ماذا فعل بي جورج قرداحي؟            من هي سيمون دي بوفوار؟؟؟؟            إمتنان قصيدة للشاعرة العراقية فيء ناصر             حياة محمد أركون بقلم إبنته سيلفي             مقولة اليوم لسيمون دي بوفوار : المرأة لا تولد إمرأة و إنّما تصبح كذلك       يمكننا شحن اللوحات أيضا إليكم : آخر لوحة وضعت على الموقع لوحة الرسامة اللبنانية سليمى زود             يقدم الموقع خدمات إعلامية منوعة : 0096171594738            نعتذر لبعض مراسلينا عن عدم نشر موادهم سريعا لكثرة المواد التي تصلنا، قريبا ستجد كل النصوص مكانا لها ..دمتم       نبحث عن مخرج و كاميرامان و مختص في المونتاج لإنجاز تحقيق تلفزيوني             فرجينيا وولف ترحب بكم...تغطية فيء ناصر من لندن             boutique famoh : أجمل اللوحات لرسامين من الجزائر و كل العالم             لوحات لتشكيليين جزائريين             المثقف العربي يعتبر الكاتبة الأنثى مادة دسمة للتحرش...موضوع يجب أن نتحدث فيه            famoh : men and women without Borders       famoh : femmes et hommes, sans frontieres       ***أطفئ سيجارتك و أنت تتجول في هذا الموقع            دليل فامو دليل المثقف للأماكن التي تناسب ميوله...مكتبات، ، قهاوي، مطاعم، مسارح...إلخ...إلخ           
سرديات عودة
" تداعيات الماضي" نص قصصي للقاص الجزائري فؤاد قاسمي  (الخميس 14 ت2 2013)


ما إن فُتِح باب الحافلة حتّى داهمت ركّابَها همسةٌ من بردِ بلدته الزَّمْهَرير. لايزال بردُها على عهدهِ به! وكذلك رائحة صباحاتها الشتوية.

على عجل! ترجّل منشرح الصدر سعيدا كالفتى يوم العيد، مقبلا على زوايا مدينته الصغيرة يتنشّق ماضيه المعتّق فيها، ويحتمل فوق هموم اغترابه همومه القديمة من جديد.

لم يطلّ الصبح بعد. وراحت ظلمة الليل المتلاشية تحتضنها أضواء أعمدة الإنارة العمومية ترسم لوحة بديعة، في سماء المدينة، ألِفها طوال سنوات شبابه.

أثار المنظر في نفسه روح الطفولة حتى أسقطت، إذ حضرت، كلَّ حذَرِ الشّباب وأقنعة كبريائه!... دون اعتبارٍ لأي من أعراف الرجولة، أخذ يسير على حافة الرصيف موازنا ثقله بذراعيه .. ببراءة الطفل، الأسير بداخله، اندفع يجري متجاهلا ثقل حقائبه، مستقبلا صبح مدينته القرية كسجين كسرت أغلاله توّا.

أمام مقهى لا يذكر له وجودا لمح "طاولة سجائر"، فاندفع، دونما تفكير، نحوها يبحث عن دواء لعطشه. كان البائع شابّا لا يعدوا السادسة عشرة من العمر، ذا هندام عصري أنيق، غارت عيناه في رأسه وازرقّت شفتاه الرفيعتان لفرط استهلاكه للـ"زطلة" ربما!. دونما تحية أو كلمة مد يده متناولا علبة من نوع سجائره المفضل.

- قل صباح الخير على الأقل !... بادره البائع ممازحا.

- "صباح الخير"، سامحني فقد غلبني الصداع ولم أر عندما لمحت السجائر غيرها أمامي.

- "ماعليش!..." رد البائع دون أن يضيف كلمة أخرى.

إلى طاولة كان "القهواجي" يهمّ بمسحها جلس متنهدا، مدّ رجليه مسترخيا بعد أن وضع حقائبه، وقيثارته، بحذر إلى جانبه، ثمّ طلب والابتسامة تعلو وجهه في لطف المستجدي "قهوا ثقيلَا".

لم يكن من زبائنَ في المقهى إذْ ألقى بنظره في الداخل، ولا أحدَ غيرَه وبائعَ السجائر في الخارج أين جلس.

أشعل سيجارة منتظرا قهوته، وجعل يلتهمها في لهفة كما يلتهم الهواءَ الغريقُ، لم يدخن منذ ساعات طوال، ما جعل تلك السيجارة تصيبه بدوار لطيف يستحسنه كلّ مدخّن.

لم يلبث أن جاءه الـ"قهواجي" بقهوة أحيت وهو يتناول أول رشفة منها، بعد أن أضاف إليها "كثيرا" من السكر، في قلبه شعورا بالدفء لم يراوده يوما، إلا هاهنا في مدينته.

أحس أخيرا! أنه في بلده، وسط أهله وإن لم ير منهم أحدا بعد... طوال ما يقرب الساعة من الزمن، جلس هناك محدقا في الفراغ يدخّن سيجارة تلو الأخرى تائها بين خياله الحالم وذاكرته البائسة الذين لم يعرف طوال حياته عدوين لبعض ألدّ منهما.

- "الله أكبر" .. "الله أكبر"...

ارتفع الآذان تلو الآخر معلنا بداية يوم جديد، ويا لروعة صوت الآذان في بلدته! ..

مضى على سماعه الآذان حين! ..

ولعلّ السبب في استحسانه صوتَ الآذان غربته، أو لعلها ذكرياته، من تلك الأيام حين بلغ الثالثة عشر، وقضى أبوه العجوز أن يلزمه الصلاة في المسجد إلى جنبه .. أو ربّما هو ملمس راحة يد أمه الناعمة على وجهه ورأسه تهدئ من روعه في كلّ مرّة عاد فيها إلى البيت قبيل الفجر، ليجد حزام أبيه الجلدي منتظرا ظهره الذي ألِفَ الجَلْد كحمارٍ عنيد. أيا كان السبب فقد خلف صوت الآذان في نفسه صفاءً وراحة كتلك التي غمرته كلما احتضنته حبيبته "البلدية" المضطربة.

لم يتمّ الآذان بعد، وجعلت لطخات ظلال رؤوسٍ ناعسة تتسلل وسط الظلمة المنحسرة إلى المسجد "العتيق" مشكلة منظرًا كان قبل رحيله عن القرية يرى فيه نفاقا ورياء وتكلّفا، لكنه اليوم يفهم ما قد يقود بعض هؤلاء إلى صلاة "الصبح".

بقي كما هو .. جالسا إلى طاولته مشغولا بسيجارته وقهوته كأنهما أهم ما عنده. مدّ يده في جيب سرواله متناولا سماعات أذن "فاخرة" عزل بها سمعه عن العالم منصتا إلى "سيمفونيات هيقصبث" التي اتخّذ منها طقسًا صباحيًّا، لمْ يَزلْ مُداومًا عليه مذْ رحل إلى "بْلاد الناس" ..

كانت ألحان تلك المقطوعات الخرافية ترانيمَ استحضرَ على وقعِها، وخطواتِ قدميه المسرعتين إلى العمل، كل يومٍ شيطانَه يحتمِل في جعبته من "أمّه الأرض": دهشَتَهُ وهو ابن سبعٍ في حضرة ضحكات فتيات "عَرْشِهِ" "الكاسيات العاريات" إذ هنّ حول ابنة عمه يزينّها ليلة عرسها .. ووقع رطانة أبيه وكبار الـ"جماعة"، في محفل الرجولة والـنيف، بالشاوية على أذنه أول مرة .. ورائحة "رخساس" كلّ صباح أيام مكث عند عمته في الريف ذات شتاء .. وما طاب ولذّ له من ذكريات.

حتى الآذان! لم يستطع في غربته تلك أن يستحضر ولو أشباحا مما كانت القصبة تحيي في وجدانه.

أمغار...


التعليق بقلم فضيلة الفاروق