - ترجمة خالد الجبيلي (الثلاثاء 11 آذار 2014)
غادرت إريكا، المعلّمة الأنيقة المدرسة كعادتها لا تلوي على شيء، بعد أن أنهت عملها الموسيقي لهذا اليوم. وقد رافق مغادرتها المدرسة التي لم تلفت الأنظار، أصوات أبواق ومزامير سيارات تصمّ الآذان، وعويل آلة كمان ينبعث من النوافذ المشرعة. تهبط إريكا درجات السلم بخفة، إلى حد أن الدرجات لم تكد تشعر بوقع قدميها. لم تكن الأمّ تنتظرها اليوم. وعلى الفور، وبتصميم شديد أخذت إريكا تسير في الاتجاه الذي كانت قد طرقته عدة مرات في الماضي. وهو الطريق الذي لا يؤدي إلى البيت مباشرة. ربما كان هناك ذئب كبير متوحش يستند إلى عمود كهرباء، يزيل من بين أسنانه بقايا ضحيّته الأخيرة. ترغب إريكا في أن تثّبت معال
رئيسية في حياتها الرتيبة، وتدعو خفية الذئب بنظراتها. إنها تراه من مسافة بعيدة، ويتناهى إليها صوت الجلد وهو يُمزّق ويُقطَّع. سيحّل المساء بعد قليل. وستلوح من بين الضباب أنصاف حقائق موسيقية. تسير إريكا رابطة الجأش، عاقدة العزم.
تنبلج أمامها فجوات الشوارع، ثم تنغلق ثانية لأن إريكا عاجزة عن اتخاذ قرار إن كانت ستلج تلك الفجوات أم لا. تحدّق أمامها مباشرة عندما تشعر برجل يغمزها. إنه ليس الذئب، ولا يرفرف مهبلها بجناحيه وينفتح، بل يغلق مثبطاً، بشدّة كالفولاذ. تهز إريكا رأسها مثل حمامة ضخمة، لتطرد الرجل شر طردة. يعتريه فزع شديد بسبب الانهيار الأرضي الذي أحدثه، ويفقد كلّ رغبة في الاقتراب من هذه المرأة أو نيلها. تشحذ إريكا وجهها بشكل متغطرس. أنفها، فمها، كلّ شيء يصبح سهماً يشير في اتجاه واحد. تشق طريقها في المنطقة كما لو كانت تقول: تابعي طريقك. ثلة من المراهقين توجه تعليقات تزدري إريكا وتتهكم بها، إريكا تلك السيدة المحترمة. إنهم لا يعرفون أنهم يوجهون تعليقاتهم اللاذعة إلى أستاذة، ولا يبدون لها أي احترام. تنورة إريكا ذات المربعات والثنيات تغطّي ركبتيها، لا ميليمتر واحد أعلى ولا ميليمتر أقل. ترتدي كذلك قميصاً فضفاضاً حريرياً يغطّي جذعها تماماً. وكعادتها، كانت تتأبط حقيبتها، وقد حرصت على إغلاق السحاب بإحكام. لقد حرصت إريكا على إغلاق كلّ شيء فيها يمكن أن يُفتح.
لنأخذ حافلة الترامواي. تتجه إلى الضواحي التي تسكنها الطبقة العاملة. بطاقة اشتراكها الشهري غير سارية على هذا الخطّ، لذلك يتعين عليها أن تشتري تذكرة أخرى: وهي عادة لا تأتي إلى هذه المنطقة. إذ إنك لا تأتي إلى مثل هذه المناطق إلا إذ كنت مضطراً إلى ذلك. قلة قليلة من طلابها يأتون من هذه المناطق. الموسيقى هنا لا تدوم أكثر من الوقت الذي تستغرقه أغنية في صندوق للموسيقى.
مطاعم صغيرة ذات أرضيات زلقة بسبب الدهون تنفث بأنوارها على الرصيف. وفي الجزر المضاءة بأنوار الشارع، ثمة أشخاص يتشاجرون، لأن أحدهم قال شيئاً غير لائق. على إريكا أن تنظر إلى أشياء غريبة كثيرة. هنا وهناك تتناثر عربات تتحرّك بأصواتها المجلجلة التي تهدر في الهواء. ثمّ تتلاشى بسرعة كما لو أن أحداً ينتظرها في مكان ما - في منزل كاهن الأبرشية، حيث تقام حفلة، يتمنى الكاهن أن يتخلّص من سائقي العربات في الحال لأنهم يعكرون صفو السلام والهدوء. وعادة ما ترى شخصين محشورين في دراجة مهلهلة لاستغلال كل نقطة من الفضاء المتاح فيها. لا يمكن لأي شخص أن يستأجر دراجة. سيارات صغيرة عادة ما تكون مكتظة حتى آخرها هنا. غالباً ما تُحشر جّدة هرمة في سيارة وسط أقربائها الذين يأخذونها في جولة ممتعة إلى المقبرة.
تترجل إريكا من الحافلة وتواصل السير على قدميها. لا تلتفت يميناً أو يساراً. عاملون يقفلون ويوصدون أبواب سوبر ماركت. في المقدمة، يمكنك أن تسمع هدير محركات آخر دردشة لإحدى ربات البيوت. صوت سوبرانو يهيمن على صوت باريتون: عناقيد عنب متعفنة. أسوأها يقبع في قعر السلة البلاستيكية. لذلك لم يشتر منها أحد اليوم. كلّ ما يتحدث عنه المرء بصوت مرتفع مجلجل أمام الآخرين - لا يعدو كونه كومة قمامة من الشكاوى والغضب. وراء الأبواب الزجاجية الموصدة، أمينة صندوق تحاول فتح صندوق النقد عنوة. لا تستطيع أن تعرف أين المشكلة. طفل يقود درّاجة صغيرة وطفل آخر يجري إلى جانبه، باكياً متذمراً ، يطلب من رفيقه أن يعطيه دوراً، والطفل الآخر يعده بذلك. الراكب يتجاهل إلحاح رفيقه الأقل شأناً. لم تعد ترى مثل هذه الدرّاجات الصغيرة في الأحياء الأخرى، تقول إريكا لنفسها. ذات مرة حصلت على واحدة منها كهدية، وغمرتها آنئذ سعادة بالغة. لكنها لم تتمكن، لسوء الحظ، من ركوبها لأن الشارع يقتل الأطفال.
ينفتل رأس طفلة في الرابعة من عمرها من جراء صفعة تهوي على وجهها كالإعصار من يد أمها. لوهلة، يدور الرأس عاجزاً، مثل كعكة ملفوفة فقدت توازنها ووجدت صعوبة في العودة إلى مكانها. وفي النهاية، يستقيم رأس الطفلة مرة أخرى ويعود إلى مكانه الصحيح. إلا أنها تطلق الآن أصواتاً مروّعة، فتنهال الأمّ الضجرة عليها بلطمة، ويخرج الرأس من شاقوله على الفور. القدر السيئ مكتوب على جبين الطفلة بحبر سري. وتحمل الأمّ أكياساً ثقيلة تجاهد في حملها، وتفضّل لو ترى ابنتها الصغيرة وقد ابتلعتها المجاري. وكما ترى، فلكي تؤدب الأمّ ابنتها، يتعين عليها أن تضع الأكياس التي تزيد من معاناتها على الأرض. ومع ذلك يبدو أن الجهد الزائد كان يستحق هذا الجهد الإضافي. الطفلة تتعلّم لغة العنف، ولكن رغماً عنها. أما في المدرسة، فهي لا تفهم سوى القليل أيضاً. إنها تعرف بضع كلمات، الأشياء الأكثر ضرورة، رغم أنك قلما تفهمها بين بكائها ودموعها.
سرعان ما تتسع المسافة التي تفصل المرأة والطفلة الصاخبة خلف إريكا. فقد كانتا تتوقفان باستمرار! ولم يكن بوسعهما مجاراة سرعة الزمن. إريكا تغّذ الخطى. هذا حيّ سكني، لكنه ليس من الأحياء الراقية، حيث يعود الآباء إلى بيوتهم في وقت متأخر من الليل، يدلفون إلى مداخل العمارات، متوفزين ومستعدين للانقضاض على عائلاتهم مثل مطارق خفية. وتصفق أبواب آخر العربات وهي تغلق، فخورة وواثقة من نفسها، لأن هذه العربات الصغيرة يمكن أن تفلت من أيّ شئ، وهي عزيزة على قلوب أصحابها. وتُركن بألق شديد عند حافة الرصيف، ويهرع أصحابها لتناول طعام العشاء. وقد يتمنى أي شخص لا يملك بيتاً - جميلاً – أن يملك واحداً منها، لكنه لن يتمكن من أن يبني بيتاً، حتى لو حصل على قرض عقاري كبير. فأي شخص يملك بيتاً في هذه المنطقة، من بين جميع الأماكن، يفضل أن يمضي جلّ وقته في مكان آخر. يجتاز عدد أكبر وأكبر من الرجال طريق إريكا. أما النساء، كما لو كانت قد كتبت لهن صيغة سحرية، فقد اختفين في الثقوب التي تدعى "شققاً" هنا. ولا يجرؤن على الخروج بمفردهن في هذا الوقت من الليل، دون صحبة أحد من أفراد أسرتهن الكبار لاحتساء كأس من البيرة أو زيارة أحد الأقارب. نشاطاتهن غير المرئية والضرورية منتشرة في كل مكان. تنبعث روائح من المطابخ. ويُسمع أحياناً صوت قرقعة القدور واحتكاك الشوك والسكاكين. تتسرّب أول ملهاة من ملاهي العائلات في هذا المساء المبكر من إحدى النوافذ، ثمّ من نافذة أخرى، ثمّ من العديد منها. الكريستالات المتلألئة ترّصع الليل الذي بدأ يخيم. وتتحول واجهات المباني إلى ستارة خلف المسرح. فربما لا يدور شيء وراءها: وجميع هؤلاء الناس من طينة واحدة. أصوات التلفزيون وحدها هي الحقيقية، إنها الأحداث الفعلية. ويواجه الناس جميعهم في هذه المنطقة الأشياء ذاتها في الوقت نفسه، باستثناء شخص يحب العزلة، يشاهد قناة تربوية. ويطلع هذا الشخص الانعزالي على المؤتمر القرباني، مجهّزاً بالحقائق والأرقام. أما اليوم، فإذا أردت أن تكون مختلفاً، فيجب أن تسدد ما عليك.
يمكنك أن تسمع خوار الأحرف الصوتية التركية. وسرعان ما يتناهى إليك صوت كرواتي صربي على الفور. ثلل من الرجال، متأهبين انتظاراً وتحسباً، مجموعات صغيرة، تنطلق مسرعة بأعداد قليلة غير منتظمة، تتجه يساراً الآن إلى أسفل جسر القطار حيث أقيم مكان للفرجة على عروض للإغراء الجنسي (بيب شو) تحت أحد أقواس الجسر. لقد اُستغل المكان استغلالاً رائعاً، كلّ زاوية وكلّ شقّ فيه، لم يُهدر ولا سنتيمتر واحد. ولا شكّ أن الأتراك يعرفون جيداً شكل القوس من مساجدهم. لعل الشيء كله يذكرهم بالحريم. فقد تم تجويف القوس تحت الجسر وأصبح مليئاً بالنساء العاريات، حيث تنال كلّ امرأة منهن فرصتها، تباعاً. إنه جبل فينوس مصغّر. تانهاوسر يأتي، يضرب بعصاه. في هذا القوس المبني من الآجر، يقوم الرجال بالتحديق في النساء الجميلات. في هذا المحل الصغير الذي يضم عاهرات، تتمدد وتنبطح النساء العاريات، وهو شيء يلائم تماماً شكل القوس، روح واحدة في جسدين. تتناوب النساء فيما بينهن. يتبادلن أماكنهن في سلسلة كاملة من محلات الفرجة على عروض الإغراء الجنسي، وفق مبدأ عدم الرضا، كي يتمكن الزبائن الدائمون من رؤية لحم جديد بصورة مستمرة بين الفينة والأخرى. وإلا لتوقف الزبائن الدائمون عن المجيء. ورغم كل ذلك، فهم يجلبون معهم قدراً كبيراً من المال، ويُدخلون قطعة معدنية إثر أخرى، في شقّ يفغر فمه بنهم. وما إن تبدأ حرارة الأشياء بالارتفاع، حتى يضطر المتفرج إلى إدخال قطعة معدنية أخرى. يد تلقم النقود، واليد الأخرى تخض بعنف لتفرغ شحنة الرجولة. ففي البيت يأكل الرجل ما يكفي لثلاثة أشخاص، أما هنا فإنه يهدر طاقته بطيش ويذروها في الرياح.
وكان كلّ عشر دقائق، ينبعث صوت كهزيم الرعد عندما يمر قطار بلدية فيينا من فوق، فيهتزّ القوس بأكمله، لكن الفتيات لا يتوقفن عن الاستدارة والتلوي بعزيمة لا تفتر. فهنّ يعرفن المكان حق المعرفة، وتعوّدن على الضجيج. وما أن تُدخل قطعة العملة المعدنية، حتى ترتفع النافذة، ويبرز لحم وردي – يا لها من معجزة تقنية. ويجب عليك ألا تلمس هذا اللحم. لا يمكنك ذلك بسبب الجدار. وقد كسيت النافذة الخارجية بورق أسود، وزينت بزخارف صفراء رائعة. وقد ثبتت مرآة صغيرة على الورق الأسود، كي تتمكن من أن تنظر إلى نفسك. من يعرف لماذا. ربّما لتتمكن من تمشيط شعرك بعد ذلك.
ويتصل بمحل الفرجة، محل صغير لبيع الأشياء الجنسية، حيث يمكنك شراء ما كان قد أثارك. لا توجد نساء هنا. وللتعويض عن عدم وجودهن، يمكنك أن تجد سروالاً داخلياً صغيراً جداً من النايلون ذي عدة فتحات، من الأمام أو من الخلف. ويمكنك أن تجعل زوجتك ترتديه في البيت ثم تلجها دون الحاجة إلى أن تخلعه. وثمة قميص يلائمه ذو فتحتين مستديرتين. ويمكن للمرأة أن تخرج ثدييها من هاتين الفتحتين، فيما يظل باقي جذعها مكسواً بالقماش الشفّاف. والقميص مطرز من جانبيه. يمكنك أن تختار بين الأحمر الداكن والأسود. فالأسود يبدو أفضل على الشقراء، بينا الأحمر يناسب ذات الشعر الأسود.
ويمكنك أن تجد هنا أيضاً كتباً ومجلات وأشرطة فيديو وأفلام 8 مليمتر يعلوها الغبار. فهذه المواد لا تتزحزح من مكانها على الإطلاق. فالزبائن لا يملكون أجهزة فيديو أو أجهزة عرض. ويباع هنا مختلف أنواع الأصناف المطاطية الصحية ذوات السطوح المضلّعة؛ بالإضافة إلى دمى النساء القابلة للنفخ. ففي البداية، ينظر الزبائن إلى الأشياء الأصلية، ثمّ يشترون التقليد. ولسوء الحظ، لا يستطيع الزبون أن يصحب معه النساء العاريات الجميلات ليمارس معهن في غرفته الصغيرة المحمية. ولو كانت تلك النساء قد شهدن شيئاً مهماً في حياتهن، لما رأيتهن يتباهين بأجسادهن هنا. فهن يأتين إلى هذا المكان ويتظاهرن أمام الآخرين بأنهن لا يأتين. وهذا ليس من شأن المرأة. وسيأخذ الزبون أياً من تلك الفتيات بسرور عظيم، لا يهمه من، فكلهن متشابهات. ولا يمكنك أن تميّز الواحدة عن الأخرى إلا بشق النفس، فمن لون شعرهن على الأغلب. أما الرجال، فهم على عكس ذلك تماماً، فلكل منهم شخصية مميزة: إذ يحب بعض الرجال شيئاً، والبعض الآخر يحب شيئاً آخر. ومن الناحية الأخرى، ليس للعاهرة الشبقة القابعة وراء النافذة، وراء الحاجز، إلا رغبة واحدة عاجلة فقط: أن يستمر ذاك المتسكّع القابع وراء النافذة الزجاجية في الاستمناء حتى يسقط قضيبه. وبهذه الطريقة، يحصل كل من الرجل والمرأة على شئ، ويصبح الجوّ جميلاً ومريحاً. فلكلّ شيء ثمنه. تدفع مالك وتحصل على ما تختاره.
محفظة إريكا، التي تحملها مع حقيبتها الموسيقية، محشوة بقطع العملة المعدنية. ولا توجد نساء كثيرات يفعلن ذلك، لكن إريكا تريد أن تكون لها طريقتها الخاصة. وهكذا هي. فإذا فعل الناس شيئاً، فستفعل العكس تماماً. وإذا قال أحدهم اذهب، فإن إريكا وحدها ستقول توقّف، وهي فخورة بذلك. فهذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعلهم يلاحظونها. أما الآن فهي تريد أن تأتي إلى هذا المكان.
يفسح الأتراك واليوغوسلاف الطريق عندما يقترب هذا المخلوق القادم من عالم آخر. وفجأة يصيبهم عجز تام؛ فلو كان أمامهم خيار لاغتصبوا أيّ امرأة إذا أمكنهم ذلك. يتفوهون بأشياء لإريكا لكنها، ولحسن الحظ، لا تفهم ما يقولونه. تظل شامخة مرفوعة الرأس. لا أحد يلمس إريكا، حتى السكارى. إلى جانبها، ثمة رجل مسن يتفرج. هل هو صاحب المحل، المالك؟ النمساويون القلائل يعانقون الحائط. لا يوجد ثمة شيء يقوّي من شكيمة أنانيتهم، كما أنهم يلامسون مساً خفيفاً الأشخاص الذين يتحاشونهم عادة. يقومون بالملامسة الطبيعية الغير مرغوبة، بينما لا يحدث الاتصال الطبيعي على الإطلاق، لسوء الحظ، لعدم وجود الحافز الذكوري القوي. ولا يملك هؤلاء الرجال قدراً كافياً من المال لشراء نبيذ أصلي ممزوج بماء فوار، فقد شارف الأسبوع على نهايته. النمساويون يمشون بتثاقل وتردد على طول جدار الجسر. وقبل مكان العرض الكبير بقوس واحد، يوجد محل لبيع أدوات التزلج، ومخزن لبيع الدراجات. هذه الأماكن تغط في سبات عميق الآن، وهي في الداخل سوداء قاتمة. أما هنا، فثمة مصباح ودّي يشع نوره إلى الشارع، يجذب حشرات العثّ الجريئة تلك، مخلوقات الليل. إنهم يريدون شيئا لقاء المال الذي يدفعونه. كلّ زبون منعزل تماماً عن الزبون التالي. المقصورات المصنوعة من الخشب المعاكس مصممة لتلبية حاجاتهم. هذه المقصورات صغيرة وضيّقة، وشاغلوها المؤقتون أناس صغار. بالإضافة إلى ذلك، كلما كانت المقصورة أصغر، كان بوسعهم حشر أكبر عدد من المقصورات معاً. كي يتمكن عدد أكبر من الرجال من التنفيس عن أنفسهم خلال فترة قصيرة نسبيا.
يُفرغ الزبائن همومهم، لكنهم يخلفّون وراءهم سائلهم الثمين. وتحرص النساء اللاتي يقمن بالتنظيف على أن لا تنبت تلك البذور، رغم أنه لو سئل كلّ زبون، لأكّد أنه يتمتع بخصوبة زائدة. وعادة ما تكون جميع المقصورات مشغولة. هذه التجارة كنز دفين، منجم ذهب. يصطف العمال الأجانب بصبر في مجموعات صغيرة. ويقتلون الوقت بتبادل النكات عن النساء. ويتناسب حيّز المقصورة الصغير مباشرة مع الحيّز الصغير في بيوتهم، التي لا تتجاوز أحياناً ربع غرفة. إنهم معتادون على الغرف المكتظة، المحشورة، بل يمكنهم أن ينعموا بين الحواجز بالسرية بعيداً عن أعين الرقباء. رجل واحد فقط في كلّ مقصورة. هنا، يكون وحيداً مع نفسه. وما أن يلقم الآلة بقطعة نقوده المعدنية حتى تظهر له امرأة جميلة في شقّ الفرجة. تكاد الغرفتان الفرديتان اللتان تقدمان خدمات فردية للرجال أن تكونا فارغتين بشكل دائم تقريباً. وبوسع عدد قليل من الزبائن هنا أن يطلبوا خدمات خاصة.
تدخل إريكا، الأستاذة، إلى المبنى.
يدّ تمتدّ إليها بتردد، لكنها سرعان ما تنسحب إلى مكانها. إنها لا تدخل إلى القسم الخاص بالعاملين، بل تدخل إلى القسم المخصص للزبائن، القسم الأكثر أهميّة. هذه المرأة تريد أن تتفرج إلى شيء يمكنها أن تراه في مرآتها في البيت دون أن تدفع شيئاً. يبدي الرجال دهشتهم: فعليهم أن يقتروا على أنفسهم لادخار كلّ قرش ينفقونه خفية هنا وهم يجرون وراء النساء. الصيادون ينظرون من خلال ثقوب الفرجة، وتذهب النقود التي كان عليهم أن ينفقونه على بيوتهم في البالوعة. لا شيء يمكن أن يصرف اهتمام هؤلاء الرجال عندما يحدّقون.
كلّ ما تبغيه إريكا هو الفرجة. وهنا، في هذه المقصورة، تصبح نكرة. لا شيء يلاؤم إريكا، لكنها تلاؤم تماماً هذه الحجيرة. إن إريكا أداة مضغوطة في شكل إنسان. ويبدو أن الطبيعة لم تترك فيها أية فتحات. تشعر إريكا بوجود قطعة خشب صلبة في المكان الذي ثقب فيه النجار فتحة في أية أنثى حقيقية. لكن قطعة إريكا الخشبية اسفنجية، مهترئة، تنتصب وحيدة في غابة من الأخشاب، وقد بدأ التعفن ينهشها. لا تزال إريكا تتهادى مثل ملكة. وفي الداخل، فهي تبلى وتتفسخ، لكنها تحدّق بقوة في الأتراك فتثبط همتهم. يريد الأتراك أن يعيدوها إلى الحياة، لكنّهم يجفلون من غطرستها. إريكا، الملكة في كلّ ذرة فيها، تسير باتجاه كهف فينوس. لا يبدي الأتراك حرارة أو مودة، ولا حتى فتوراً. بل يتركون إريكا تسير وهي تحمل حقيبتها المليئة بالنوطات الموسيقية الكبيرة. يمكنها أن تتجاوز رتل الرجال، دون أن يبدي أحد أي اعتراض. إنها ترتدي قفازات أيضاً. يخاطبها الرجل الواقف عند المدخل بشجاعة ويقول لها مرحباً "مدام" تفضلي ادخلي، حيث تصب المصابيح الصغيرة أنوارها بهدوء على الأثداء والفروج، وترسم مثلثات كثيفة الشعر، لأن هذا هو أول شيء ينظر إليه الرجل، هذا هو القانون. الرجل لا ينظر إلى شيء، إنه ينظر إلى العدم الصافي. وبعد أن ينظر إلى هذا اللا شيء، يعود وينظر إلى كلّ شيء آخر.
تُخصص لإريكا مقصورة فاخرة. ليس عليها أن تنتظر، فهي سيدة. ويجب على الآخرين أن ينتظروا فترة أطول. تمسك بنقودها جاهزة بالطريقة التي تمسك بها الكمان. في أثناء النهار، تحسب أحياناً كم مرة يمكنها أن تتفرج بالقطع المعدنية التي وفرتها. فهي توفرها بتقليل طعامها أثناء الاستراحة. والآن، يغمر ضوء أزرق اللحم. حتى الألوان مختارة بعناية. ترفع إريكا منديلاً ورقياً من الأرض، يكسوه سائل منوي. ترفعه إلى أنفها. تستنشق الرائحة بعمق، ثمار كدّ شخص آخر. إنها تتنفّس وتنظر، إنها تستهلك فترة صغيرة من حياتها. ثمة نوادٍ يمكنك أن تلتقط فيها صوراً للفتيات. يختار كلّ زبون الفتاة التي يريد، حسب مزاجه وذوقه. لكن إريكا لا تريد أن تفعل، بل تريد أن تتفرج فقط. بكل بساطة فهي تريد أن تجلس هناك وتتفرج. تمعن النظر. إريكا، تتفرج لكنها لا تلمس. إريكا لا تشعر بشيء، ولا تتاح لها فرصة مداعبة نفسها. إذ إن أمّها تنام بجانبها وتحرس يديّ إريكا. إذ يفترض بهاتين اليدين أن تعزفا، لا أن تندسا تحت البطانية كالنمل يهرع إلى مرطبان المربّى. حتّى عندما تجرح إريكا أو تخز نفسها، فإنها لا تكاد تشعر بشيء. لكن عندما يتعلق الأمر بعينيها، فإنها تبلغ عندئذ قمّة الإحساس.
تعبق من المقصورة رائحة مطّهر. إنّ عمال النظافة جميعهم من النساء، لكنّهن لا يبدين كالنساء. إذ يلقين بسائل هؤلاء الصيادين المغسول بالماء بدون مبالاة في صندوق القمامة.
وتجد الآن مناديل ورقية مجعّدة ومتصلبة كالخرسانة مرمية هناك. بالنسبة لإريكا، يمكن أن تحصل عاملات التنظيف على استراحة ليرحن عظامهن المنهكة. إذ يتعين عليهن أن ينحنين عدداً لانهائياً من المرات. إريكا تجلس وتتفرج. حتى أنها لا تخلع قفازيها، لذلك يجب ألا تمسّ شيئاً في هذه المقصورة الصغيرة التي تفوح منها رائحة كريهة. ربما ظلت ترتدي قفازيها كي لا يرى أحد أصفادها.
ترتفع الستارة أمام إريكا، حتى يصبح بالإمكان رؤيتها وهي تشد الخيوط وراء الكواليس. لقد أقيم العرض كله من أجلها! لا يُسمح لامرأة مشوّهة أن تعمل هنا. الوسامة وحسن القوام مطلبان أساسيان. فكلّ فتاة تتقدم للعمل هنا تخضع إلى فحص جسدي دقيق وشامل: فصاحب المحل لا يشتري سمكاً في البحر. لم يسبق لإريكا أن فعلت ذلك على خشبة حفلة موسيقية، لكن نساء أخريات يقمن بذلك عوضاً عنها. إنهن يُقيّمن وفق استدارات أجسادهن وأعطافهن. تواصل إريكا الفرجة. وما أن تلقي نظرة واحدة، حتى تكون قد ألقت قطعتين نقديتين.
تتخذ امرأة ذات شعر أسود وضعية مبتكرة كي يتمكن المتفرج من رؤيتها. إنها تدور على شيء أشبه بعجلة الخزّاف. لكن من يدوّرها؟ في البداية تضم فخذيها معاً وتعتصرهما. لا يمكنك أن ترى شيئاً؛ لكن الريق يجف في الأفواه ترقباً. ثمّ تفتح ساقيها ببطء، وهي تستعرض فتحات عديدة. وفي بعض الأحيان، ورغم حرص الفتاة على أن تكون عادلة في عرض نفسها بالتساوي على جميع المتفرجين، فإن نافذة محددة تحظى بحظ أوفر من نافذة أخرى لأن العجلة لا تتوقف عن الدوران. ينبعث صوت نقرات عصبية من فتحات الفرجة. ما فاز باللذة إلا الجسور. ومن غامر مرة أخرى، ربما فاز بنصيب أكبر.
الجمهور المحيط يفرك ويدلّك بحماس شديد، ويختلط بشكل آني بآلة عجن هائلة لكن مخفية. عشر مضخات صغيرة تعمل بأقصى قدرة لها. وفي الخارج، يبدأ بعض الزبائن العملية التي تسبق عملية الحلب خفية، كي ينفقوا قدراً أقل من المال. سيكون لكلّ رجل امرأة ترافقه.
وفي المقصورات المجاورة، تفرغ المضخات التي لا تتوقف عن الهز والدفع شحناتها الثمينة. وسرعان ما تعود وتمتلئ مرة أخرى، يجب بلوغ حالة الرضا ثانية. وإذا حدث احتقان، يجب أن تدفع أكثر حتى تفرغ. خاصة إذا كنت منهمكاً في الفرجة إلى درجة تنسى معها أن تشغّل مضختك. ولهذا فهم يحضرون فتيات جديدات غالباً، كوسيلة لتشتيت الانتباه. الأحمق يحدّق لكنه لا يفعل شيئاً.
إريكا تتفرج. ما تراه يجعلها تدفع يدها بين فخذيها مظهرة متعتها برسم دائرة صغيرة بشفتيها. تشعر بالمتعة لأن عيوناً عديدة تراقبها، تغمض عينيها وتفتحهما ثانية، وترتفعان إلى أعلى نقطة في رأسها. ترفع ذراعيها وتدلك حلمتيها، حتى تنتصبا. ثم تجلس في وضع مريح وتباعد بين ساقيها إلى أبعد درجة. الآن يمكنك أن تنظر إلى عمق المرأة. تداعب شعر عانتها. تلعق شفتيها بشكل حسي، بينما يقوم أحدهم، ثم آخر، بمداعبة دودته المطاطية. يظهر وجهها كم سيكون رائعاً لو كانت معك. لكن للأسف، فهذا أمر بعيد المنال لأن الطلب شديد. وبهذه الطريقة، يمكن لكلّ شخص، لا لرجل واحد فقط، أن يحصل على شيء ما.
إريكا تتفرج بإمعان شديد. لا لتتعلم. لا شيء يتحرك في داخلها. ومع ذلك يجب أن تتفرج. لمتعتها. وعندما تشعر بالرغبة في مغادرة المكان، تشعر بشيء يضغط بقوة على رأسها ذي الشعر المصفف جيداً، ويعيده إلى اللوح الزجاجي، وتواصل الفرجة. يواصل القرص الدوّار الذي تجثم فوقه المرأة الجميلة دورانه. لا تستطيع إريكا أن تتمالك نفسها. عليها أن تواصل النظر. فهي محرّمة على نفسها.
إلى يمينها ويسارها، تسمع تأوهات وأنات بهيجة. أنا شخصيا لا أستطيع مجاراة ذلك، تجيب إريكا كوهوت، لقد توقّعت المزيد. شيء يتدفّق ويتطاير على الجدار المصنوع من الخشب المضغوط. الجدران سهلة التنظيف، فسطوحها ملساء. وإلى يمينها، كتب أحدهم بضع كلمات بمودّة على الجدار، " ماري، الفاسقة الملعونة"، بلغة ألمانية صحيحة. الرجال لا يخربشون الكثير من هذه الأشياء هنا، فلديهم أشياء أخرى يقومون بها. على أية حال، فهم ليسوا كلّهم جيدين عندما يتعلق الأمر بالكتابة. إذ لديهم يد حرة واحدة فقط، لأنهم يجب ألا يتوقفوا عن إدخال القطع النقدية.
امرأة سوقية ذات شعر أحمر مصبوغ تدفع ظهرها الممتلئ الآن ليصبح في مرمى النظر. ولم يتوقف المدلّكون الرخيصون منذ سنوات عن ضغط أصابعهم على العظام لإزالة طبقات الشحم المزعومة. على أية حال، فهي تُري المتفرجين المزيد لتحصل على قدر أكبر من مالهم. المقصورات من جهة اليمين ترى المرأة من الأمام، وأتيح الآن للمقصورات في الجهة اليسرى رؤيتها. ثمة رجال يرغبون في تقييم المرأة من الأمام، وآخرون يقيّمونها من الخلف. ذات الشعر الأحمر تحرّك العضلات التي تستخدمها عادة للمشي أو للجلوس. أما اليوم، فهي تكسب قوتها باستخدامها. تدلّك نفسها بيدها اليمنى، ذات المخالب الحمراء القانية. وبيدها اليسرى تخدش حول صدرها. وتشد بأظافرها الاصطناعية الحادّة حلمتها. كما لو كانت قطعة من المطاط، ثم تتركها لتثب وتعود إلى مكانها. تبدو حلمتها غريبة عن جسدها. ذات الشعر الأحمر تفعل ذلك عدة مرات حتى تتأكد أن الشخص المرشّح على وشك أن يفعلها! من لا يستطيع الآن، لن يستطيع بعد ذلك. وأيّ رجل يقبع وحيداً الآن لا يلوم إلا نفسه. أأراد أم لم يرد، فسيبقى وحيداً لفترة طويلة.
وصلت إريكا إلى درجة الإشباع. يجب أن تعرف متى يجب أن تتوقف. إن الأمر زاد عن حده، قالت ذلك في أحيان كثيرة من قبل. تستوي واقفة. لقد وضعت إريكا حدوداً لها منذ عهد بعيد، وقد كفلتها بتعهدات لا تقبل النقض. إنها ترى كلّ شيء من موقع عال ممتاز، يتيح لها أن تنظر بعيداً عبر الريف. الرؤية الجيدة مطلوبة. لكن مرة أخرى، لا تكترث إريكا بالنظر إلى أبعد من ذلك. تغادر المكان.
نظرتها وحدها تكفي لإزاحة الزبائن من طريقها. يأخذ رجل مكانها بطمع. ينشق طريق أمامها عبر الزبائن. تخطو إريكا وتبتعد. تمشي وتمشي بطريقة آلية، كما كانت تنظر وتنظر في السابق. أيّ شيء تفعله إريكا، تفعله بإخلاص وحماس. لا تفعل شيئاً بفتور وضعف همة، كانت أمها تقول لها دائماً. لا شيء بشكل مبهم. إذ لا يوجد فنان يمكنه أن يتحمّل عملاً ناقصاً أو غير مكتمل. أحياناً لا يكتمل العمل لأن الفنان يموت قبل الأوان. تواصل إريكا سيرها. لم يتهتك شيء، لم يبهت لون شيء. لم تبلغ شيئاً. لم تحقق شيئاً.
في البيت، توجّه الأمّ عتاباً خفيفاً للحاضنة الدافئة التي تقبع فيها هما الاثنتان. أرجو ألا تكون إريكا قد أصيبت بالبرد أثناء رحلتها (فقد كذبت على أمها أين كانت). ترتدي الفتاة رداء حمّام دافئ. تأكل هي وأمّها بطّة محشوة بالكستناء وأشياء لذيذة أخرى. إنها مأدبة. الكستناء يتفجر داخل البطّة؛ أسرفت الأمّ في إعداد الطعام، كما هو دأبها. الممالح والمباهر مطلية بالفضّة، أما الأواني الفضية فهي من الفضة الخالصة. وجنتا الطفلة ورديتان اليوم، والأمّ مسرورة لذلك. أرجو ألا يكون تورد الوجنتين هذا بسبب الحمّى. تجس الأمّ جبهة إريكا بشفتيها. ومع طبق الحلوى ستقيس الأم حرارة إريكا بميزان الحرارة. لحسن الحظ، فقد استبعدت الحمّى كأحد الأسباب المحتملة. إريكا تتمتع بصحة جيدة – سمكة جيدة التغذية تعوم في السائل الرحمي للأم.
الرواية الحائزة على جائزة نوبل للآداب لعام 2004
*
التعليق
غادرت إريكا، المعلّمة الأنيقة المدرسة كعادتها لا تلوي على شيء، بعد أن أنهت عملها الموسيقي لهذا اليوم. وقد رافق مغادرتها المدرسة التي لم تلفت الأنظار، أصوات أبواق ومزامير سيارات تصمّ الآذان، وعويل آلة كمان ينبعث من النوافذ المشرعة. تهبط إريكا درجات السلم بخفة، إلى حد أن الدرجات لم تكد تشعر بوقع قدميها. لم تكن الأمّ تنتظرها اليوم. وعلى الفور، وبتصميم شديد أخذت إريكا تسير في الاتجاه الذي كانت قد طرقته عدة مرات في الماضي. وهو الطريق الذي لا يؤدي إلى البيت مباشرة. ربما كان هناك ذئب كبير متوحش يستند إلى عمود كهرباء، يزيل من بين أسنانه بقايا ضحيّته الأخيرة. ترغب إريكا في أن تثّبت معال
رئيسية في حياتها الرتيبة، وتدعو خفية الذئب بنظراتها. إنها تراه من مسافة بعيدة، ويتناهى إليها صوت الجلد وهو يُمزّق ويُقطَّع. سيحّل المساء بعد قليل. وستلوح من بين الضباب أنصاف حقائق موسيقية. تسير إريكا رابطة الجأش، عاقدة العزم.
تنبلج أمامها فجوات الشوارع، ثم تنغلق ثانية لأن إريكا عاجزة عن اتخاذ قرار إن كانت ستلج تلك الفجوات أم لا. تحدّق أمامها مباشرة عندما تشعر برجل يغمزها. إنه ليس الذئب، ولا يرفرف مهبلها بجناحيه وينفتح، بل يغلق مثبطاً، بشدّة كالفولاذ. تهز إريكا رأسها مثل حمامة ضخمة، لتطرد الرجل شر طردة. يعتريه فزع شديد بسبب الانهيار الأرضي الذي أحدثه، ويفقد كلّ رغبة في الاقتراب من هذه المرأة أو نيلها. تشحذ إريكا وجهها بشكل متغطرس. أنفها، فمها، كلّ شيء يصبح سهماً يشير في اتجاه واحد. تشق طريقها في المنطقة كما لو كانت تقول: تابعي طريقك. ثلة من المراهقين توجه تعليقات تزدري إريكا وتتهكم بها، إريكا تلك السيدة المحترمة. إنهم لا يعرفون أنهم يوجهون تعليقاتهم اللاذعة إلى أستاذة، ولا يبدون لها أي احترام. تنورة إريكا ذات المربعات والثنيات تغطّي ركبتيها، لا ميليمتر واحد أعلى ولا ميليمتر أقل. ترتدي كذلك قميصاً فضفاضاً حريرياً يغطّي جذعها تماماً. وكعادتها، كانت تتأبط حقيبتها، وقد حرصت على إغلاق السحاب بإحكام. لقد حرصت إريكا على إغلاق كلّ شيء فيها يمكن أن يُفتح.
لنأخذ حافلة الترامواي. تتجه إلى الضواحي التي تسكنها الطبقة العاملة. بطاقة اشتراكها الشهري غير سارية على هذا الخطّ، لذلك يتعين عليها أن تشتري تذكرة أخرى: وهي عادة لا تأتي إلى هذه المنطقة. إذ إنك لا تأتي إلى مثل هذه المناطق إلا إذ كنت مضطراً إلى ذلك. قلة قليلة من طلابها يأتون من هذه المناطق. الموسيقى هنا لا تدوم أكثر من الوقت الذي تستغرقه أغنية في صندوق للموسيقى.
مطاعم صغيرة ذات أرضيات زلقة بسبب الدهون تنفث بأنوارها على الرصيف. وفي الجزر المضاءة بأنوار الشارع، ثمة أشخاص يتشاجرون، لأن أحدهم قال شيئاً غير لائق. على إريكا أن تنظر إلى أشياء غريبة كثيرة. هنا وهناك تتناثر عربات تتحرّك بأصواتها المجلجلة التي تهدر في الهواء. ثمّ تتلاشى بسرعة كما لو أن أحداً ينتظرها في مكان ما - في منزل كاهن الأبرشية، حيث تقام حفلة، يتمنى الكاهن أن يتخلّص من سائقي العربات في الحال لأنهم يعكرون صفو السلام والهدوء. وعادة ما ترى شخصين محشورين في دراجة مهلهلة لاستغلال كل نقطة من الفضاء المتاح فيها. لا يمكن لأي شخص أن يستأجر دراجة. سيارات صغيرة عادة ما تكون مكتظة حتى آخرها هنا. غالباً ما تُحشر جّدة هرمة في سيارة وسط أقربائها الذين يأخذونها في جولة ممتعة إلى المقبرة.
تترجل إريكا من الحافلة وتواصل السير على قدميها. لا تلتفت يميناً أو يساراً. عاملون يقفلون ويوصدون أبواب سوبر ماركت. في المقدمة، يمكنك أن تسمع هدير محركات آخر دردشة لإحدى ربات البيوت. صوت سوبرانو يهيمن على صوت باريتون: عناقيد عنب متعفنة. أسوأها يقبع في قعر السلة البلاستيكية. لذلك لم يشتر منها أحد اليوم. كلّ ما يتحدث عنه المرء بصوت مرتفع مجلجل أمام الآخرين - لا يعدو كونه كومة قمامة من الشكاوى والغضب. وراء الأبواب الزجاجية الموصدة، أمينة صندوق تحاول فتح صندوق النقد عنوة. لا تستطيع أن تعرف أين المشكلة. طفل يقود درّاجة صغيرة وطفل آخر يجري إلى جانبه، باكياً متذمراً ، يطلب من رفيقه أن يعطيه دوراً، والطفل الآخر يعده بذلك. الراكب يتجاهل إلحاح رفيقه الأقل شأناً. لم تعد ترى مثل هذه الدرّاجات الصغيرة في الأحياء الأخرى، تقول إريكا لنفسها. ذات مرة حصلت على واحدة منها كهدية، وغمرتها آنئذ سعادة بالغة. لكنها لم تتمكن، لسوء الحظ، من ركوبها لأن الشارع يقتل الأطفال.
ينفتل رأس طفلة في الرابعة من عمرها من جراء صفعة تهوي على وجهها كالإعصار من يد أمها. لوهلة، يدور الرأس عاجزاً، مثل كعكة ملفوفة فقدت توازنها ووجدت صعوبة في العودة إلى مكانها. وفي النهاية، يستقيم رأس الطفلة مرة أخرى ويعود إلى مكانه الصحيح. إلا أنها تطلق الآن أصواتاً مروّعة، فتنهال الأمّ الضجرة عليها بلطمة، ويخرج الرأس من شاقوله على الفور. القدر السيئ مكتوب على جبين الطفلة بحبر سري. وتحمل الأمّ أكياساً ثقيلة تجاهد في حملها، وتفضّل لو ترى ابنتها الصغيرة وقد ابتلعتها المجاري. وكما ترى، فلكي تؤدب الأمّ ابنتها، يتعين عليها أن تضع الأكياس التي تزيد من معاناتها على الأرض. ومع ذلك يبدو أن الجهد الزائد كان يستحق هذا الجهد الإضافي. الطفلة تتعلّم لغة العنف، ولكن رغماً عنها. أما في المدرسة، فهي لا تفهم سوى القليل أيضاً. إنها تعرف بضع كلمات، الأشياء الأكثر ضرورة، رغم أنك قلما تفهمها بين بكائها ودموعها.
سرعان ما تتسع المسافة التي تفصل المرأة والطفلة الصاخبة خلف إريكا. فقد كانتا تتوقفان باستمرار! ولم يكن بوسعهما مجاراة سرعة الزمن. إريكا تغّذ الخطى. هذا حيّ سكني، لكنه ليس من الأحياء الراقية، حيث يعود الآباء إلى بيوتهم في وقت متأخر من الليل، يدلفون إلى مداخل العمارات، متوفزين ومستعدين للانقضاض على عائلاتهم مثل مطارق خفية. وتصفق أبواب آخر العربات وهي تغلق، فخورة وواثقة من نفسها، لأن هذه العربات الصغيرة يمكن أن تفلت من أيّ شئ، وهي عزيزة على قلوب أصحابها. وتُركن بألق شديد عند حافة الرصيف، ويهرع أصحابها لتناول طعام العشاء. وقد يتمنى أي شخص لا يملك بيتاً - جميلاً – أن يملك واحداً منها، لكنه لن يتمكن من أن يبني بيتاً، حتى لو حصل على قرض عقاري كبير. فأي شخص يملك بيتاً في هذه المنطقة، من بين جميع الأماكن، يفضل أن يمضي جلّ وقته في مكان آخر. يجتاز عدد أكبر وأكبر من الرجال طريق إريكا. أما النساء، كما لو كانت قد كتبت لهن صيغة سحرية، فقد اختفين في الثقوب التي تدعى "شققاً" هنا. ولا يجرؤن على الخروج بمفردهن في هذا الوقت من الليل، دون صحبة أحد من أفراد أسرتهن الكبار لاحتساء كأس من البيرة أو زيارة أحد الأقارب. نشاطاتهن غير المرئية والضرورية منتشرة في كل مكان. تنبعث روائح من المطابخ. ويُسمع أحياناً صوت قرقعة القدور واحتكاك الشوك والسكاكين. تتسرّب أول ملهاة من ملاهي العائلات في هذا المساء المبكر من إحدى النوافذ، ثمّ من نافذة أخرى، ثمّ من العديد منها. الكريستالات المتلألئة ترّصع الليل الذي بدأ يخيم. وتتحول واجهات المباني إلى ستارة خلف المسرح. فربما لا يدور شيء وراءها: وجميع هؤلاء الناس من طينة واحدة. أصوات التلفزيون وحدها هي الحقيقية، إنها الأحداث الفعلية. ويواجه الناس جميعهم في هذه المنطقة الأشياء ذاتها في الوقت نفسه، باستثناء شخص يحب العزلة، يشاهد قناة تربوية. ويطلع هذا الشخص الانعزالي على المؤتمر القرباني، مجهّزاً بالحقائق والأرقام. أما اليوم، فإذا أردت أن تكون مختلفاً، فيجب أن تسدد ما عليك.
يمكنك أن تسمع خوار الأحرف الصوتية التركية. وسرعان ما يتناهى إليك صوت كرواتي صربي على الفور. ثلل من الرجال، متأهبين انتظاراً وتحسباً، مجموعات صغيرة، تنطلق مسرعة بأعداد قليلة غير منتظمة، تتجه يساراً الآن إلى أسفل جسر القطار حيث أقيم مكان للفرجة على عروض للإغراء الجنسي (بيب شو) تحت أحد أقواس الجسر. لقد اُستغل المكان استغلالاً رائعاً، كلّ زاوية وكلّ شقّ فيه، لم يُهدر ولا سنتيمتر واحد. ولا شكّ أن الأتراك يعرفون جيداً شكل القوس من مساجدهم. لعل الشيء كله يذكرهم بالحريم. فقد تم تجويف القوس تحت الجسر وأصبح مليئاً بالنساء العاريات، حيث تنال كلّ امرأة منهن فرصتها، تباعاً. إنه جبل فينوس مصغّر. تانهاوسر يأتي، يضرب بعصاه. في هذا القوس المبني من الآجر، يقوم الرجال بالتحديق في النساء الجميلات. في هذا المحل الصغير الذي يضم عاهرات، تتمدد وتنبطح النساء العاريات، وهو شيء يلائم تماماً شكل القوس، روح واحدة في جسدين. تتناوب النساء فيما بينهن. يتبادلن أماكنهن في سلسلة كاملة من محلات الفرجة على عروض الإغراء الجنسي، وفق مبدأ عدم الرضا، كي يتمكن الزبائن الدائمون من رؤية لحم جديد بصورة مستمرة بين الفينة والأخرى. وإلا لتوقف الزبائن الدائمون عن المجيء. ورغم كل ذلك، فهم يجلبون معهم قدراً كبيراً من المال، ويُدخلون قطعة معدنية إثر أخرى، في شقّ يفغر فمه بنهم. وما إن تبدأ حرارة الأشياء بالارتفاع، حتى يضطر المتفرج إلى إدخال قطعة معدنية أخرى. يد تلقم النقود، واليد الأخرى تخض بعنف لتفرغ شحنة الرجولة. ففي البيت يأكل الرجل ما يكفي لثلاثة أشخاص، أما هنا فإنه يهدر طاقته بطيش ويذروها في الرياح.
وكان كلّ عشر دقائق، ينبعث صوت كهزيم الرعد عندما يمر قطار بلدية فيينا من فوق، فيهتزّ القوس بأكمله، لكن الفتيات لا يتوقفن عن الاستدارة والتلوي بعزيمة لا تفتر. فهنّ يعرفن المكان حق المعرفة، وتعوّدن على الضجيج. وما أن تُدخل قطعة العملة المعدنية، حتى ترتفع النافذة، ويبرز لحم وردي – يا لها من معجزة تقنية. ويجب عليك ألا تلمس هذا اللحم. لا يمكنك ذلك بسبب الجدار. وقد كسيت النافذة الخارجية بورق أسود، وزينت بزخارف صفراء رائعة. وقد ثبتت مرآة صغيرة على الورق الأسود، كي تتمكن من أن تنظر إلى نفسك. من يعرف لماذا. ربّما لتتمكن من تمشيط شعرك بعد ذلك.
ويتصل بمحل الفرجة، محل صغير لبيع الأشياء الجنسية، حيث يمكنك شراء ما كان قد أثارك. لا توجد نساء هنا. وللتعويض عن عدم وجودهن، يمكنك أن تجد سروالاً داخلياً صغيراً جداً من النايلون ذي عدة فتحات، من الأمام أو من الخلف. ويمكنك أن تجعل زوجتك ترتديه في البيت ثم تلجها دون الحاجة إلى أن تخلعه. وثمة قميص يلائمه ذو فتحتين مستديرتين. ويمكن للمرأة أن تخرج ثدييها من هاتين الفتحتين، فيما يظل باقي جذعها مكسواً بالقماش الشفّاف. والقميص مطرز من جانبيه. يمكنك أن تختار بين الأحمر الداكن والأسود. فالأسود يبدو أفضل على الشقراء، بينا الأحمر يناسب ذات الشعر الأسود.
ويمكنك أن تجد هنا أيضاً كتباً ومجلات وأشرطة فيديو وأفلام 8 مليمتر يعلوها الغبار. فهذه المواد لا تتزحزح من مكانها على الإطلاق. فالزبائن لا يملكون أجهزة فيديو أو أجهزة عرض. ويباع هنا مختلف أنواع الأصناف المطاطية الصحية ذوات السطوح المضلّعة؛ بالإضافة إلى دمى النساء القابلة للنفخ. ففي البداية، ينظر الزبائن إلى الأشياء الأصلية، ثمّ يشترون التقليد. ولسوء الحظ، لا يستطيع الزبون أن يصحب معه النساء العاريات الجميلات ليمارس معهن في غرفته الصغيرة المحمية. ولو كانت تلك النساء قد شهدن شيئاً مهماً في حياتهن، لما رأيتهن يتباهين بأجسادهن هنا. فهن يأتين إلى هذا المكان ويتظاهرن أمام الآخرين بأنهن لا يأتين. وهذا ليس من شأن المرأة. وسيأخذ الزبون أياً من تلك الفتيات بسرور عظيم، لا يهمه من، فكلهن متشابهات. ولا يمكنك أن تميّز الواحدة عن الأخرى إلا بشق النفس، فمن لون شعرهن على الأغلب. أما الرجال، فهم على عكس ذلك تماماً، فلكل منهم شخصية مميزة: إذ يحب بعض الرجال شيئاً، والبعض الآخر يحب شيئاً آخر. ومن الناحية الأخرى، ليس للعاهرة الشبقة القابعة وراء النافذة، وراء الحاجز، إلا رغبة واحدة عاجلة فقط: أن يستمر ذاك المتسكّع القابع وراء النافذة الزجاجية في الاستمناء حتى يسقط قضيبه. وبهذه الطريقة، يحصل كل من الرجل والمرأة على شئ، ويصبح الجوّ جميلاً ومريحاً. فلكلّ شيء ثمنه. تدفع مالك وتحصل على ما تختاره.
محفظة إريكا، التي تحملها مع حقيبتها الموسيقية، محشوة بقطع العملة المعدنية. ولا توجد نساء كثيرات يفعلن ذلك، لكن إريكا تريد أن تكون لها طريقتها الخاصة. وهكذا هي. فإذا فعل الناس شيئاً، فستفعل العكس تماماً. وإذا قال أحدهم اذهب، فإن إريكا وحدها ستقول توقّف، وهي فخورة بذلك. فهذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعلهم يلاحظونها. أما الآن فهي تريد أن تأتي إلى هذا المكان.
يفسح الأتراك واليوغوسلاف الطريق عندما يقترب هذا المخلوق القادم من عالم آخر. وفجأة يصيبهم عجز تام؛ فلو كان أمامهم خيار لاغتصبوا أيّ امرأة إذا أمكنهم ذلك. يتفوهون بأشياء لإريكا لكنها، ولحسن الحظ، لا تفهم ما يقولونه. تظل شامخة مرفوعة الرأس. لا أحد يلمس إريكا، حتى السكارى. إلى جانبها، ثمة رجل مسن يتفرج. هل هو صاحب المحل، المالك؟ النمساويون القلائل يعانقون الحائط. لا يوجد ثمة شيء يقوّي من شكيمة أنانيتهم، كما أنهم يلامسون مساً خفيفاً الأشخاص الذين يتحاشونهم عادة. يقومون بالملامسة الطبيعية الغير مرغوبة، بينما لا يحدث الاتصال الطبيعي على الإطلاق، لسوء الحظ، لعدم وجود الحافز الذكوري القوي. ولا يملك هؤلاء الرجال قدراً كافياً من المال لشراء نبيذ أصلي ممزوج بماء فوار، فقد شارف الأسبوع على نهايته. النمساويون يمشون بتثاقل وتردد على طول جدار الجسر. وقبل مكان العرض الكبير بقوس واحد، يوجد محل لبيع أدوات التزلج، ومخزن لبيع الدراجات. هذه الأماكن تغط في سبات عميق الآن، وهي في الداخل سوداء قاتمة. أما هنا، فثمة مصباح ودّي يشع نوره إلى الشارع، يجذب حشرات العثّ الجريئة تلك، مخلوقات الليل. إنهم يريدون شيئا لقاء المال الذي يدفعونه. كلّ زبون منعزل تماماً عن الزبون التالي. المقصورات المصنوعة من الخشب المعاكس مصممة لتلبية حاجاتهم. هذه المقصورات صغيرة وضيّقة، وشاغلوها المؤقتون أناس صغار. بالإضافة إلى ذلك، كلما كانت المقصورة أصغر، كان بوسعهم حشر أكبر عدد من المقصورات معاً. كي يتمكن عدد أكبر من الرجال من التنفيس عن أنفسهم خلال فترة قصيرة نسبيا.
يُفرغ الزبائن همومهم، لكنهم يخلفّون وراءهم سائلهم الثمين. وتحرص النساء اللاتي يقمن بالتنظيف على أن لا تنبت تلك البذور، رغم أنه لو سئل كلّ زبون، لأكّد أنه يتمتع بخصوبة زائدة. وعادة ما تكون جميع المقصورات مشغولة. هذه التجارة كنز دفين، منجم ذهب. يصطف العمال الأجانب بصبر في مجموعات صغيرة. ويقتلون الوقت بتبادل النكات عن النساء. ويتناسب حيّز المقصورة الصغير مباشرة مع الحيّز الصغير في بيوتهم، التي لا تتجاوز أحياناً ربع غرفة. إنهم معتادون على الغرف المكتظة، المحشورة، بل يمكنهم أن ينعموا بين الحواجز بالسرية بعيداً عن أعين الرقباء. رجل واحد فقط في كلّ مقصورة. هنا، يكون وحيداً مع نفسه. وما أن يلقم الآلة بقطعة نقوده المعدنية حتى تظهر له امرأة جميلة في شقّ الفرجة. تكاد الغرفتان الفرديتان اللتان تقدمان خدمات فردية للرجال أن تكونا فارغتين بشكل دائم تقريباً. وبوسع عدد قليل من الزبائن هنا أن يطلبوا خدمات خاصة.
تدخل إريكا، الأستاذة، إلى المبنى.
يدّ تمتدّ إليها بتردد، لكنها سرعان ما تنسحب إلى مكانها. إنها لا تدخل إلى القسم الخاص بالعاملين، بل تدخل إلى القسم المخصص للزبائن، القسم الأكثر أهميّة. هذه المرأة تريد أن تتفرج إلى شيء يمكنها أن تراه في مرآتها في البيت دون أن تدفع شيئاً. يبدي الرجال دهشتهم: فعليهم أن يقتروا على أنفسهم لادخار كلّ قرش ينفقونه خفية هنا وهم يجرون وراء النساء. الصيادون ينظرون من خلال ثقوب الفرجة، وتذهب النقود التي كان عليهم أن ينفقونه على بيوتهم في البالوعة. لا شيء يمكن أن يصرف اهتمام هؤلاء الرجال عندما يحدّقون.
كلّ ما تبغيه إريكا هو الفرجة. وهنا، في هذه المقصورة، تصبح نكرة. لا شيء يلاؤم إريكا، لكنها تلاؤم تماماً هذه الحجيرة. إن إريكا أداة مضغوطة في شكل إنسان. ويبدو أن الطبيعة لم تترك فيها أية فتحات. تشعر إريكا بوجود قطعة خشب صلبة في المكان الذي ثقب فيه النجار فتحة في أية أنثى حقيقية. لكن قطعة إريكا الخشبية اسفنجية، مهترئة، تنتصب وحيدة في غابة من الأخشاب، وقد بدأ التعفن ينهشها. لا تزال إريكا تتهادى مثل ملكة. وفي الداخل، فهي تبلى وتتفسخ، لكنها تحدّق بقوة في الأتراك فتثبط همتهم. يريد الأتراك أن يعيدوها إلى الحياة، لكنّهم يجفلون من غطرستها. إريكا، الملكة في كلّ ذرة فيها، تسير باتجاه كهف فينوس. لا يبدي الأتراك حرارة أو مودة، ولا حتى فتوراً. بل يتركون إريكا تسير وهي تحمل حقيبتها المليئة بالنوطات الموسيقية الكبيرة. يمكنها أن تتجاوز رتل الرجال، دون أن يبدي أحد أي اعتراض. إنها ترتدي قفازات أيضاً. يخاطبها الرجل الواقف عند المدخل بشجاعة ويقول لها مرحباً "مدام" تفضلي ادخلي، حيث تصب المصابيح الصغيرة أنوارها بهدوء على الأثداء والفروج، وترسم مثلثات كثيفة الشعر، لأن هذا هو أول شيء ينظر إليه الرجل، هذا هو القانون. الرجل لا ينظر إلى شيء، إنه ينظر إلى العدم الصافي. وبعد أن ينظر إلى هذا اللا شيء، يعود وينظر إلى كلّ شيء آخر.
تُخصص لإريكا مقصورة فاخرة. ليس عليها أن تنتظر، فهي سيدة. ويجب على الآخرين أن ينتظروا فترة أطول. تمسك بنقودها جاهزة بالطريقة التي تمسك بها الكمان. في أثناء النهار، تحسب أحياناً كم مرة يمكنها أن تتفرج بالقطع المعدنية التي وفرتها. فهي توفرها بتقليل طعامها أثناء الاستراحة. والآن، يغمر ضوء أزرق اللحم. حتى الألوان مختارة بعناية. ترفع إريكا منديلاً ورقياً من الأرض، يكسوه سائل منوي. ترفعه إلى أنفها. تستنشق الرائحة بعمق، ثمار كدّ شخص آخر. إنها تتنفّس وتنظر، إنها تستهلك فترة صغيرة من حياتها. ثمة نوادٍ يمكنك أن تلتقط فيها صوراً للفتيات. يختار كلّ زبون الفتاة التي يريد، حسب مزاجه وذوقه. لكن إريكا لا تريد أن تفعل، بل تريد أن تتفرج فقط. بكل بساطة فهي تريد أن تجلس هناك وتتفرج. تمعن النظر. إريكا، تتفرج لكنها لا تلمس. إريكا لا تشعر بشيء، ولا تتاح لها فرصة مداعبة نفسها. إذ إن أمّها تنام بجانبها وتحرس يديّ إريكا. إذ يفترض بهاتين اليدين أن تعزفا، لا أن تندسا تحت البطانية كالنمل يهرع إلى مرطبان المربّى. حتّى عندما تجرح إريكا أو تخز نفسها، فإنها لا تكاد تشعر بشيء. لكن عندما يتعلق الأمر بعينيها، فإنها تبلغ عندئذ قمّة الإحساس.
تعبق من المقصورة رائحة مطّهر. إنّ عمال النظافة جميعهم من النساء، لكنّهن لا يبدين كالنساء. إذ يلقين بسائل هؤلاء الصيادين المغسول بالماء بدون مبالاة في صندوق القمامة.
وتجد الآن مناديل ورقية مجعّدة ومتصلبة كالخرسانة مرمية هناك. بالنسبة لإريكا، يمكن أن تحصل عاملات التنظيف على استراحة ليرحن عظامهن المنهكة. إذ يتعين عليهن أن ينحنين عدداً لانهائياً من المرات. إريكا تجلس وتتفرج. حتى أنها لا تخلع قفازيها، لذلك يجب ألا تمسّ شيئاً في هذه المقصورة الصغيرة التي تفوح منها رائحة كريهة. ربما ظلت ترتدي قفازيها كي لا يرى أحد أصفادها.
ترتفع الستارة أمام إريكا، حتى يصبح بالإمكان رؤيتها وهي تشد الخيوط وراء الكواليس. لقد أقيم العرض كله من أجلها! لا يُسمح لامرأة مشوّهة أن تعمل هنا. الوسامة وحسن القوام مطلبان أساسيان. فكلّ فتاة تتقدم للعمل هنا تخضع إلى فحص جسدي دقيق وشامل: فصاحب المحل لا يشتري سمكاً في البحر. لم يسبق لإريكا أن فعلت ذلك على خشبة حفلة موسيقية، لكن نساء أخريات يقمن بذلك عوضاً عنها. إنهن يُقيّمن وفق استدارات أجسادهن وأعطافهن. تواصل إريكا الفرجة. وما أن تلقي نظرة واحدة، حتى تكون قد ألقت قطعتين نقديتين.
تتخذ امرأة ذات شعر أسود وضعية مبتكرة كي يتمكن المتفرج من رؤيتها. إنها تدور على شيء أشبه بعجلة الخزّاف. لكن من يدوّرها؟ في البداية تضم فخذيها معاً وتعتصرهما. لا يمكنك أن ترى شيئاً؛ لكن الريق يجف في الأفواه ترقباً. ثمّ تفتح ساقيها ببطء، وهي تستعرض فتحات عديدة. وفي بعض الأحيان، ورغم حرص الفتاة على أن تكون عادلة في عرض نفسها بالتساوي على جميع المتفرجين، فإن نافذة محددة تحظى بحظ أوفر من نافذة أخرى لأن العجلة لا تتوقف عن الدوران. ينبعث صوت نقرات عصبية من فتحات الفرجة. ما فاز باللذة إلا الجسور. ومن غامر مرة أخرى، ربما فاز بنصيب أكبر.
الجمهور المحيط يفرك ويدلّك بحماس شديد، ويختلط بشكل آني بآلة عجن هائلة لكن مخفية. عشر مضخات صغيرة تعمل بأقصى قدرة لها. وفي الخارج، يبدأ بعض الزبائن العملية التي تسبق عملية الحلب خفية، كي ينفقوا قدراً أقل من المال. سيكون لكلّ رجل امرأة ترافقه.
وفي المقصورات المجاورة، تفرغ المضخات التي لا تتوقف عن الهز والدفع شحناتها الثمينة. وسرعان ما تعود وتمتلئ مرة أخرى، يجب بلوغ حالة الرضا ثانية. وإذا حدث احتقان، يجب أن تدفع أكثر حتى تفرغ. خاصة إذا كنت منهمكاً في الفرجة إلى درجة تنسى معها أن تشغّل مضختك. ولهذا فهم يحضرون فتيات جديدات غالباً، كوسيلة لتشتيت الانتباه. الأحمق يحدّق لكنه لا يفعل شيئاً.
إريكا تتفرج. ما تراه يجعلها تدفع يدها بين فخذيها مظهرة متعتها برسم دائرة صغيرة بشفتيها. تشعر بالمتعة لأن عيوناً عديدة تراقبها، تغمض عينيها وتفتحهما ثانية، وترتفعان إلى أعلى نقطة في رأسها. ترفع ذراعيها وتدلك حلمتيها، حتى تنتصبا. ثم تجلس في وضع مريح وتباعد بين ساقيها إلى أبعد درجة. الآن يمكنك أن تنظر إلى عمق المرأة. تداعب شعر عانتها. تلعق شفتيها بشكل حسي، بينما يقوم أحدهم، ثم آخر، بمداعبة دودته المطاطية. يظهر وجهها كم سيكون رائعاً لو كانت معك. لكن للأسف، فهذا أمر بعيد المنال لأن الطلب شديد. وبهذه الطريقة، يمكن لكلّ شخص، لا لرجل واحد فقط، أن يحصل على شيء ما.
إريكا تتفرج بإمعان شديد. لا لتتعلم. لا شيء يتحرك في داخلها. ومع ذلك يجب أن تتفرج. لمتعتها. وعندما تشعر بالرغبة في مغادرة المكان، تشعر بشيء يضغط بقوة على رأسها ذي الشعر المصفف جيداً، ويعيده إلى اللوح الزجاجي، وتواصل الفرجة. يواصل القرص الدوّار الذي تجثم فوقه المرأة الجميلة دورانه. لا تستطيع إريكا أن تتمالك نفسها. عليها أن تواصل النظر. فهي محرّمة على نفسها.
إلى يمينها ويسارها، تسمع تأوهات وأنات بهيجة. أنا شخصيا لا أستطيع مجاراة ذلك، تجيب إريكا كوهوت، لقد توقّعت المزيد. شيء يتدفّق ويتطاير على الجدار المصنوع من الخشب المضغوط. الجدران سهلة التنظيف، فسطوحها ملساء. وإلى يمينها، كتب أحدهم بضع كلمات بمودّة على الجدار، " ماري، الفاسقة الملعونة"، بلغة ألمانية صحيحة. الرجال لا يخربشون الكثير من هذه الأشياء هنا، فلديهم أشياء أخرى يقومون بها. على أية حال، فهم ليسوا كلّهم جيدين عندما يتعلق الأمر بالكتابة. إذ لديهم يد حرة واحدة فقط، لأنهم يجب ألا يتوقفوا عن إدخال القطع النقدية.
امرأة سوقية ذات شعر أحمر مصبوغ تدفع ظهرها الممتلئ الآن ليصبح في مرمى النظر. ولم يتوقف المدلّكون الرخيصون منذ سنوات عن ضغط أصابعهم على العظام لإزالة طبقات الشحم المزعومة. على أية حال، فهي تُري المتفرجين المزيد لتحصل على قدر أكبر من مالهم. المقصورات من جهة اليمين ترى المرأة من الأمام، وأتيح الآن للمقصورات في الجهة اليسرى رؤيتها. ثمة رجال يرغبون في تقييم المرأة من الأمام، وآخرون يقيّمونها من الخلف. ذات الشعر الأحمر تحرّك العضلات التي تستخدمها عادة للمشي أو للجلوس. أما اليوم، فهي تكسب قوتها باستخدامها. تدلّك نفسها بيدها اليمنى، ذات المخالب الحمراء القانية. وبيدها اليسرى تخدش حول صدرها. وتشد بأظافرها الاصطناعية الحادّة حلمتها. كما لو كانت قطعة من المطاط، ثم تتركها لتثب وتعود إلى مكانها. تبدو حلمتها غريبة عن جسدها. ذات الشعر الأحمر تفعل ذلك عدة مرات حتى تتأكد أن الشخص المرشّح على وشك أن يفعلها! من لا يستطيع الآن، لن يستطيع بعد ذلك. وأيّ رجل يقبع وحيداً الآن لا يلوم إلا نفسه. أأراد أم لم يرد، فسيبقى وحيداً لفترة طويلة.
وصلت إريكا إلى درجة الإشباع. يجب أن تعرف متى يجب أن تتوقف. إن الأمر زاد عن حده، قالت ذلك في أحيان كثيرة من قبل. تستوي واقفة. لقد وضعت إريكا حدوداً لها منذ عهد بعيد، وقد كفلتها بتعهدات لا تقبل النقض. إنها ترى كلّ شيء من موقع عال ممتاز، يتيح لها أن تنظر بعيداً عبر الريف. الرؤية الجيدة مطلوبة. لكن مرة أخرى، لا تكترث إريكا بالنظر إلى أبعد من ذلك. تغادر المكان.
نظرتها وحدها تكفي لإزاحة الزبائن من طريقها. يأخذ رجل مكانها بطمع. ينشق طريق أمامها عبر الزبائن. تخطو إريكا وتبتعد. تمشي وتمشي بطريقة آلية، كما كانت تنظر وتنظر في السابق. أيّ شيء تفعله إريكا، تفعله بإخلاص وحماس. لا تفعل شيئاً بفتور وضعف همة، كانت أمها تقول لها دائماً. لا شيء بشكل مبهم. إذ لا يوجد فنان يمكنه أن يتحمّل عملاً ناقصاً أو غير مكتمل. أحياناً لا يكتمل العمل لأن الفنان يموت قبل الأوان. تواصل إريكا سيرها. لم يتهتك شيء، لم يبهت لون شيء. لم تبلغ شيئاً. لم تحقق شيئاً.
في البيت، توجّه الأمّ عتاباً خفيفاً للحاضنة الدافئة التي تقبع فيها هما الاثنتان. أرجو ألا تكون إريكا قد أصيبت بالبرد أثناء رحلتها (فقد كذبت على أمها أين كانت). ترتدي الفتاة رداء حمّام دافئ. تأكل هي وأمّها بطّة محشوة بالكستناء وأشياء لذيذة أخرى. إنها مأدبة. الكستناء يتفجر داخل البطّة؛ أسرفت الأمّ في إعداد الطعام، كما هو دأبها. الممالح والمباهر مطلية بالفضّة، أما الأواني الفضية فهي من الفضة الخالصة. وجنتا الطفلة ورديتان اليوم، والأمّ مسرورة لذلك. أرجو ألا يكون تورد الوجنتين هذا بسبب الحمّى. تجس الأمّ جبهة إريكا بشفتيها. ومع طبق الحلوى ستقيس الأم حرارة إريكا بميزان الحرارة. لحسن الحظ، فقد استبعدت الحمّى كأحد الأسباب المحتملة. إريكا تتمتع بصحة جيدة – سمكة جيدة التغذية تعوم في السائل الرحمي للأم.
الرواية الحائزة على جائزة نوبل للآداب لعام 2004
*
التعليق