ماذا فعل بي جورج قرداحي؟            من هي سيمون دي بوفوار؟؟؟؟            إمتنان قصيدة للشاعرة العراقية فيء ناصر             حياة محمد أركون بقلم إبنته سيلفي             مقولة اليوم لسيمون دي بوفوار : المرأة لا تولد إمرأة و إنّما تصبح كذلك       يمكننا شحن اللوحات أيضا إليكم : آخر لوحة وضعت على الموقع لوحة الرسامة اللبنانية سليمى زود             يقدم الموقع خدمات إعلامية منوعة : 0096171594738            نعتذر لبعض مراسلينا عن عدم نشر موادهم سريعا لكثرة المواد التي تصلنا، قريبا ستجد كل النصوص مكانا لها ..دمتم       نبحث عن مخرج و كاميرامان و مختص في المونتاج لإنجاز تحقيق تلفزيوني             فرجينيا وولف ترحب بكم...تغطية فيء ناصر من لندن             boutique famoh : أجمل اللوحات لرسامين من الجزائر و كل العالم             لوحات لتشكيليين جزائريين             المثقف العربي يعتبر الكاتبة الأنثى مادة دسمة للتحرش...موضوع يجب أن نتحدث فيه            famoh : men and women without Borders       famoh : femmes et hommes, sans frontieres       ***أطفئ سيجارتك و أنت تتجول في هذا الموقع            دليل فامو دليل المثقف للأماكن التي تناسب ميوله...مكتبات، ، قهاوي، مطاعم، مسارح...إلخ...إلخ           
سرديات عودة
فصل من رواية علوية صبح "إسْمُه الغرام" (الخميس 30 أيار 2013)


هزتني برفق
خُيل إلي أني غاطسة في النوم، وهذا ما يحدث معي دائماً. كثيراً ما تأتيني وتفعل ذلك، وخصوصاً منذ بدأت حرب تموز فواصلت نومي.
مرة أخرى شعرت بيدها تعود وتهزني بعنف. بدون شعور مني، خطر في بالي لما فعلت ذلك، أن أقوم واتصل بسعاد وأطمئنها الى أن نهلا عادت وظهرت، لشعوري بأن قلق العالم كان موجوداً في صوتها لما جاءتني وسألتني عنها.
انتبهت هذه المرة الى أن هذا لا يحدث في النوم، مثل المرة السابقة التي هزتني فيها برفق وعدت وغطست في نومي.
لم أكن مضطرة الى رفع رأسي والتطلع في وجهها لإدرك من هي، لأنني عرفتها من صوتها. كان شديد الوضوح عندما قالت لي: "قومي يا عمي اكتبي وخلصي. شو بدك ياني موت قبل ما تكتبي، حتى تكتبي على ذوقك وتغيري بالقصة مثل ما بدك".
صوتها في أذني كان عذباً، ومخدوشاً ببحتها التي طالما كانت تثير هاني، فيمتلئ صدره بتيار ساخن يذيبه عشقاً بها.
تحفزت وتأهبت بعدما جلست على سريري متكئة الى جنبي الأيسر ومديرة ظهري لها.
الدفتر أمامي على "الكومود" والقلم أيضاً، لكن يدي لا تطاوعني على الكتابة كما في المرات السابقة، التي جاءتني فيها وهزتني لأكتب. فجأة، وجدت نفسي أحكي حالي، وأقول: "طيب، شو بدي أكتب وأنا ما بعرفك منيح، وما بعرف إلا اللي حكيتيلي اياهن، وما بِكفو لاكتب حياتك".
سمعت صوتها الساخر يقول لي: "مين قلك حتى لو عرفتيني وقتاً طويلاً حتعرفيني بالكامل لتكتبي عني. قومي اكتبي، وأنت وعم تكتبي رح تصيري تستهدي ويمكن بتصيري تعرفيني. وما تنسي إنُه الكتابة دايماً ناقصة".
اكتسى صوتها بنبرة حزينة لما قالت ذلك، ثم ساد سكون وسطه، أحسست أنه سكون مشبوه وليس حقيقياً، لان رأسي كان يضج بكل صخب الأفكار.
رجعت من جديد أحاول تهدئة حالي. أمرت جسدي بأن يسترخي على السرير بعد أن صرخت بعقلي أن يكف عن القفز والرقص وهذا الجنون كله. ثم لوهلة سألت نفسي ما الذي حدث؟ هذا ليس مناماً. كنت متأكدة من أني لست غافية لكن لا أعلم لماذا كنت ممددة على السرير بثيابي وحذائي. وكنت على يقين بأني لا أحلم أحلام يقظة. الكتابة لا تشبهها وشياطينها لا أؤمن بها. تأتيني في لحظة تفكر وتركيز، وإن كنت أرى أبطالي في مناماتي أحياناً، وأحلم بأني أكتب مرات أخرى. لم أكن في هذه الحالات أبداً، ولا أعرف ماذا أسمي الذي حدث.
نهضت من سريري واتجهت الى مكتبي. أسندت كوعي فوق طاولة المكتب وأغمضت عيني أمام أرواقي البيضاء، وضغطت بأصابع يدي على جبيني، ورحت أفكر في نهلا. ثم بحركة عفوية وضعت يدي اليمنى على كتفي في المكان عينه الذي أحسست بأصابعها وهي تلكزني، حين طلبت مني أن أكتب.
حاولت أن أبدأ بكتابة قصتها، لكني ما استطعت. لم يكن ثمة إمكان للكتابة. كنت مرهقة أهذي من التعب. منذ بدأت حرب تموز لم أذق النوم والمعارك اليوم بين المقاومة والجيش الإسرائيلي في وادي الحجير، وفي قرى عدة. منذ أسابيع وأنا مسمرة أمام شاشة التلفاز، أقلب الأقنية وعيناي كأنهما انقلبتا وصار حجراهما داخلهما، ولون الدم صبغهما وأعماني. متابعة الأخبار شلت قواي ودماغي. إحساسي بجلدي الذي يجمعني لم يعد موجوداً. أوصالي أحسبها مقطعة أمامي مثل الضحايا الذين أراهم على الشاشة، ودماغي طحنته نشرات الأخبار، ومشاهد الأطفال الذين يلوحون مثل الخرق وهم يحملونه ثم يتحولون الى أسماء مكتوبة على أكياس نايلون تفترش الأرض مصفوفة بانتظام. وجسدي أحس به أشلاء تحت الأنقاض انتظر حتى ينتشلها، مثل الناس الذين قضوا تحت منازلهم.
التبست علي الأشياء كلها لما حاولت أن أبدأ الكتابة ولم أعد أدرك إن كنت أعرف امرأة اسمها نهلا حكت لي حكايتها لأكتبها، أم أني أتخيل حياة امرأة من بين الذين رأيتهم ينتشلونهم من تحت أنقاض منازلهم.
هي حرب مدمرة أخرى تقتلعني من وحدتي وأرواقي وأبطالي ومن عالم الكتابة. كما تقتلع الناس من بيوتهم، تردني الى الواقع وتهدد العالم ا لذي بنيته. كأن الحرب تهد البناء الروائي وليس أبنية البشر فحسب. ثم كان من الصعب الدخول الى رأسي والالتقاء بأفكاري ومواجهتها وجهاً لوجه، فالحرب تجعلها تنسحق، تمحى أو تنطحن. ويدي كانت كأنها مقطوعة مثل يد طفلة شاهدتها على الشاشة ولا قدرة لي على الكتابة، ونهلا تلكزني كي أكتب حكايتها.
لم يكن أمامي سوى أن أطاوع نهلا لأقاوم موتي بالكتابة، حتى لا تتحول الرواية الى اسم على أوراق بيضاء. ثم إن لم أكتب حياتها ألن أجعلها تتحول الى مجرد اسم مكتوب على كيس نايلون مثل مصير وحيوات أولئك الأطفال والضحايا الأبرياء؟
وجدت نفسي مدفوعة الى الكتابة والانغماس في عيش قصة نهلا المليئة بالحب والحياة. ثم إن ما فاجأتني به سعاد من اختفاء نهلا ولّد لدي رغبة غير طبيعية لاتابع قصتها، وأعرف مصيرها.
لم تتصل بي نهلا بعد عودتها من باريس حيث التقت حبيبها هاني ليقررا مصير علاقتهما، منذ بدأت الحرب. حاولت مراراً الاتصال بها على هاتفها النقال لأطمئن عليها والجواب كان دائماً أنه ليس في الخدمة بعد، أو يرن ولا أحد يجيب. والغريب أنني وجدت على هاتفي مرتين "مسد كول" منها، لم انتبه لهما من قبل، لشرودي الدائم عن سماع رنين الهاتف. ثم حين أعدت الاتصال برقمها لاحقاً، لم يرد علي أحد. توقعت مراراً أن تعيد الاتصال بي، لكن توقعاتي كلها لم تتحقق. والأغرب انني كنت قد صادفت صديقاتها عزيزة وهدى ونادين في المقهى مراراً من دونها ومن دون سعاد وانتبهت حينها أنهن كن يحاولن أن يتجنبن النظر الي. وما زادني استغراباً أنهن صرن فجأة يلاحقنني بعد فترة ويسألنني إذا كنت أعرف شيئاً عن مصيرها.
إنها سعاد التي خربطت أوراقي.
لم يخطر في بالي أن تاتيني والحرب دائرة وتسألني إن كنت أعرف أين نهلا. في زيارتها الأولى لبيتي، لم تسألني سعاد الصامتة دائماً غير هذا السؤال.
كانت الساعة الثامنة صباحاً عندما رن جرس بابي، ذات نهار من نهارات الحرب، ارتعبت وبوغت. خفت أن يحمل الطارق خبراً سيئاً يخص أحداً من أهلي وأصدقائي، ولا سيما أن الوقت مبكر وليس من العادة أن استقبل زواراً في مثل تلك الساعة والحرب الدائرة تحصد المزيد من القتلى والشهداء. ركضت الى الباب. وقفت خلفه: وسألت "من الطارق؟" فجاءني صوت مخنوق، يقول:
أنا..
مين أنت؟
سعاد، صديقة نهلا.
فتحت الباب وتفاجأت بها. منظرها كان مرعباً، كأنها لم تنم منذ دهور وجهها أسود أكثر من العادة، ولفتني أن عينيها بدتا بلا رموش. أمسكت بيدها وأجلستها على الكنبة، وطلبت منها أن ترتاح لنشرب القهوة معاً. نبهتها رائحة القهوة وصوت دعساتي حين عدت من المطبخ حاملة الصينية وعليها ركوة القهوة وفنجانان. استعادت تركيزها وأزاحت عينيها الذاهلتين المسمرتين على فراغ الحائط. ما إن جلست على الكنبة الى جانبها، بادرتني السؤال عما إذا كانت نهلا قد اتصلت بي. وبسرعة خاطفة حملت حقيبتها في يدها، وفي عينيها دمعتان، ثم خرجت لما قلت لها إنها لم تتصل والى أين ذهبت وأين هي ولماذا ستتصل. سؤالها لي عن نهلا أثار دهشتي وفضولي، وفي الوقت نفسه جعلني أرتاب بها.
مستحيل ألا تعرف سعاد أين هي نهلا، فهما لا تفترقان ابداً، ونهلا لا تخفي عنها أسرارها فلماذا تجهل سعاد هذه المرة أين ذهبت توأم روحها؟ ثم إني استغربت أن تسألني شخصياً سعاد، وأنا التي لا أعرفها كثيراً ولم التق بها سوى مرات قليلة عند نهلا أيام كانت تروي لي بحضورها نتفاً من حكايتها.
لم يكن قد مر أسبوع على مجيء سعاد الى بيتي، حتى عادت واتصلت بين تليفونياً وطلبت مني أن أراها. انشغل بالي، واعتبرت أن الموضوع جدي، فطلبت منها أن نلتقي في مقهى "ليناز" في الحمرا، فوافقت فوراً.
عبرت الشارع في اتجاه المقهى عند الساعة الخامسة بعد الظهر كما تواعدنا. كان الشارع شبه خال على عكس ساعات النهار، حيث زحمة سيارات وتجمّعات بشرية من المهجّرين غيّرت من مظاهر الحياة العادية فيه، بينما القصف على الضاحية الجنوبية لبيروت يهزّ الفضاء والأبدان.
في "الليناز"، أخبرتني سعاد أنها لا تعرف أين نهلا، وأنها تفتش عنها منذ أيام. وأضافت وهي دامعة العينين:
ـ أنا إللّي قاهرني أنه مستحيل تختفي نهلا بهالطريقة، ومش وجّا هالوجّ. بس ليش مختفية مش عارفة. هيدا شي مجنّني.
قالت ذلك ثم بلعت دموعها وكلامها، واكتفت بأن طلبت منّي مساعدتها على معرفة مصير نهلا ما دمت أنا من يكتب حكايتها، وأن أُخبرها في حال اتصلت بي.
هدّأتها وطمأنتها الى أنه لا داعي للخوف. وبرغم شعوري بأنها كانت تخفي تفاصيل اكتشفتها لاحقاً، كان لديّ إحساس بأن نهلا ستعود وتظهر قبل انتهاء الرواية، لكني لا أعرف متى، وكيف. ثم أعدت قراءة ما دوّنته على الأوراق وهي تحكي لي حكايتها، ربما تكشف لي تلك الأوراق شيئاً، ولعلّي أستهدي أيضاً على مصيرها من حكايتها، فازداد إحساسي بظهورها ثانية من دون أن أعرف متى، أو في أي ظرف أو حالة. لكن الوساوس والأسئلة أخذتني من جديد لما عادت سعاد وصديقاتها يتّصلن بي ليسألنني عنها: ماذا لو أصابها مكروه في الحرب، أو راحت تحت القصف وبقيت مجهولة الهوية؟ ترى أيمكن أن تكون قد ذهبت الى قريتها في الجنوب قبل بدء الحرب، و"علقت" هناك وقُتلت؟ فأخبار المعارك تقول إن قريتها دُمّرت بالكامل؟ وماذا لو قتلها سليم زوجها وأخفاها بعدما عرف بقصة علاقتها بهاني، وبذهابها الى باريس لمواعدته هناك؟ أو ماذا لو أنها هربت مع هاني، وتريد أن تُخَتْير معه، كما قالت له مراراً، وهي تضحك؟
ثم راحت أفكاري الشريرة تغزل في رأسي، وسألت نفسي هل يمكن أن تكون سعاد قد شاركت في قتلها، ولديها الآن إحساس بالذنب على فعلتها؟ سرحت هذه الفكرة الشريرة في رأسي، لما تذكرت أن نهلا قالت لي يوماً، وهي تضحك، إنها تشعر بأن سعاد تغار عليها من هاني ومن زوجها أكثر مما تغار على زوجها سليمان. وحين كانت تتلقى مخابرة حميمة من هاني، وتروح تنفرد في غرفتها لحالها لتحكي معه، كانت تشعر بغيرتها، ولا تعرف إن كانت غيرة منها، أم عليها.
لم يكن أمامي سوى البدء بالكتابة، لأتأكد من جميع هذه الأسئلة، ولأستهدي على حياتها ومصيرها، لكني طمأنت حالي الى أنها لن تختفي طويلاً. المهم ألا تكون قد قضت في الحرب.
كانت نهلا قد اتصلت بي قبل سفرها الى باريس، ولقائها بهاني هناك، وسألتني متى أنتهي من كتابة الرواية. لم أفهم إذا ما كان سبب توترها هو السفر، أم شيء آخر. جُمَلُها لم تكن كاملة. خربطَت بإسمي أكثر من مرة وهي تناديني، ثم اختفت بعد ذلك ولم تتصل بي.
قبل أن أبدأ بكتابة القليل الذي رَوَته لي لأستهدي على حياتها ومصيرها، تذكّرت آخر ما قالته لي في لقائنا الأخير: عندما نكتب عن الآخر، نمسك بسلطة حياته، كأن الكاتب يحدّد تاريخ مولده ونهايته.
لو أستطيع أن أبدأ.
هل أبدأ كيف استعادت علاقتها بهاني أول مرة بعد زواجها، أم كيف استعادته أكثر من مرة، قبل أن تستردّه في منتصف خمسينات عمرها؟ أم أبدأ بالكلام على طفولتها وطفولة صديقاتها سعاد ونادين وعزيزة وأخيها جواد؟ أم أحكي سيرة جسدها في الحب والأمومة في كل أعمارها؟ أم أبدأ من مصيرها و مصير صديقاتها؟
لا أريد أن أطاوع لعبة البدايات.
البدايات يمكن أن تكون من المكان الذي نقرّرها فيه. قد يكون ما نفترضه بداية نصف الطريق، أو قبل أن تنتهي بقليل، لأن الكتابة ليست كالحكي. في الكلام طاوعت نهلا متعة الحكي، وفي الكتابة أبداً حيث تطاوعني التكابة، وهي التي توصلنا الى البدايات، وهي التي تجعلنا نستهدي أين نجدها، وأني تنتهي إن أرادت ان تنتهي. في الحكي نستطيع أن نمسك الخيط من أوّله في الكتابة، لآن الكلام عندها سيكون محكوماً بالمحو حتماً، وبالخوف من النسيان الذي كان يُرعب نهلا. نهلا التي لفتني، منذ اللحظة الأولى للقائي بها، إحساسها الكثيف بجسدها. شعرت بذلك في مشيتها وحركة جسمها وجلستها وطريقة كلامها، وهي تحكي لي حكايتها.
أول ما حدّثتني عنه نهلا هو النسيان.
قالت لي مباشرة يوم التقيت بها، وهي تميل برأسها وحركة عينيها، إنها نهضت صباحاً من السرير وقفزت في اتجاه الحمّام. راحت وهي واقفة مغمضة العينين تحت الدوش، تتذكّر منامها في الليل، تفرك شعرها المبلّل بالماء والشامبو بقوة، كما لو أنها تحثّ دماغها على التذكّر، لكن عبثاً. يداها كأنهما لا تحيطان إلا بجمجمة عظمية في داخلها ما يشبه غيمة بيضاء وقع منامها فيها وتاه عنها. فتحت عينيها فحسبت أن البخار الذي يملأ الحمام بدا مثل ضوء صباحي مشرق وناصع قياساً الى لون الضباب الكثيف الذي يغبّش ذاكرتها.
ـ لست أدري لماذا أنسى كثيراً، ولم تعد ذاكرتي تفور بالحياة كما جسدي. أنا الآن في هذا العمر، أشعر بأن الواحد منّا يدخل هذه الدنيا بذاكرة بيضاء، ويخرج منها كذلك مثلما يدخلها على الأكفّ، ويخرج محمولاً عليها أيضاً. يدع ذاكرته في الدنيا ويرحل بدونها. ومحظوظ إذا ما أودعها بين يدي كاتب ليحفظها، حتى لا تنزوي وتضمحلّ، وتلقى مصير جسده وعظامه.
وماذا عنك؟ هل بدأت تنسين أيضاً؟
هززت لها رأسي وابتسمت ابتسامة ساخرة تؤكد لها أنني للأسف صرت مثلها أنسى. أخذت مجّة عميقة من سيجارتها، ثم سألتني وهي ترفع طرف غرّتها الملتصقة شعيراتها بجبينها لكثرة تعرّقها:
ـ ألا يُخيفك الأمر، خصوصاً أنك كاتبة؟ وكيف ستكتبين إذا بدأت الذاكرة تخونك؟
سألتني ذلك، وكلها خوف أن أنسى ما سترويه لي من حكايتها، وما تستطيع أن تتذكّره. طلبت مني أن أكتب قصّتها وحكاية عشقها الأبدي لهاني، وعن المفاجآت التي يحملها الزمن مع التقدّم في العمر، الزمن الذي قالت عنه إن له رائحة كالمكان تماماً. تشتمّه في رائحة الشيخوخة المخمّرة، وفي رائحة أحفادها الطازجة والشهية، وفي جميع الأجساد والأشياء. وكانت تقطع حديثها بين الحين والآخر لسؤالها لي، بعد تنهيدة عميقة تطلقها:
ـ هل ينتهي الحب حين تنتهي الحكاية؟
سألتني أشياء كثيرة يوم دعتني أول مرة الى شرب القهوة في منزلها. يومها تفاجأت بدعوتها لأن معرفتي بها كانت عابرة. لم أتردّد في زيارتها، كانت رغبتها في لقائي شديدة الإلحاح في صوتها الدافئ الذي تجرحه بحّة رفيعة وحنونة جداً. حين سألتها لماذا لا تكتب هي حكايتها، ارتبكَت قليلاً قبل أن يتوه صوتها ويضيع في الكلمات التي تبحث عنها. قالت إنها لا تستطيع أن تكتب قصة حبّها لهاني لأنها متزوّجة. وقالت إن للنساء أسراراً لا يستطعن البوح بها بصراحة.
ثم قالت إنها شاعرة وليست روائية، وإنها كتبت بعض المذكّرات أيام طفولتها أخفتها مع قصائدها تحت التراب في حديقة منزل أهلها وهي طفلة.
وأخبرتني أن ثمة بعض القصاصات والاعترافات، لكني لم أفهم ما إذا كانت قد كتبتها وأخفتها مع سعاد، أم أن صديقتها هي التي كتبتها. لكن بعد تردّد وصمت، قالت لي إنها تحلم بأن يروي حكايتها أحد غيرها لتكتشف حياتها من جديد. وكانت تلمع عيناها وتستعيد إشراقها حين تحكي عن جسدها، وكيف تكتشفه في منتصف العمر مثلما اكتشفته في جميع أعماره. وهو الآن ملكها كما كان دائماً، وليس ملك الخوف الذي حاربته وعزلته عنه طوال حياتها.
لا أدري لماذا حكَت كثيراً عن النسيان. بعدما شبّهته بالبياض، عادت وسألتني: لماذا يظلون البياض ويشبّهونه بالنسيان؟ كيف يمكن أن يكون مؤشراً الى الموت، والثلج الشهي أكثر ما أحبّ أن أقرشه تحت أسناني؟ أشعر حينها بمتعة لا توصف. الثلج الذي يُنعش الروح ويطفئ النيران أبيض. ضوء الفجر، أول خيط من خيوطه أيضاً أبيض. رائحة الصابون بيضاء. لماذا لا يتحدّثون عن سواد الذاكرة، وشريط كاميرا أسود محترق؟ لماذا لا يُقال سواد الذاكرة أو أي لون آخر؟ لم يكرّر الناس ما يقوله الآخرون؟
وأكثر ما صرتُ أنساه هو الأسماء. أفعل ذلك مثلما كانت تفعل أمي، قالت لي.
حين كانت في منتصف العمر، وكانت نهلا لا تزال طفلة، لم تكن تفهم لماذا كلّما نادتها تتوالى على لسانها أسماء خالاتها، حتى تعثر على اسمها ويستهدي لسانها إليه. كان الأمر يُثير استغرابها. يجعلها تشعر بأنها لو كانت تحبّها لما نسيت اسمها كما لو أنها غريبة عنها. وأمس، خُيّل إليها، وهي واقفة أمام المرآة عارية، أنها ترى أمها في جسدها، وأنها تكتشفها فيه في هذا العمر.
لا شيء يقاوم الشيخوخة غير الحب، على رأي هاني، قالت وهي تبتسم. ثم خفَتَ صوتها وشابه بعض الحزن لما أضافت: بسّ، الحب بدّه صحة وبدّه جسم. والجسم إلو وقت للأسف. جهاز غامض بأسراره، وما منعرف أيمتى بتوقف ساعتُه.
سأروي لك هذا الحب كله، فهاني هو دنياي وغرامي، واليوم الذي لا أراه في منامي أمرض. لكن لا تغيّري شيئاً في كتابة القصة، فأنتم الكتّاب تكذبون ويتدخّل خيالكم في الحكاية. وأعرف أنك غيّرت مصير "دنيا" في رواية "دنيا". لا، أنا أريد قصتي كما هي. وصدّقيني حين تكتبين حكايتي ستروين ما هو حقيقي وليس ما هو روائي، ليعيش غرامنا أبداً في الحكاية، قالت.
وقبل أن تبدأ بالحكاية، أضافت أن أشياء كثيرة سيقرأها هاني، فثمة كلام كثير لم أقله له بعد.
-------------------------------------------------------------------------------
 فصل من رواية "إسْمُه الغرام" الصادرة عن دار الآداب، للكاتبة اللبنانية علوية صبح





التعليق بقلم نوارة الأحرش