سرديات عودة
مقطع من رواية " أرخبيل الباشاوات" للكاتب الجزائري عبد العزيز غرمول (الجمعة 15 آذار 2013)
في نهاية القرن الخامس عشر جرت قصة عجيبة في شمال افريقية، كان من المفروض أن تكتب في حينها، أو ربما بعد قليل. لكن لم يبادر أحد إلى تسجيلها ولو من أجل الحفاظ فقط على هذه الأعجوبة كما ولدت من رحم القرون الوسطى، ليس لتأثيث ذاكرة التاريخ الشفوي في هذه المنطقة التي لا تنقصها في الحقيقة القصص العجيبة، بل لعلها كلها عبارة عن مجرد قصة عجيبة، وإنما للتأريخ على الأقل لميلاد أول جمهورية في التاريخ من رحم أكذوبة.
لقد مرت أزمنة وأجيال وقصص أخرى أكثر أو أقل عجبا كتبت أو نسيت كيفما اتفق..
لكن تلك القصة العجيبة ظلت تتناقلها الشفاه عبر أزمنة وأجيال غارقة في القدم، دون أن يكلف أحد نفسه عناء كتابتها... والعجيب في هذه القصة أنها بقيت تتشبث بذاكرة الأجيال جيلا بعد جيل، وكل جيل يأتي ينفض بعض الغبار العالق بتلابيبها ويجدد بعض تفاصيلها، ثم يبعث بها إلى الحياة من جديد.
وعلى مدى خمسمائة سنة ظلت ذاكرة إفريقيا الشمالية، هكذا بصيغة الجمع، تحتفظ بها في مكان بارز فيها، كلما حاولت قصة أخرى أن تنال من حظوتها في الذاكرة، كلما استعادت قصتنا هذه روحها وتجددت وخرجت على الناس بثوب جديد...
لنعترف أن القرن الخامس عشر تميز في هذه الجهة من الأرض بوقائع وقصص وأحداث تتنافس في صناعة الغرابة والعجب حولها إلى حد أن أحد المؤرخين، والذي عاش ذاكرته بامتياز في القرن العشرين، عدد بضعة وعشرون واقعة عجيبة لكنه استثنى هذه القصة، ربما لمجرد أنها لا تتفق مع نزعته الدينية الراقية، وأنا شخصيا أفهم فيه ذلك... فمن يصدق يا ترى ولادة طفل من بطن بغلة؟.
يا للعجب ذلك ما حدث.. والأعجب في القصة أن ابن البغلة ذاك أصبح شخصية مهمة، بل كان له دور في تأسيس أول دولة في ذلك الشمال الإفريقي الموزع دمه بين القبائل والحروب والخرافات التي لا تصدق...
لقد أتيح لي سماع هذه القصة العجيبة بضعة مرات في حياتي، وكنت مثل جميع من يسمعها أفتح فمي دهشة، واستغرب وقائعها التي تتجدد في كل مرة أسمعها، لكنني ظللت مثل عشرات الأجيال التي مرت عليها لا أفكر في كتابتها ولو لمجرد صون الذاكرة، فمهما يكن سيظل كل جيل يعيد اختراعها كيفما يحلو له، وربما بعد أجيال عديدة أخرى سنجد أن القصة ازدادت عجبا لكنها ليست هي تلك القصة أبدا التي روتها الأجيال الأولى... ويمكنني القول اليوم وأنا أسمعها للمرة الأخيرة من مداحة في سوق القصبة السفلى، وبما أننا بدأنا نستيقظ على فداحة تاريخنا المنسي، أعترف أنها هي التي أججت فيّ رغبة تقصيها في أعماق التاريخ، خاصة وأنها أضافت لها عجيبة أخرى أشبه بالحقيقة وهي أن القصة مدونة منذ أقدم العصور وأنها مخبوءة كبعض أسرار الدولة القديمة في أرشيف الدار الحمراء حيث لا يخرج التاريخ أبدا من غباره إلا عندما يموت صانعوه ويبردون في موتهم.
لكن ابن البغلة هذا، وصاحب العجائب والأمجاد، لم يبرد طيلة خمسمائة سنة في موته، ربما، كي تتاح الفرصة أخيرا لنفض الغبار عن قصته أو في الحقيقة عن أعجوبته التي سارت بها ليالي الحكايات الفاتنة...
كان في عصره، قبل أفول عصره بقليل، قد أصبح ينادى باسمه الممجد: الباشا... رغم أنه لم يعين بفرمان من الباب العالي، من سيد الإمبراطورية العثمانية الآفلة بدورها في ذلك الوقت.. ولم يزدن صدره بالنياشين والأوسمة، ولم يستول على اللقب بحد السيف كما فعل ستة عشر باشا أعقبوه فيما بعد في التاريخ.. بل أن المؤرخين في ذلك العصر أنفوا حتى من ذكر اسمه في قائمة الباشاوات.. لكنه كان بتاريخه والسلطات التي حازها بذكائه ودهائه فقط، باشا لا ينازعه على رتبته ولا امتيازاته أحد... رغم أنه بقي بالنسبة للعامة التي أسبغت عليه هذا اللقب دائما ابن البغلة.. الباشا ابن البغلة!؟.
التعليق
في نهاية القرن الخامس عشر جرت قصة عجيبة في شمال افريقية، كان من المفروض أن تكتب في حينها، أو ربما بعد قليل. لكن لم يبادر أحد إلى تسجيلها ولو من أجل الحفاظ فقط على هذه الأعجوبة كما ولدت من رحم القرون الوسطى، ليس لتأثيث ذاكرة التاريخ الشفوي في هذه المنطقة التي لا تنقصها في الحقيقة القصص العجيبة، بل لعلها كلها عبارة عن مجرد قصة عجيبة، وإنما للتأريخ على الأقل لميلاد أول جمهورية في التاريخ من رحم أكذوبة.
لقد مرت أزمنة وأجيال وقصص أخرى أكثر أو أقل عجبا كتبت أو نسيت كيفما اتفق..
لكن تلك القصة العجيبة ظلت تتناقلها الشفاه عبر أزمنة وأجيال غارقة في القدم، دون أن يكلف أحد نفسه عناء كتابتها... والعجيب في هذه القصة أنها بقيت تتشبث بذاكرة الأجيال جيلا بعد جيل، وكل جيل يأتي ينفض بعض الغبار العالق بتلابيبها ويجدد بعض تفاصيلها، ثم يبعث بها إلى الحياة من جديد.
وعلى مدى خمسمائة سنة ظلت ذاكرة إفريقيا الشمالية، هكذا بصيغة الجمع، تحتفظ بها في مكان بارز فيها، كلما حاولت قصة أخرى أن تنال من حظوتها في الذاكرة، كلما استعادت قصتنا هذه روحها وتجددت وخرجت على الناس بثوب جديد...
لنعترف أن القرن الخامس عشر تميز في هذه الجهة من الأرض بوقائع وقصص وأحداث تتنافس في صناعة الغرابة والعجب حولها إلى حد أن أحد المؤرخين، والذي عاش ذاكرته بامتياز في القرن العشرين، عدد بضعة وعشرون واقعة عجيبة لكنه استثنى هذه القصة، ربما لمجرد أنها لا تتفق مع نزعته الدينية الراقية، وأنا شخصيا أفهم فيه ذلك... فمن يصدق يا ترى ولادة طفل من بطن بغلة؟.
يا للعجب ذلك ما حدث.. والأعجب في القصة أن ابن البغلة ذاك أصبح شخصية مهمة، بل كان له دور في تأسيس أول دولة في ذلك الشمال الإفريقي الموزع دمه بين القبائل والحروب والخرافات التي لا تصدق...
لقد أتيح لي سماع هذه القصة العجيبة بضعة مرات في حياتي، وكنت مثل جميع من يسمعها أفتح فمي دهشة، واستغرب وقائعها التي تتجدد في كل مرة أسمعها، لكنني ظللت مثل عشرات الأجيال التي مرت عليها لا أفكر في كتابتها ولو لمجرد صون الذاكرة، فمهما يكن سيظل كل جيل يعيد اختراعها كيفما يحلو له، وربما بعد أجيال عديدة أخرى سنجد أن القصة ازدادت عجبا لكنها ليست هي تلك القصة أبدا التي روتها الأجيال الأولى... ويمكنني القول اليوم وأنا أسمعها للمرة الأخيرة من مداحة في سوق القصبة السفلى، وبما أننا بدأنا نستيقظ على فداحة تاريخنا المنسي، أعترف أنها هي التي أججت فيّ رغبة تقصيها في أعماق التاريخ، خاصة وأنها أضافت لها عجيبة أخرى أشبه بالحقيقة وهي أن القصة مدونة منذ أقدم العصور وأنها مخبوءة كبعض أسرار الدولة القديمة في أرشيف الدار الحمراء حيث لا يخرج التاريخ أبدا من غباره إلا عندما يموت صانعوه ويبردون في موتهم.
لكن ابن البغلة هذا، وصاحب العجائب والأمجاد، لم يبرد طيلة خمسمائة سنة في موته، ربما، كي تتاح الفرصة أخيرا لنفض الغبار عن قصته أو في الحقيقة عن أعجوبته التي سارت بها ليالي الحكايات الفاتنة...
كان في عصره، قبل أفول عصره بقليل، قد أصبح ينادى باسمه الممجد: الباشا... رغم أنه لم يعين بفرمان من الباب العالي، من سيد الإمبراطورية العثمانية الآفلة بدورها في ذلك الوقت.. ولم يزدن صدره بالنياشين والأوسمة، ولم يستول على اللقب بحد السيف كما فعل ستة عشر باشا أعقبوه فيما بعد في التاريخ.. بل أن المؤرخين في ذلك العصر أنفوا حتى من ذكر اسمه في قائمة الباشاوات.. لكنه كان بتاريخه والسلطات التي حازها بذكائه ودهائه فقط، باشا لا ينازعه على رتبته ولا امتيازاته أحد... رغم أنه بقي بالنسبة للعامة التي أسبغت عليه هذا اللقب دائما ابن البغلة.. الباشا ابن البغلة!؟.
التعليق