سرديات عودة
القراقوز... للكاتبة الجزائرية فاطمة ابريهوم (الخميس 7 آذار 2013)
التعليق
في قرارة نفسي لم تكن بي رغبة إلى مشاهدة التلفزيون، إنما كانت حلقة المسلسل اليومي نافذتي الوحيدة لإثبات أنى شخص له وجوده وقراراته في هذا البيت بعد موجة الغضب التي أعلنت بها سخطي.
وهو الفسحة الوحيدة لأركن إلى بعض الهدوء الذي أفتقده منذ سنوات من الجري الذي قسمني بين متطلبات البيت والتدريس والدروس الخصوصية والذهاب لتفقد أمي وحماتي والمراجعة للأولاد، فحتى بنتي الكبرى والتي كنت، أعتمد عليها في أشياء كثيرة .ترفض أن تساعدني بحجة الدراسة والتعب وبأنها لم تقل لي: افعلي كل هذا.
داخلي أعرف أن الحق معها، إنما رفضت أن تقول لي هذا هي من أنجبت وكبرت.فأحتاج إلى أي شيء يسندني ولو وهما.
ليس فجأة أن تأخذ حياتي هذا الطريق فمن سنين وأنا مربوطة إلى وتد الواجبات والالتزامات التي دخلتها بحكم أني المرأة والزوجة الخارقة والهادئة هكذا غرست في أمي :إنه عيب رفض مساعدة الآخرين. إنه من غير الأخلاق أن تقولي في وجهي تعبت؟كيف تعلنين كلمة لا ولا تستحين؟
كانت هذه النغمات كل يوم تدخلني بئر الإمحاء وإرضاء الجميع على حسابي.
(يقول البطل لزوجته :إني تعبت من هذه الحياة التي لم أعد أعرفك فيها وتقول هي: لا حل لدي) مع أنها تحدث نفسها بتغيير حياتها، إنما لم تعرف كيف تعلن ذلك مع أنها تحسه فأي هوة تبعد ما يعيش داخلنا عن رباط الكلام؟
أعرف أن زوجي أجبن من أن تكون في حياته أخرى، أوهو لا يملك كل المقومات لاجتذاب امرأة من مال، أو وسامة ... لذلك لا أغار عليه.أم لأني أتعب منه هو الأول وهو يؤدى واجبه الزوجي بكل تلك الصعوبات التي لم أكشفها إلا وأنا أسمع حديث الزميلات اللاتي يضاجعن يوميا فلمن أقول؟
أمي لم يهمها غير أنى لا ينقصني شيئا؟ وكان ينقصني كل شيء.انتهت الحلقة، ولم أنتبه إلا وصغيري يطلب أن أحضر له الحليب صرخت: حضره بنفسك؟
كنت ناقمة عليهم جميعا بل كرهت كل من يحيطون بي.سمعت أباهم يقول: اتركوها وحدها حتى تستريح.
تمنيت أن يحضنني مرة.ويقول لي دون كلام أنه يفهم ما بي.لكنه يعاملني دائما كصديقه .لا يسأل عن تعبي لا يرى أني سئمت؟
بل يفتخر دائما أنه تزوج من المرأة القوية التي يرمي عليها بكل شيء،حتى مصروف البيت ترك لي حرية تسييره ليس ثقة بي ولكن ليريح نفسه من أي تعب.
فما الذي أيقظ هذا فجأة؟
( الطبيعة بعد التكميم كل هذا الوقت لا تقدر على بلع العهر الذي مارسته عليها)إنه كلام الكاتبة وهو كبير علي.
فكم سنة وأنا البطلة التي يحسد الجميع مواقفها ونشاطها. ونجاحها. وصبرها...
كم سنة وأنتظر أن يفهموا.أن يحسوا بتعبي لأجد أن لا أحد يرى غيره.الكل مشغول بما يؤذيه .ويسعده وأنا القاراقوز الوحيد الذي يلعب كل الأدوار دون تعب أو رفض لأريح الجميع على حساب أعصابي، وصحتي وحدودي وحريتي!
إيه حريتي ..
لم أعرف هذا المعنى ولا كنهنه، فالأشخاص في خلدي أحرار ماداموا يعيشون في وطن حر. درست ذلك في الكتب المقررة، فا لبلاد تحررت من الاستعمار منذ زمن والناس يعيشون دون أن يتحكم فيهم الأجانب وأنا مثال حي على ذلك لقد تعلمت وواصلت حتى الثانوي لأكمل تكويني من أجل العمل الذي أفرح براتبه إذ أسلمه لوالدي .الآن أفهم أني لم أحس بطعمه مرة.لم أكن أفهم زميلاتي وهن يذهبن إلى المطاعم.والمغازات لابتياع ما يشتهين .كنت أرى ذلك قلة أدب منهن وأنانية لا يقدرن تعب أوليائهن .وهن يسمينه حرية.
بعد زواجي صرت أقسمه نصفين واحد لأبي والأخر لبيتي.
فماهي الحرية؟
أهي تلك اللحظات الضئيلة تدعوني إلى ترك هذا والاهتمام بنفسي قليلا.
أم هي ما فكرت من سنين بترك العمل .والدخول في حياة أخرى تسكنني:البقاء في البيت فكم أحلم بانتظار زوجي وأولادي. ولم أفعل لأني عاجزة عن إختيار البدء في طريق لاأعرفه، فأنا لم أختر يوما حتى ملابسي التي ضحكت منها زميلاتي في الثانوي وقلن لي :لم تلبسين كالسيدات؟ فأنت صغيرة. كان ذلك ما يبتاع لي أبي من تنورات طويلة وبزاة عريضة تقول أمي تستتر البنت .
إيه حريتي ...
هل عرفتها إلا في هذه اللحظة التي أقبع فيها أمام التلفزيون أفكر في كل ما مر وأرفض الحديث وتجهيز العشاء، والاهتمام بأي شيء؟ إنها أول لحظة في حياتي أتمرد فيها على أي التزام، وأختار أن أبقى هنا، وزوجي وأولادي ينظرون إلي كمن أصابه المس بل إن زوجي قال :إنه سيبحث لي عن مرق؟
ليس الجن ما يسكنني؟ بل هذه المرارة التي أحسها تسد حلقي وتظهر في صراخي المظهر الوحيد الذي عبرت به عن رفضي والذي استغربه الجميع مني أنا الهادئة الرزينة .المؤدبة..
لم أشعر يوما بالانفصال عن حياة الآخرين وبأني أريد أن أكون وحدي ولي..
استمرت برامج التلفزيون دون انتباه مني عدا تركيز نظري جهتها. لأني أشاهد حياتي أقصد ما مر من عمري، فلم أعرف يوما ماهي الحياة .ولم أفكر في هذا إلا من أيام وأنا مفزوعة من أثر كابوسي الذي تجاهلته منذ سنين لم أعد أعرف أن أعدها تفوق عمر ابني الصغير الذي جاوز الحادية عشر من عمره :كانت نفس السيارة الصدئة تحدجني بعينيها وتتتبعني إلى كل مكان أهرب إليه منها .وأنا أختفي وراء جدار مرة ووراء عمود كهرباء أخرى وهي تعرفني كأنها تستشعر فزعي تجدني أينما اختفيت.
ليلتها كانت مطاردتها أشرس من كل مرة فكم تمنيت لو أحس زوجي بهذا وهو يوقظني أني كنت أصرخ؟
كان كتلة بجانبي لم أعرفها أهي من لحم أم من عجين أم من حديد؟
نهضت إلى المطبخ المكان الوحيد الذي أحس فيه أني موجودة وأني صاحبة القرار في مصائر من حولي فأقدر أن أبقيهم جوعا أو أن أحضر لهم طعاما لذيذا أو مالحا.أو قليلا أو كثيرا.كنت أعرف فيه:كل زاوية،كل إناء أو فنجان أذكره ولا أنسى ألوانه وزخرفته ولو مرت عليه سنين إنهم أصدقائي الوحيدون .فكم حدثتهم عن أحلامي (وأنا زوجة جديدة، ووحيدة ) بأن يكون لي أولاد أربيهم بعكس ما ربيت أنا وأحقق لهم ما لم أستطع فعله يوما، وبأني سأغسلهم وأحضر كل الحلويات في صينية قهوتي .عندما أضع حملي وأفتخر باختياري للألوان أمام قريباتي وقريبات زوجي .
نظرت إلى الطاولة :كم سنة وأنا أجلس إليها أو عليها تشهد على سخطي اليومي وأنا أستيقظ منذ مدة من أمام زوج لا يفكر في حاجتي المعنوية والجسدية إليه حتى نسيت أنه يربطنا هذا العناق الذي تحن إليه روحي برغم تقدمي في السن الذي بكلام زوجي لابد أن يفرض علينا الحذر والحيطة اللذان عشنا فيهما طوال عشرين سنة ومن أول يوم.
أمسكت رأسي بين يدي فشعرت بالعصفور الفزع المسجون داخل صدري الذي لم يجد من يربت عليه يوما؟ ولم ينتظر ذلك أصلا. فقد شاخ ونسي أن يحلق في الهواء ولعه لم يعد يعرف كيف يجتاز قضبان الالتزام والعيب.
عندما أشعل زوجي مصباح (الصالة) عدت إلى مكاني صامتة.ومنذ متى تكلمت معه في غير من نزور، ومرض الأطفال وغيره من الكلمات التي أخترعها لأشعر بأن هناك ما يجمعنا.
إنما من يومها لم أعد أفوت شيئا أو تعليقا صراخا يسلخ حلقي لأقول: إني هنا أحسوا بهذا الذي يثقل إحساسي.
عندما ذهبت إلى الطبيب قال :إنها سنون العمل والعمر فطبيعي وأنت تدخلين إلى بدايات سن اليأس أن يحدث هذا فأدهشه أن أقول: إن سن اليأس هذا على مايبدو يحرر المرأة من لعنات كثيرة؟
وراح بلغة طبيب يعتقد أنه الوحيد الملم بالحقيقة يسرد على مسامعي محاضرة عن أنه مرحلة طبيعية وعابرة وأن النساء العاملات أكثر حظا في اجتيازه... وكلاما آخر لم أعد اسمعه.
ولم أشرب الدواء الذي قال سيساعدني على استعادة توازني.فمن قال: إن ماأعيش الآن ليس التوازن الوحيد الذي أعيش بعد عمري الممزق ألف قطعة وقطعة على طول السنوات التي تحول فيها تنفسي إلى لهاث لا يتوقف وأنا سعيدة بكل الإطراءات التي تمتدح بشاشتي ونشاطي في المطبخ إذا ما جاءني الضيوف الذين كنت أدللهم على حساب عملي وأولادي الذين لا أعرف للآن إلا ما يحتاجون من لبس ومأكل فأصدم عندما يكلمونني ولا أجد بما أرد غير تحذرهم من التفوه بحماقات ماهي في الحقيقة إلا أفكارهم وأحاسيسهم .لم أنتبه متى كبروا لدرجة ينتقدونني وكل حياتي ويقارنوني بأمهات أصدقائهم اللاتي يبقين مع أولادهن ويحدثنهم .
مازلت أحملق بعيون غير مركزة إلى التلفزيون اكتشفت ذلك لما سمعتني أقول: إني أجد معهم الحق.
فرفضهم الفطري لأن تكون أمهم مشاعا اجتماعيا والذي أوصلوه سخطا من حياتهم هو شارة الخطر التي جعلتني أفطن إلى أني لم أنجح في شيء طوال هذا الماراتون الذي قطعت على طريق العشرين سنة التي تسربت مني.
غير أن مابي من كرامة مجروحة دهستها الأوامر والأخلاق التي أفرغت في رأسي، ومن رفض للحقيقة بغير قناع الزيف الذي يغرس في كلامنا وما يجب أن نقول للآخرين جعلاني أدخل معهم في حالة هستيرية من الصراخ: إن جريي الذي لا يعجبهم هو الذي يوفر لهم المستوى الذي يعيشون فيه .
لما تقدم الصغير إلى حضني صددته بكل القسوة التي تفاجأت من أين جاءتني لأقول :إنه سيكبر ليفعل ما فعل إخوته!
أخيرا انتبه زوجي إلى أني بقيت طويلا أمام التلفزيون لكنه لم يزد على أن قال: هيا لتنامي؟ إنك تبدئين العمل باكرا؟
لم أرد، فأطفأ المصباح ورجع لينهمر طوفان دموع لم أبكها ما عشت إلا يوم توفي والدي، دموع كانت تجرف قشرة القوة والسيطرة التي ظلت تغطي ما أعيش من حذر وخوف من يومها وأنا أحسني عارية والرجل الذي حدد لي كل حياتي راح. كنت أعيش ما قال وما فعل وما قرر .. ما رآه صحيحا، وصوابا، وأخلاقا.
ولم أجد في غيره كل هذا ..لم أحاول الاقتراب من زوجي لأنه لم يكن يوما ذاك النوع الذي يفرض سلطته،بل قد احتمى في ظل ما أظهرت من حزم وسيطرة .
كنا أبدا خيالا يحضن خيالا:لا هو يملك القيادية التي ظلت طريقها عني ولا أنا أعطيت الحب الذي يهب الثقة التي يحتاجها؟
وهو يطفئ المصباح يصر على أن يمشي كل واحد في اتجاه، يبتعد ونحن نزعم أن الزمن صهرما بيننا من اختلافات وابتلع كل بؤر الضغط التي لم أعد أخجل من الصراخ أناءها إذا أحسستها تسقط صبري على تقبل فجيعتي الأولى فيه التي ظلت حفرة تطلب طعامها من الاهتمام والقوة والحب الذي لم أفهم ما يكون؟
لأضحك مما يقول الآخرون عنه ..فكم وجدتهم صغارا وغير واقعيين إذ يتحدثون عن الحب كأبطال المسلسلات.
فهل الذي أعيش هو واقعي.هل هو الحقيقة التي تسكن أعماقي التي ما إن تلاشت قشرة الخوف كممتني عمرا حتى تبدلت الدنيا في عيني.فارفض أن أقضي نهاري في التنظيف.وأتحجج لأي سبب بسيط لعدم الذهاب إلى أمي التي تذكرني بفجيعتي
فكلما وصلت بكت هوانها .وذلها في غياب والدي «فحتى أنت شغلك أولادك عن الاهتمام بي كما قبل «
يزعجني بكاؤها ونحيبها إنها الأخرى لا تقدر أن تعيش دونه ربما تعطيها الحياة قوة الانتباه لكونها خرقة إنسانية لم تعد إلا تزدرد الحب والعطف بأنانية طفل لايرى في العالم إلا صورته.
لا أحب أن أنتهي مثلها، لا أحب أن يعيقني الخوف أكثر مما سمم إحساسي وروحي وأغرقني في أداء أدوار بلا طعم.بلا إحساس.بلا بهجة تدق الآن قشرة التجاهل لتخرجني إلى الوجود والنور.
إنها عاصفة تكنس داخلي..تعيد تشكيل عوالمي.تقلع أحاسيسي، تنضو الغبار عن أخرى..أتألم إذ أني لا أعرف كيف أكونها؟
تلك الحقيقية التي لم أسألها يوما ما تريد،وهل ترضى بحياة كالتي سارت فيها وأدت أدوارها بلا مذاق الامتلاء فحتى أمومتها لم تعشها كما حلمت انسياب عاطفة هلامية،حب لا محدود،يبدو أن الطفل المولود عن حب يختلف في قسمات روحه وتكوينه عن طفل تنجبه الطبيعة!
ألذلك لم يكن أطفالي هادئين؟ ألذلك ينقصهم الاستقرار الذي يشع في عيون أطفال الحب؟
أم هي حفرة الحرمان التي ابتلعت تراب فجيعتها من يصور لي مالم أعشه بهذا الجمال؟فلم أضم يوما أطفالي كما كانت تهفو نفسي.
لقد أنجبتهم تباعا خوفا من الوقت وتحايلا عليه فقد قالت أمي:هكذا لا تحسين بالتعب بتربيتهم مع بعض!فالأم مادامت تتعب فلتفعل ذلك دفعة.والنتيجة أني أجهدتني بالاهتمام بالثلاثة الأوائل.
ولم أمنح واحدا ما يستحق.والآن أغمر الصغير بكل ما حرمه إخوته!
أي اختلال يضرب إحساسي بجناحيه ذات الشمال وذات اليمين فلا يعرف أن يطير بتناغم الانسجام .
فهل عرفت يوما أن أعيش بما داخلي؟ وهل استطعت يوما الحياة بحدود تعبي
وخوفي؟ لم أملك يوما إلا أن أجتاز حقيقتي..وأحتمي بما هو موجود رصد عيني تثق فيه، وتخاف كم تخاف أن تختار غيره.
أم أنا فعلا التي نظمت كل شيء في حياتها بالمسطرة والفرجار وفرضت ذلك
على أطفالها الذين لم تمنح لهم فرصة الاختيار والخطأ كما حرمتهما.
ورفضت أن يكونوا هم.فحاولت أن تجعل منهم نسخة منها لتحمي نفسها من فجيعة مواجهة حقيقة هشاشتها وبؤسها وخطئها!
(أرى الكاتبة الآن تريد أن تأخذني إلى شاطئ حل حقيقي وجذري يفرض علي تحمل تبعات كل هذا.إنما أراني أستطيب هذه الصورة التي لن يستغربها أحد فأنا أضعف من الاختيار).
-------------------------------------------------------------
القراقوز، قصة بقلم القاصة والكاتبة الجزائرية فاطمة ابريهوم
التعليق