سرديات عودة
مقتطفات من رواية " حبٌ يبحث عن وطن" للجزائرية هدى درويش ..خاص فامو " (السبت 10 آب 2013)
وصلت آمال إلى جنيف في يوم غريب في تاريخها، وبنفس الطقس الكئيب استقبلتها واحدة من أجمل بقاع سويسرا، من ثمة إلى الفندق الذي كان في استقبالها، وقد كان مكانا جبليا رائعا، وكأنه مبنى أوجدته الصُدف في ديكور الطبيعة، وأضفتْ عليه يد الإله جمالا لا مثيل له، ومن بعد ساعات من الاستراحة والتي لملمتْ فيها ما بقي من تراثها النفسي، لبستْ معطفها الأسود، ونزلت تجُّر قاماتها محاولة استكشاف المكان الجذاب بحسن الطبيعة وإبداع السماء. كان الجو باردا في ذلك اليوم، وكانت الغيوم تبكي أمطار الاشتياق لأماكن أحبّتها وأقامت فيها، بل تشكلتْ بعدما كانت أجزاء متناثرة في يوم كانت فيه الأرض هادئة، لا صراخ فيها ولا غضب، لكنها تفاجأتْ بقرار الرحيل، حينما بدَّلت الطبيعة حنانها قسوة وتصّلب، فرحلت تلك الغيمات إلى مكان أكثر تحجّرا، وأصبحت تنفق وكوف الحنين والبعد عن الديار، وهكذا كانت العاصفة نفسها في صدر آمال، كانت رغم كل جمالها شبيهة بتلك الغيوم، الفرق بينهما ليس بكبير سوى أن الحسناء كانت تمشي على الأرض، أما الغيوم فكانت تزحف في عنان السماء، كانتا تمشيان معا، تحملان في جعبتهما نفس الألم ونفس البكاء، وإن كانت غيوم الشتاء أحسن حالا من آمال، فقد كانت تمشي جماعات تقدم لبعضها المواساة، أما تلك الأنثى الحزينة، فكانت تمشي وحيدة على طول ذلك الطريق المغطى بالأشجار سقفا وجانبا، كان المكان يحمل روعة المأساة وقمة التراجيدية، حيث افترشت وريقات الأشجار الصفراء ترابه، فكان يحتفظ بانهيار الخريف في جبروت الشتاء... يصاحب ذلك الطريق على طوله واد صغير، يكسر وحشة الصمت بمعنى الحياة، ويزرع في أحزان الكبت جمالا ورونقا بخرير مياهه الخافت... جلست آمال إلى جانب ذلك الرافد، وأصبحت تستقرئ في عبراته كلاما كثيرا، من أي موطن أتى؟ وإلى أي ارض غريبة سوف يسافر...؟ فأصبحت بذلك تبحث لكل شيء عن وطن؟ وعن ارض يجب أن يبق وفيا لها... وفؤادها ينبض في صدر مزَّقه تضارب العواطف
خرجت آمال في تلك الليلة الليلاء، تمشي مع من يمشون من البشر في أزقة جنيف العريقة في القِدَم، والغريقة على جانبها الآخر في مظاهر الحضارة. كانت تمشي بروح تعبؤها الأحزان وتدوس على أحلامها ضغوطات الثورة، ثورة الوطن وثورة النفس، وأحيانا كثيرة ثورة الحب... آمال الآن تفكر في بسّام الذي أضاعه القدر خارج أسوار فلسطين، ولكن هل ضاع منها عشقها إليه أيضا...؟ كانت تحاول تفسير موقفها في مشوار البحث، هل هو عن حب تشكو الحنين إليه؟ أو عن وطن تحلم به الكلمات في ريشة شاعرة وقيثارة ثائرة؟ أم كانت بعد كل هذا الضجيج تبحث عن نفسها بين ضوضاء الحرب وهدوءها ...؟ والغريب في ذلك أنها كانت تبحثُ عن سبيل يوصلها إليه في جنيف، فما أدراها أنه هناك؟ وما أبعدَ هذه الأرض الغريبة التي تعُّد أنفاس العرب؟ و بينما هي تمشي حائرة في أمرها، وإذا بها تبتعد قليلا عن الأماكن المزدحمة بأحذية المارة وصفير المترو، وقفتْ تفكر في الرجوع من حيث أتَتْ، كان المكان جميلا، ساكنا، يصنع رونقه الفراغ والصمت الذي يخيم على سمائه وترابه، بل وحتى مياه ذلك الوادي الصغير تصمتُ أيضا، تأخذ من الأيام عبرة الكبت والتكتم، خوفا من ريح عنيفة تبعث بها إلى حيث لا تحتسب. تدير رأسها إلى الجانب الآخر للطريق، محاولة بفضولها زيادة استكشاف المكان والاستمتاع برومانسيته الحزينة، لترى هنالك في الزاوية رجلا غامضا...
... هدى درويش
التعليق
وصلت آمال إلى جنيف في يوم غريب في تاريخها، وبنفس الطقس الكئيب استقبلتها واحدة من أجمل بقاع سويسرا، من ثمة إلى الفندق الذي كان في استقبالها، وقد كان مكانا جبليا رائعا، وكأنه مبنى أوجدته الصُدف في ديكور الطبيعة، وأضفتْ عليه يد الإله جمالا لا مثيل له، ومن بعد ساعات من الاستراحة والتي لملمتْ فيها ما بقي من تراثها النفسي، لبستْ معطفها الأسود، ونزلت تجُّر قاماتها محاولة استكشاف المكان الجذاب بحسن الطبيعة وإبداع السماء. كان الجو باردا في ذلك اليوم، وكانت الغيوم تبكي أمطار الاشتياق لأماكن أحبّتها وأقامت فيها، بل تشكلتْ بعدما كانت أجزاء متناثرة في يوم كانت فيه الأرض هادئة، لا صراخ فيها ولا غضب، لكنها تفاجأتْ بقرار الرحيل، حينما بدَّلت الطبيعة حنانها قسوة وتصّلب، فرحلت تلك الغيمات إلى مكان أكثر تحجّرا، وأصبحت تنفق وكوف الحنين والبعد عن الديار، وهكذا كانت العاصفة نفسها في صدر آمال، كانت رغم كل جمالها شبيهة بتلك الغيوم، الفرق بينهما ليس بكبير سوى أن الحسناء كانت تمشي على الأرض، أما الغيوم فكانت تزحف في عنان السماء، كانتا تمشيان معا، تحملان في جعبتهما نفس الألم ونفس البكاء، وإن كانت غيوم الشتاء أحسن حالا من آمال، فقد كانت تمشي جماعات تقدم لبعضها المواساة، أما تلك الأنثى الحزينة، فكانت تمشي وحيدة على طول ذلك الطريق المغطى بالأشجار سقفا وجانبا، كان المكان يحمل روعة المأساة وقمة التراجيدية، حيث افترشت وريقات الأشجار الصفراء ترابه، فكان يحتفظ بانهيار الخريف في جبروت الشتاء... يصاحب ذلك الطريق على طوله واد صغير، يكسر وحشة الصمت بمعنى الحياة، ويزرع في أحزان الكبت جمالا ورونقا بخرير مياهه الخافت... جلست آمال إلى جانب ذلك الرافد، وأصبحت تستقرئ في عبراته كلاما كثيرا، من أي موطن أتى؟ وإلى أي ارض غريبة سوف يسافر...؟ فأصبحت بذلك تبحث لكل شيء عن وطن؟ وعن ارض يجب أن يبق وفيا لها... وفؤادها ينبض في صدر مزَّقه تضارب العواطف
خرجت آمال في تلك الليلة الليلاء، تمشي مع من يمشون من البشر في أزقة جنيف العريقة في القِدَم، والغريقة على جانبها الآخر في مظاهر الحضارة. كانت تمشي بروح تعبؤها الأحزان وتدوس على أحلامها ضغوطات الثورة، ثورة الوطن وثورة النفس، وأحيانا كثيرة ثورة الحب... آمال الآن تفكر في بسّام الذي أضاعه القدر خارج أسوار فلسطين، ولكن هل ضاع منها عشقها إليه أيضا...؟ كانت تحاول تفسير موقفها في مشوار البحث، هل هو عن حب تشكو الحنين إليه؟ أو عن وطن تحلم به الكلمات في ريشة شاعرة وقيثارة ثائرة؟ أم كانت بعد كل هذا الضجيج تبحث عن نفسها بين ضوضاء الحرب وهدوءها ...؟ والغريب في ذلك أنها كانت تبحثُ عن سبيل يوصلها إليه في جنيف، فما أدراها أنه هناك؟ وما أبعدَ هذه الأرض الغريبة التي تعُّد أنفاس العرب؟ و بينما هي تمشي حائرة في أمرها، وإذا بها تبتعد قليلا عن الأماكن المزدحمة بأحذية المارة وصفير المترو، وقفتْ تفكر في الرجوع من حيث أتَتْ، كان المكان جميلا، ساكنا، يصنع رونقه الفراغ والصمت الذي يخيم على سمائه وترابه، بل وحتى مياه ذلك الوادي الصغير تصمتُ أيضا، تأخذ من الأيام عبرة الكبت والتكتم، خوفا من ريح عنيفة تبعث بها إلى حيث لا تحتسب. تدير رأسها إلى الجانب الآخر للطريق، محاولة بفضولها زيادة استكشاف المكان والاستمتاع برومانسيته الحزينة، لترى هنالك في الزاوية رجلا غامضا...
... هدى درويش
التعليق